
قاصران في بدلة عرس: صورة عن تزويج الأطفال/ الطفلات في سوريا
انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع مصوَّرٌ من ريف إدلب (سوريا) يُظهر طفلين يرتديان بدلتَي عرس، محمولَين على الأكتاف وسط التهاني والأغاني باعتبارهما “عريسين”. وفي حين تصدَّر المشهد حضور الصبيان في موقع الاحتفال، غابت “العروستان” -الطفلتان على الأرجح- عن الصورة.
مشهدٌ مؤلم يُقدَّم كـ”احتفال”، يُقحم فيه طفلان في عمر اللعب في طقوس يُفترض أنها للبالغين/ات، بينما تُغيّب طفلتان عن الصورة، وربما أيضًا عن أبسط حقوقهن في الطفولة.
لا اختيار لهؤلاء الأطفال، فتيان وفتيات. كأطفال وأطفال كثيرات، هنّ/م فقط موجّهات/ون تحت سلطة الكبار نحو أدوار متوقَّعة لا تليق بأعمارهن/م. واقعٌ يحاكي مفاهيم مغلوطة عن النضج و”الرجولة”، فيسلب الإرادة من القصّر، ويكرّس ثقافة تزويجهن/م، ويصادر حقهن/م الطبيعي في أن يكن/يكونوا: مجرد طفلات وأطفال.
وفي المشهد الذي يبدو فيه الطفلان القاصران وهما يجتهدان للظهور بهيئةٍ “رجولية”، لإرضاء التصور الأبوي، يرسّخ غياب الطفلتين مفهوم إبقاء النساء والفتيات في الظل، كما لو أن وجودهن وخياراتهن وحيواتهن مجرّد تفاصيل هامشية.
هذا الغياب لم يمرّ بلا دلالة، ففي حين يُحتفى بالأطفال كرجالٍ صغار، تُسلب الطفلات حقّهن في الظهور، وتُختصر حياتهن بكونهن “زوجات صغيرات” يُزففن بعيدًا من أي صوت أو خيار.
الفتيات المرغمات على الزواج في عمرٍ مبكر هن الأكثر عرضة للانقطاع عن التعليم وما يرافقه من فقدان فرص التطور الشخصي والاقتصادي، ناهيك عن احتمالات الحمل المبكر وارتفاع احتمالات التعرض للعنف الأسري.
تزويج الأطفال.. بين التبرير والرفض
أثار الفيديو غضبًا على منصات التواصل الاجتماعي.
وبين من اعتبره ممارسة بريئة أو عرفًا اجتماعيًّا، ومن رآه توثيقًا لجريمة مكتملة الأركان هي تزويج الأطفال والطفلات، تتجسد خطورة الأمر في التوجّه المجتمعي في بعض المناطق “المحافظة” في سوريا -ككثير من الدول الناطقة بالعربية- نحو تبرير هذا الانتهاك بذريعة الدين والعرف.
وسواء كان الزواج فعليًّا أو مؤجلاً، فإن هذه الممارسة تشرعن إدخال الطفلات والأطفال وخصوصًا الفتيات في أطر أسرية واجتماعية لا يمتلكن الوعي ولا القدرة لتحمّلها.
View this post on Instagram
قانون يشرعن الاستثناء.. وعقودٌ خارج المحاكم
القانون السوري المعدَّل عام 2019 حدّد سن الزواج بـ18 عامًا، لكنه أبقى ثغرة تسمح بتزويج من بلغ 15 عامًا بقراٍر قضائي وموافقة الولي استنادًا إلى “البلوغ الجسدي”.
هذه الثغرة تحولت في كثير من المناطق إلى قاعدة، وأسقطت الحماية عن آلاف الطفلات والأطفال اللواتي/ الذين يُزوّجن/ون تحت مسميات مختلفة مثل “الزواج المؤجّل” أو “الخطبة الموسعة”، بينما تعقد عقود كثيرة خارج المحاكم ثم تُسوى لاحقًا بطرق ملتوية.
الأثر الأكبر على الطفلات
على الرغم من أن الفيديو يُظهر طفلين يرتديان بدلة العرس في موقع الاحتفال، إلا أن الخطر الحقيقي يقع أيضًا على الطفلات اللواتي يختفين خلف الكاميرا.
الطفلان اللذان رُفِعا على الأكتاف والطفلتان الغائبتان خلف الجدار ليسا سوى صورة عن واقعٍ قاتم: طفولة مسلوبة باسم الزواج، ومجتمع يواصل تطبيع العنف ضد الفتيات باسم العادات والتقاليد.
فالفتيات المرغمات على الزواج في عمرٍ مبكر هن الأكثر عرضة لانقطاع مبكر عن التعليم وما يرافقه من فقدان فرص التطور الشخصي والاقتصادي، كما أنهن يواجهن احتمالات الحمل المبكر بما يحمله من مخاطر صحية قد تصل إلى مضاعفات خطيرة تهدد حيواتهن، إضافة إلى ارتفاع احتمالات التعرض للعنف الأسري والعزلة الاجتماعية نتيجة غياب النضج النفسي والقدرة على التكيف مع أعباء الزواج.
وهو ما يعني عمليًّا سلب حق الطفلات في تقرير مصيرهن وفقدان استقلاليتهن. وتؤكد دراسات متعددة أن تزويج الطفلات يرتبط بارتفاع معدلات الاكتئاب والعنف المنزلي والفقر المتوارث، الأمر الذي يجعل الظاهرة أبعد من مسألة خيار عائلي لتتحول إلى قضية عامة تعيد إنتاج التهميش والتمييز ضد الفتيات والنساء جيلاً بعد جيل.
لا مبرر لتزويج الطفلات والأطفال
المنظمات الدولية المعنية بحقوق الطفلات والأطفال تؤكد أن أي زواج قبل سن 18 يُعدّ تزويج أطفال، وبالتالي انتهاكًا للقانون الدولي. ومن هذا المنطلق، فإن ما يوصف أحيانًا بأنه “ستر” أو “موروث اجتماعي”، هو في جوهره حرمان من الطفولة وإقصاء من الحق في التعليم والحياة الحرة.
وتطالب منظمات حقوقية ونسوية في سوريا بإلغاء الاستثناء القانوني وتجريم كل من يشارك في تزويج الأطفال والطفلات، وتفعيل آليات حماية الطفلات بشكلٍ خاص، إلى جانب توسيع حملات التوعية التي تكشف الأبعاد الصحية والنفسية والاجتماعية لهذه الزيجات، كي لا تتحول مقاطع كهذه إلى مشاهد عابرة على الإنترنت فيما مئات الطفلات يعشن قصصًا مشابهة بعيداً من الكاميرا.
فالطفلان اللذان رُفِعا على الأكتاف والطفلتان الغائبتان خلف الجدار ليسا سوى صورة مكثفة عن واقعٍ قاتم: طفولة مسلوبة باسم الزواج، ومجتمع يواصل تطبيع العنف ضد الفتيات باسم العادات والتقاليد.