
اصطدام أجساد الفلسطينيات مع الحواجز الصهيونية في الضفة الغربية
قبل شهرٍ بالتّمام سافرتُ للمرّةِ الثّالثةِ خارجَ فلسطين، واختبرتُ -مرّةً أخرى- شكلَ الحياةِ دون اصطدامٍ مع الاحتلال الصهيونيّ ونهجه الاستعماريّ الّذي يمارسُه على الفلسطينيّين/ات بشكليه المباشر وغير المباشر.
سلبت الطّريقُ الطّافحةُ بالحواجزِ الصّهيونيّة العسكريّة، الّتي امتدّتْ من بيتي القائم في مدينةِ الخليل حتى منطقة الشّونة في الأردن، من عمري ووقتي تسعَ ساعاتٍ كاملات! هذا الوقتُ الضّائع على الحواجز والمرتَهَنُ لأمزجةِ جنودِ جيشِ الاحتلال الصّهيوني الذين يُنَصّبون على الحواجز للعبثِ في يومِ الفلسطينيّ/ة وسفك وقته/ا على بوابة، ليس وقتًا من العاديّ ضياعه، في حين، لو لم يكنْ هذا الاحتلالُ موجودًا؛ لوصلتُ الأردن برًّا في مدّة تصلُ في أصعبِ الأحوال إلى أربعِ ساعاتٍ.
التنقّل بحُرّيةٍ كاملةٍ رفاهيّةٌ لا أملكُها.. فأين الحاجز؟
في تسعِ ساعاتٍ كاملات صُلِب جسدي المنكمش المحزّم، وأُخضِعَ للإذلال والتّطويع، أمام خمسةِ حواجزَ تسرقُ منا حقنا المشروع في التنقل والسّفر، منهما جسر الاحتلال الصّهيونيّ وجسر الأردن.
ففي رحلة سفر الفلسطينيّ/ة عبر الجسور، لا يغدو هذان الجسران وسيطين للعبور “معبرين”، بل هما امتدادٌ للممارسات الاستعماريّة في إخضاعِ الجسد الفلسطينيّ وتقييد حركته وتنقّله ومحاولة لتطويعه وإضجاره.
في كل مرّة -ولستُ وحدي- حينما أختبرُ التنقّل في الشوارعَ خارج فلسطين، أستغرب وأتساءل: أين الحاجز؟ أتعجب من السهولة التنقّل! وأجرّبُ التحرّر والأمان على الطريق وإن كانت المسافةُ طويلةً، ويبدأُ عقلي في ابتداعِ خيالاته، ماذا لو لم تكنْ البلادُ مُترعةً بالحواجز؟
إرهاصاتُ الحواجز، وتَمَثُّلاتُها، وصولًا لشكلها الحاليّ في الضّفّة الغربيّة.
الحواجز الصهيونية العسكرية: هي إجراء عسكري استعماري احتلالي إحلالي، يُمارسُ الاحتلالُ من خلاله تقطيع الضفّة الغربيّة إلى مناطق عديدة ومعزولة عن بعضها البعض، مخضِعًا الجسد الفلسطينيّ لها، وممارسًا عليه عبرها الضّرب والتّنكيل والتّفتيش العاري، والانتهاك الجسديّ المُهين لكرامة الإنسان، وعابثًا في وقت الفلسطينيّين/ات، وسالبًا لحقّهم/نّ وحرّيّتهم/نّ في الحركة والتّنقّل.
وتبدأ الحواجزُ كفكرةٍ مؤسَّسةٍ من جدارِ العزل والضّمّ الصّهيونيّ “جدار الفصل العنصريّ” -أوّلًا- الّذي أقامه الاحتلال الصّهيونيّ لتأمين وربط المستوطنات الصّهيونيّة ببعضها البعض من أجل تسهيل حركة المستوطنين/ات. ويضمّ الجدار ما يقارب تسعٌ وستون مستوطنة، وقد عمل على عزلِ الشّعب الفلسطينيّ عن بعضه البعض وقطّع جغرافيّته وأزّم المكانيّة الخاصّة به. وثانيًا، من الجسور الّتي أُسّستْ لسفر الفلسطينيّين/ات. قدْ يظنُّ البعض أنّ الأزمةَ الّتي تُسبّبها الحواجز الصهيونية في الضفة الغربيّة وليدةٌ ما بعد السّابعِ من أكتوبر للعام (2023) كردّ فعلٍ وحربٍ صامتة وبطيئة على الفلسطينيّين/ات في مناطق الضّفّةِ الغربيّةِ، وهذا ليس صحيحًا. فهي أزمةٌ ممتدّة ومستمرّة بالتّجدّد والزّيادة منَ العام (1967)، وظلّتْ تتكاثف عامًا بعد عام كأدوات استعماريّة إحلاليّة هدفها إحكام السّيطرة على حياة الشّعب الفلسطينيّ.
بعد السّابع من أكتوبر، أخذتِ الحواجزُ بالتّعاظم والتّضاعف، وأمستْ ممارسةً استعماريّة مباشرة يصطدم بها الكلّ الفلسطينيّ. يتمّ عبرَها ممارسةُ العنفَ الاستعماريّ على أجساد الفلسطينيّين/ات، وقدْ تعدّت كونها أداةَ عقاب جمعيّ تستلبُ حرية الشعب الفلسطينيّ في التنقّلِ والحركة إلى كونها حربًا مخروسة تستهدفُ أعمار الفلسطينيّين/ات وأجسادهم/ن. فقدْ بلغت أعدادُ الحواجز الثابتة والطيارة والبوابات الحديدية والسواتر الترابية والمكعبات الإسمنتيّة (898) ثمانُمئةٍ وثمانيةٌ وتسعونَ حاجزًا إسرائيليًّا في أنحاء الضفة الغربيّة، وفقًا لإحصائيّة نشرتها هيئةُ مقاومة الجدار والاستيطان، مقارنةً بعام 2007 حيث بلغت حينها الحواجز الصّهيونيّة 527 حاجزًا.
لماذا الحاجز؟ في مسوّغات وجوده ومآربه.
لطالما انتهج الاحتلالُ الصهيوني سياسة التسويغ والتبرير لكل انتهاكاته و جرائمه الوحشية وممارساتهِ الاستعمارية والاستيطانية، وقد ساهم العالم الأميركي الأوروبي الأبيض في أن يخلقَ له شرعيّةً مكّنته من إحكام السيطرة على جغرافيا وموارد وحدود دولة فلسطين.
وبذلك يُسوّغ كيان الاحتلال نصبه للحواجز في كلّ صوبٍ على الأرض الفلسطينيّة بأنه إجراءٌ أمنيّ هدفه الحفاظ على أمن “إسرائيل”، لكنّ الحقيقةَ أنّ أهدافَ الحواجز وآثارها أكبرُ وأعمق ممّا يدركه الشّعب الفلسطينيّ ومما تُصرّح عنه قادة الاحتلال الصهيوني. فليس بالقذيفة وحدها يُقتلُ الفلسطينيّين/ات، وليس بالاعتقال وحده تُقوّضُ حرّيّتهم/نّ.
View this post on Instagram
الحواجزُ إبادة للجسد الفلسطيني
لمْ تتوقف الإبادة التي عاشها الشعب الفلسطيني وما زال يعيشُها بتاتًا، فهي إبادةٌ مستمرّةٌ منذ النكبة عام (1948)، ومعها، تستمرُّ محاولات الاحتلال الصهيوني في إبادةِ الجسد الفلسطيني من خلال عدّة ممارسات يستخدمها المستعمِر لمحو الشعب الذي يستعمرُهُ. فكلّ ممارسات الاحتلال الصهيوني، ومن بينها فرض الحواجز، وإن كان هدفها المعلن إحكام السيطرة على تحركات الفلسطينيّين/ات وتصرفاتهم/نّ، فهي بالحقيقة هدفها إبادة أجسادهنّ/م ومحوها والتّخلّص منها.
ففي المناطق المعزولة التي يتمُّ إخضاعَها لسيطرة الاحتلال الأمنيّة والعسكريّة -كمنطقة H2، التي تشكّل 20% من مساحة مدينة الخليل وهي تقبع تحت السيطرة الأمنية الصهيونية فيما نقلت الصلاحيات المدنية للسلطة الفلسطينية- قامت قوات الاحتلال بتقييد حركة الفلسطينيّين/ات، وحُرمتْ مئات العائلات من الحصول على الخدمات الطبّية، بالإضافة إلى فرض حظر التجوّل وتوسيع الإغلاقات وما يرافقها من صعوبات في وصول المرضى إلى مراكز العلاج.
وفي تقريرين لمنظمة الصحة العالمية، عملت عليهما ما بين (2019-2023)، وهما تقرير “الحق في الصحة” وتقرير “أصوات فلسطينيّة”، سلّطت الضّوءَ على المعيقات الّتي تحول دون إعمال “الحق في الصحة” في الأرض الفلسطينيّة المحتلّة. وأوضحت كيف أنّ تجزئة الشّعب الفلسطينيّ، وتطبيق نظام التّصاريح، ووجود الحواجز المعيقة للحركة، والثّغرات في الحماية، جميعها ممارسات تظهر أوجه عدم المساواة في الحصول على الرّعاية الصّحّيّة وتخلق حواجزَ كبيرة أمام توفّرها والوصول إليها في الضّفّة الغربيّة..
و”قام مركز المعلومات في وزارة الصحّة برصد وتسجيل وفاة (129) مريض/ة على الحواجز العسكريّة حتى تاريخ 14 آب/ أغسطس 2005 بسبب منع قوّات الاحتلال لسيّارات الإسعاف من نقلهم/نّ إلى المستشفيات، أو إعاقة مرورهم/نّ على الحواجز العسكريّة بالرّغم من تدهور وضعهم/نّ الصّحي”. وعاين الشّعب الفلسطينيّ هذه الممارسات المتزايدة عبر الحواجز بعد السّابع من أكتوبر، وشَهِدَ الإعدامات الميدانيّة للفلسطينيّين/ات المتنقّلين/ات بين الحواجز والطّرق الالتفافيّة، كإعدام الطّالبة ميمونة حراحشة من محافظة الخليل على حاجز بيت عينون، وإعدام الشّاب باسل المحتسب، واستشهاد إيمان جرادات من بلدة سعير؛ نتيجة إعاقة الاحتلال نقلها إلى المستشفى، وغيرها العديد من حالات الإعدام الميدانيّ، ووفاة المرضى، وإعاقة عمليّة الولادة للنّساء الحوامل على الحواجز.
فالاحتلال الصّهيوني يتعامل مع أرحام النّساء الفلسطينيّات وأجسادهنّ كمهدّدات وجوديّة له، حيث “تستولي المشاريع الاستعماريّة العرقيّة والقوميّة على الأمومة، فتقلّص حضور النّساء أوّلًا إلى أرحام، ما يبرّر التخلص منهنّ واستهدافهنّ بكافّة الوسائل”. والاستهداف الممنهج لعمليات الولادة ومحاولة إعاقتها يتجلّى بوضوح عبر الحواجز العسكريّة الصهيونيّة. ففي دراسة سابقة أعدتها الحركة العالميّة للدّفاع عن الأطفال بفلسطين، كشفتْ عن “ارتفاع نسبة الولادة على الطّرق بسبب الحواجز والإعاقات الإسرائيليّة المختلفة”، مشيرة إلى أنّ “نسبة المواليد على الحواجز وصلت لـ4.8% بمدن الضفة الغربية”. وبحسب تقرير أعدّه المركز الفلسطيني للإعلام عام 2007: “هناك 68 امرأة حاملًا أرغمن على الولادة عند الحواجز العسكرية الصهيونية، وعلى مسمع من جنود الاحتلال الّذين/ اللّواتي تجاهلوا/ن صرخات الاستجداء للسّماح لهنّ بالمرور لتلقّي الخدمات الصّحّيّة اللّازمة، ممّا أدّى إلى إجهاض ووفاة 34 جنينًا و4 نساء إثر إصابتهنّ بمضاعفات ما بعد الولادة والافتقار للعناية اللازمة ما بين الفترة الوقعة بين عام 2000 حتّى عام 2006”.
وبكلّ تأكيد تصاعد هذا الانتهاك المباشر بعد السّابع من أكتوبر، في ما يُشكّل استهداف متعمّد وممنهج لأجساد النّساء وأرحامهنّ، ومحاولة للقضاء على هذه الأجساد وما تحمله داخلها، ضمن الحرب الوجوديّة الّتي تستهدف الفلسطينيّات والفلسطينيّين وعمليّتهنّ/م الإنجابيّة.
ما بين التّهجير القسريّ والهجرة الطوعيّة.. كيف تُرسِّخ الحواجز فكرة الرّحيل!
تعملُ الحواجزُ على تفتيت الواقع الجغرافيّ للفلسطينيّن/ات، وتساهم في عمليّة تهجيرهم/نّ قسرًا وطوعًا، وهي فاعل أساسيّ في إنجاحِ عمليّة ضمّ الضّفّة الغربيّة إلى “إسرائيل” المزعومة.
في هذا الإطار، يقول الباحث أحمد أسعد: “ما جرى بعد السّابع من تشرين الأوّل/أكتوبر يشكّل جزءًا من محاولة تطبيق مخطط الضّمّ، والّذي هو بدوره جزء من السّياسة الإسرائيليّة الرّسميّة وغير الرسمية التي يطبّقها المستوطنون/ات في محاولة لحسم الصّراع عبر التّضييق على الفلسطينيّين/ات في الضّفّة الغربيّة وترحيلهم/نّ بشكل قسريّ، أو تمهيد التّرحيل بشكل طوعيّ من خلال ضرب مقوّمات البقاء وحرية التنقل”. وخلال الأعوام الماضية تصاعدت التّصريحات والخطط الإسرائيليّة من أجل ضمّ مناطق “ج” من الضفة الغربية، وما يجري اليوم في الضّفة يعد إبادة ناعمة بعيدة عن الأضواء الإعلاميّة. إذ جرى ترحيل ما يفوق ألف فلسطينيّ/ة ما بعد السّابع من أكتوبر من هذه المناطق، وخصوصًا تجمّعات البدو في أكثر من عشرين تجمّع في الضّفّة”.
واليوم، يعيش الفلسطينيّون/ات معاناةً متواصلة ومتفاقمة، تُعمّقها الحواجز والتضييقات المستمرة التي تعيق حركتهم/نّ وتثقِل تفاصيل حياتهم/نّ. يقف الفلسطينيّون/ات لساعاتٍ طويلة على تلك الحواجز، ما يؤخرهم/نّ عن أعمالهم/نّ وتُقيّد أوقاتهم/نّ، فيمسي وقتهم/نّ فريسة جاهزة للافتراس من قبل جنود الاحتلال.
فبحسب معهد أريج “إنّ الفلسطينيّين/ات يخسرون/يخسرن حوالي (60) مليون ساعة عمل سنويًّا؛ بسبب هذه الحواجز والّتي تقدّر تكلفتها بحوالي (270) مئتين وسبعين مليون دولار سنويّ”، وبين الطلاب/ الطالبات ومدارسهم/نّ وجامعاتهم/نّ أيضًا؛ ما أدّى إلى ضرب قطاع التّعليم الفلسطينيّ وتحويل الدّوام إلى دوام إلكترونيّ، وبين العائلات والأهل والأصدقاء وزيارتهم/نّ لبعضهم/نّ البعض. إذ قطّعت الحواجز الارتباط الاجتماعي ما بين الفلسطينيّين/ات وأزّمت من اللّقاءات والرّفاهيّة الّتي يحاول الفلسطينيّون/ات استراقها من توحّش الاستعمار.
“لا مستقبل لكم/نّ في فلسطين” هذه لافتة علّقها المستوطنون/ات على الطّرق الالتفافيّة المليئة بالأزمات والحواجز؛ ليذّكروا الفلسطينيّين/ات بأنّ هذه البلاد ما عادت صالحة للحياة اليوميّة.
“من الجغرافيا الأقرب إلينا: الجسد”.. الحرب المباشرة على كرامة أجساد الفلسطينيّين/ات
يُنكّلُ جنود الاحتلال بجموع الشّعب الفلسطينيّ أثناء عبورها اليوميّ للحواجز العسكريّة. عبرها، يُمارسُ الاحتلال كلّ الانتهاكات الصّارخة بما في ذلك: الضّرب المبرح، التّوقيف، الاعتقال، التّفتيش العاري في الغرف المغلقة، التّحقيق، الإهانة الجسديّة واللّفظيّة، التّحرّش اللّفظيّ والجنسيّ، مصادرة الممتلكات والأموال، حجز المركبات لساعات طويلة.
يتأثّر الفلسطينيّيون/ات، أطفالًا وشبّانًا/شابّات ومسنين/ات بهذه الممارسات العنيفة بلا استثناء. ورغم أنّ الانتهاكات تطال الجنسين، إلّا أنّ المجتمع الفلسطينيّ يتفاعلُ مع الانتهاكات الجسديّة بحقّ النّساء والرّجال بشكلٍ متفاوت، يعكس فروقات ثقافيّة واجتماعيّة تفرضها الذّهنيّة الأبويّة.
إنّ المجتمع الفلسطيني أبويٌّ وخاضعٌ لثقافة العيب و”العِرض”. ورغم أنّ البعض منه يعيش في مساحة تحرّرت من هاتين الثّقافتين، إلّا أنّهما ما زالتا متجذّرتين عند الكثير. يرضخ الجسد دائمًا للتّمثّل الاجتماعيّ، فَـ “الجسد مادّة للرّمز وموضوعًا للمتخيَّل والتّمثّلات، وهو ظاهرة ثقافيّة واجتماعيّة، ناسج لخيوط الحياة اليوميّة الإدراكيّة وغير الإدراكيّة، مصنوع من جلبة السّياقات الاجتماعيّة وفاعل فيها”، ولهذا، تُلاحَق دومًا أجساد الفلسطينيّات بالحصانة والحماية لكونها وعاء يحملُ ما يعرف بـ”العِرض والشّرف” الّذي لا يُسمحُ انتهاكه؛ ممّا يفاقم التّبعات النّفسيّة للنّساء الفلسطينيّات إن تمّ انتهاك أجسادهنّ قسرًا ومن المستعمِر ذاته.
لا وجود لوطن حرّ دون نساء حرّة
لم يكنْ هذا مجرّد شعارٍ يُرفع أو اعتباطيّ لدى حراك طالعات، بل هو حقيقة فعليّة لمتطلّبات التّحرير. فتحرير الأرض لا يكتمل دون تحرّر النّساء المستعمَرات من الأبويّة والمحتلّ معًا، ليساهمنَ في معركة استرداد أرضهنّ كجزء لا يتجزّأ من عمليّة النّضال. حيث يفترضُ فرانس فانون أنّ “المحتلّ يسيطرُ على النّساء عادةً كوسيلة للقضاء على مقاومة الشّعب بأكمله”.
تتفاعل النّساء والفتيات الفلسطينيّات مع ما يتعرضنَ له من انتهاكاتٍ عبر الحواجز بطريقةٍ مغايرة عن الرّجال. فالاحتلال يسعى بشكلٍ مباشر وغير مباشر إلى إخضاع أجسادهنّ وتطويعهنّ، مستغلًّا البنى الأبويّة المتجذّرة في المجتمع. وهكذا تتقاطع أنظمة القمع الاستعماريّ والأبويّ على أجساد النّساء الفلسطينيّات؛ فالأبويّة تُعزّزُ من توحّشِ الاستعمار، والاستعمار يُعمّق بدوره الأبويّة عبر تغذية الخوف من “انتهاك العرض” المتأصّل ثقافيٍّا في نظرة المجتمع إلى أجساد النّساء. هذا التّقاطع يُفضي إلى مضاعفة القهر، إذ تُفرَضُ على النّساء قيود إضافيّة؛ فيصبحن أكثر عرضةً للألم والانتهاك، لا بسبب الاحتلال وحده، بل أيضًا بسبب طبيعة التّمثّلات الاجتماعيّة المرتبطة بأجسادهنّ ولباسهنّ. وأنا واحدة من النّساء اللّواتي خُضن هذه التّجربة المُرّة وما زلن يَعِشنَها: عبور الحواجز باللّباس الكثيف والحجاب، والانتظار لمدّة طويلة، يضاعف الإحساس بالاضطهاد ، فضلًا عن الآلام الّتي عشتها مرارًا على الحاجز أثناء فترة الحيض.
تجعل الحواجز من حياة النّساء جحيمًا لا يُطاق وتؤثّر على قرارتهنّ وأيّامهنّ وأعمالهنّ. فالكثير من النّساء أجبرنَ على الدّراسة داخل مدنهنّ خوفًا من انتهاكات الحواجز والكثير منهنّ تركنَ فرصًا عمليّة في مناطق غير مناطقهنّ لنفس السّبب. وفي هذا، تُحدّثُني الصّحافيّة مجد طميزي من مدينة الخليل، تسكن في قرية إذنا، عن تجربتها على الحاجز (حاجز الكونتينر) وهي متوجّهة من مدينة الخليل إلى رام الله، حيث تعرّضت مجد للضّرب المبرح والإهانة والتّوقيف مرّتين، قائلةً: “في المرّة الأولى كان عندي حاجز نفسيّ ورجعت لزيارة رام اللّه بعدها ثلاثَ مرّات، وقلت لحالي هذا احتلال وبدّي أكمّل ومش عشان ضربة بدّي أضلّ قاعدة بالدّار وأنا عندي شغلي ومحتاجة أكمّل؛ لأنّه دورنا نكمّل، ولكن في كلّ مرّة كنت أزور رام اللّه أشعر برهبة وخوف وأظلّ أحسب السّاعة”.
وتضيفُ بأنّ الاحتلال لا يُمارس هذا الانتهاك لأي إجراء أمني بل لقهر الفلسطينيات/ين وإهانتهن/م. وتُكمل: “في المرة الثانية كانت الطريق سالكة ولكنّ الصهاينة أغلقن/وا حاجز الكونتينر، وأوقفتني ذات المجندة التي ضربتني في المرة السابقة وبدأت بتهديدي وإهانتي”.
وأكملت حديثها عن مشاعرها وما لاحقها من ألمٍ نفسي: “أنا نفسيًّا كثير الموضوع وجّعني، كثير بوجع إنك يتم إهانتك وما تعرفي تدافعي عن نفسك، ولو إنها طختني (أطلقت الرصاص عليّ) لكان أهون عليّ، لأنّك بتشعري إنّك عديمة القيمة والوجود”. في تجربتها الثّانية، فقدت مجد حصانتها وتملّك الخوف منها فما عادت قادرة على التّنقّل مرّة أخرى أو الذّهاب إلى رام اللّه؛ خوفًا من تكرار الأمر. “بخاف أشوفهم، بخاف من حاجز إذنا، بخاف من الاقتحامات، وجواتي بوجّعني وبدّيش أرجع أعيش التّجربة مرّة أخرى”. وأضافت بأنّها في المرّة الأولى كانت خائفة من ردّة فعل والده، ولكنّها عندما أخبرته قام باحتضان الموقف وحاول مساعدتها. كما عبّرتْ عن خوف والدتها الدّائم من تنقّلها خارج مدينة الخليل، ممّا جعلها تلغي فكرة الخروج منها قطعيًّا.
في الغرف المغلقة التّي تجانب الحواجز ويتمّ فيها انتهاك الأجساد وتعريتها، تُخبرني ن.ع عن تجربتها في إحداها، حيث تمّ ضربها وتعريتها من ملابسها كاعتداءٍ واضح على الجسد، فتقول: “شعرت بعد التّفتيش بأنّي مذنبة رغم أنّني من وقع بحقّها الإجرام. ما عرفت أنام بعدها، ضلّيت أسأل حالي معقول صوّروني؟ معقول كان فيه كاميرات؟ الخوف والتّوتّر قتلوني، ظلّت هاي الذّكرى شبح بلاحقني، ومن بعدها ما خرجت من مدينتي بتاتًا”.
يظلُّ الإحساس بالخوف من الاعتداء الجسديّ والتّعرية القسريّة شبح يُلاحق النّساء، واصمات في ذلك أنفسهنّ، إنْ لم يوصمهنّ أحد.
هاتان التّجربتان، المليئتان بالقهر والألم، تُعبّران بواقعيّة عن كيف يسعى الاستعمار إلى تعميق العنف بحقّ النّساء الفلسطينيّات، وسلب حريّاتهنّ عبر استهداف أجسادهنّ وانتهاكها بشكلٍ ممنهج. وهذه ليست سوى أمثلة قليلة ممّا تتعرّض له النّساء على الحواجز المتزايدة في الضّفة الغربيّة، حيث تتصاعد الانتهاكات يومًا بعد يومٍ، وتتنوّع ما بين الإغلاقات، وحظر التّجوّل، والعنف المباشر المسلّط على أجساد النّساء والرّجال على حدٍّ سواء. كما تُخلِّفُ الحواجزُ آثاًرًا نفسيّة عميقة تؤثّر في قرارات الأفراد، ونظرتهنّ/م لأنفسهنّ/م، وتنزعُ عنهنّ/م الشّعور بالسّيادة على أجسادهنّ/ن، فماذا لم تكنْ البلادُ مترعةً بالحواجز؟
تم إعداد هذا التحقيق بالاشتراك والتنسيق مع مجموعة تقاطعات النسوية.