خيوطٌ متشابكة وجهاتٌ عديدة.. حول التضييق على المساحات في لبنان والأردن

“لا نحتاج إلى مَن ينقذنا بل إلى مساحة للمشاركة”، جملةٌ برزت في أحد المقالات المُتعلّقة بالمساحات النسويّة في السودان، وبدت انعكاسًا واضحًا للمساحات بمختلف الدول، ولربما هيَ تمثيلٌ للوضع الحاليّ في لبنان والأردن وما يعيشوه الكويريون/ات والنسوّيات إزاء رغبتهم بالحريّة.

على الرغم من الجهود التي تقوم بها المساحات النسويّة والكويريّة في العالم العربيّ وتتباين من سياقٍ إلى آخر،  إلا أنَّه هناكَ حواجز تصطدم بها عادةً، ولا تتوقف فقط على السلطة أو ممثليها وإنما تمتد لتشمل جوانب أوسع من ذَلك بكثير، وفي هذا المقال سنستعرض جانبًا من واقع هذه المساحات  الحال بلبنان والأردن  في كلا البلدين.

ما هي المساحات؟

لا يوجد تعريف واحد للمساحة، لكنها تُفهم كمكان يشعر فيه الأفراد أو الجماعات بالراحة والأمان، خاصة حين يُستخدم للتعبير عن الهويات أو تبادل المعرفة.

في الأردن ولبنان، نشأت المساحات النسوية والكويرية كرد فعل على غياب الاعتراف الرسمي، وتحوّلت مع الوقت إلى ملاذات حيوية وسط بيئة مجتمعية محافظة، ومع تصاعد الحراك المدني ووسائل التواصل، برز دورها أكثر رغم ما تواجهه من تضييقات مجتمعية، سياسية، وأحيانًا داخلية.

لكن لفهم هذه التحديات، لا بد من التوقف أولًا عند السياق الذي نشأت فيه هذه المساحات، وتأثير الربيع العربي على ظهورها.

الحراك النسوي في لبنان والأردن

رغم امتداد التاريخ النسوي في لبنان والأردن إلى بدايات القرن العشرين، إلا أن ما نطلق عليه اليوم “المساحات النسوية والكويرية” لم يظهر كحاجة ملحّة وملموسة إلا في لحظات التحوّل السياسي والاجتماعي، لا سيّما حين واجهت النساء والكويريون/ات تهميشًا ممنهجًا من الدولة والمجتمع معًا.

في لبنان، تراكمت التجارب النسوية منذ العهد العثماني وصولًا إلى ما بعد الحرب الأهلية، لكن التحوّلات الأهم جاءت بعد عام 2006، حين بدأت مجموعات نسوية وكويرية بالظهور كرد فعل على النظام الأبوي والعنف المرتبط بالاحتلال الإسرائيلي. ساهم ذلك في تشكيل مساحات غير خدماتية، مثل المقاهي أو الفعاليات الثقافية، التي وفرت بيئة آمنة لتبادل الأفكار والتعبير عن الهويات الجندرية والجنسية، دون الحاجة للإخفاء أو التبرير. ومع احتجاجات 2015، ثم انتفاضة 2019، اتخذت هذه المساحات طابعًا أكثر تقاطعية، وبرزت كجزء من موجة رفض جماعية للنظام السياسي والاجتماعي القائم، لكن المأسسة اللاحقة واعتماد التمويل الخارجي أثّرا على استقلاليتها، وخلقوا نوعًا من التوتر الداخلي حول أولويات الخطاب وأشكال التنظيم.

أما في الأردن، فبدأت المساحات تظهر تدريجيًا مع انفتاح نسبي في تسعينات القرن الماضي، لكن ما لبث أن خضعت المنظمات النسوية لإشراف الدولة، إما بشكل مباشر أو من خلال شروط الترخيص والتمويل. حالت هذه السيطرة دون تحوّلها إلى مساحات حقيقية للتغيير السياسي أو للنقاش حول الهويات الجندرية والجنسانية. وحتى حين تحققت بعض المكاسب الحقوقية، مثل التصديق على اتفاقية “سيداو” أو إنشاء أول مأوى للنساء، بقيت المساحات محدودة، وغالبًا ما يُعاد إنتاج التضييق داخلها سواء عبر أجندات المانحين أو الرقابة الذاتية التي تفرضها القيود القانونية والسياسية.

في الحالتين، شكّلت المساحات النسوية والكويرية استجابة مباشرة لسياقات القمع والتهميش، لكنّها لم تكن بمعزل عن تضييقات متكررة؛ مجتمعية، سياسية، أو حتى من داخلها، ما يجعل من الضروري إعادة النظر في كيفية نشأتها، وما تعنيه فعلًا كأداة للمقاومة أو كامتداد لبنى السلطة القائمة.

الانتقال للربيع العربيّ.. ما قبل وما بعد

كانت القضايا الكويريّة والنسويّة أقل ظهورًا في الأردن ما قبل الربيع العربيّ على عكس لبنان التي  اتسمت بمرونة نسبية مقارنة بدول أخرى؛ إذ كانت توجد مساحات محدودة للكويريين/ات والنشاط النسوي ضمن مجتمع مدني نشط.

وتصاعد النشاط النسويّ بعد مظاهرات الربيع العربيّ في الأردن مثل؛ الحراك لتحسين حقوق المرأة، بما في ذلك تعديلات على قانون العمل والانتخاب لتحسين المشاركة السياسية للنساء فيما ازداد التضييق على المساحات النسوية والكويريّة في لبنان مع ارتفاع نفوذ الجماعات الدينية مثل “جنود الرب”، الذين استهدفوا هذه المساحات بشكل متزايد، بما في ذلك التهديدات والهجمات العلنية، مثل حرق الأعلام الكويرية ومهاجمة مقرات الجمعيات النسوية.​

وعلى الرغم من هامش الحريّة بعد الربيع العربيّ في الأردن إلا أنَّ  القوانين الجديدة تُستخدم بشكل متزايد لتقييد النشاط الكويري، حيث تشمل قوانين الجرائم الإلكترونية مواد غامضة تتيح ملاحقة المحتوى المرتبط بالقضايا الكويرية، مثل التجريم بمواد تتعلق بـ”الأخلاق العامة” أو “الدعارة”​؛ بحسب بيانٍ نشره مجموعةٌ من الكويريين عام 2023.

وفي حين يمتلك لبنان تاريخاً أطول نسبياً من النشاط المدني للكويريين، فهو يواجه ضغوطًا من جماعاتٍ دينيّةٍ منظّمة بينما القمع في الأردن أكثر قانونيّة من خلال تشريعات الجرائم الإلكترونية والقيود على الانترنت.

التضييق الديني على المساحات

لطالما استُحضر الدين كأداةٍ للضبط الاجتماعي، ليغدو – ولا يزال – البوابة الأوسع لخنق أي مساحةٍ آمنة للنساء والأشخاص الكويريين/ات في الدول الناطقة بالعربية. فبذريعته، تُشرعن أنظمة القمع، وتُكبت الحريات الفردية، وتُصاغ القوانين التي تكرّس التمييز وتُبقي الهويات المهمّشة في دائرة الخطر.

في لبنان ظهر مشهد القمع بأوضح صوره مع جماعة “جنود الرب” منذ عام 2019 وهي تقتحم حفلات أو معارض يرتفع فيها علم قوس قزح، فتُكسِّر المحتوى وتُهدِّد المنظمين باسم حماية الأخلاق، آخرها الهجوم على مقهى مدام أوم عام 2023. وبالتوازي، كرّس وزير الداخلية عام 2022 قرارًا يحظر تجمعات الفخر، مدعومًا ببيانات صارمة من مرجعيات سنيّة وشيعيّة ودرزيّة، قبل أن يجمّد مجلس شورى الدولة القرار جزئيًّا تحت ضغط قانوني. حتى خطاب الأمين العام السابق لحزب الله، الذي دعا صراحةً إلى قتل المثليين، أعاد إنتاج خطاب الخطر الأخلاقي ذاته.

في الأردن،  لم تكن المساحات أكثر أمانًا، إذ تعرّضت المحامية النسوية هالة عاهد عام 2023 لهجمة تكفير وتهديد بعد إعلانها المشاركة في تقديم ندوات تعريفية بالنسوية ومبادئها، بالتعاون مع منظمة “أهل” في عمان، ووصفها بأنها “نسويّة متأسلمة”، و”تسعى للترويج لمبادئ النسوية بغطاء إسلامي”، و”وتعمل في سبيل هدم قيم المجتمع والتمرد على الدين والشرع والفطرة، والتمهيد للردة والإلحاد”؛ ما دفع المنظّمين/ات للاعتذار عن إقامة الندوات.

وهكذا، كلما حاولت الجماعات النسوية أو الكويرية فتح نافذة نقاش علني، حضر خطاب ديني متشدد–رسمي أو أهلي–لإغلاقها، في دورة قمعية تجعل المساحة نفسها هدفًا لا حقًّا مكتسبًا. ويتجلى كيف تُصوَّر النسوية والهوية الجندرية كتهديدات “أخلاقية” أو “دينية”، تُقمع باسم الدفاع عن “الفطرة”، بينما تتحالف السلطات مع القوى الأصولية لتضييق المساحات الآمنة والتعبيرية.

تضييق الدولة على المساحات

لا يقتصر استهداف المساحات الكويرية في الأردن ولبنان على حملات فردية أو مواقف معزولة، بل يكشف عن نمط ممنهج تُنتجه الدولة بتحالف مباشر أو غير مباشر مع التيارات المحافظة والدينية، في محاولة مستمرة لإقصاء أي تعبير حر عن الهوية الجندرية والجنسانية.

في الأردن، شكّلت التحالفات غير المعلنة بين الأجهزة الأمنية والتيارات الإسلامية جزءًا من هذه المنظومة. ففي عام 2023، أوقف محافظ العاصمة عرض فيلم كويري إثر ضغوط من نائب إسلامي، وسرعان ما تحوّلت القضية إلى حملة تحريض إلكترونية طالت أحد المشاركين، شملت التهديد بالترحيل وحتى القتل، هذا النوع من التدخل ليس استثناءً؛ بل يتكرّر مع أي نشاط علني يُفهم كدعم لقضايا مجتمع الميم.

توثق هيومن رايتس ووتش حالات متعددة لاستجواب وترهيب نشطاء كويريين/ات من قبل المخابرات العامة، شملت التهديد، إجبارهم على توقيع تعهّدات، إغلاق منظمات، ومداهمات مفاجئة. وقد اضطُر عدد من مدراء المبادرات إلى مغادرة البلاد، بعد استهدافهم بالتحقيق أو تجميد حساباتهم المصرفية، وتُقيَّد هذه المبادرات قانونيًا عبر تسجيلها كشركات بدلًا من منظمات مجتمع مدني، مما يُسهل ملاحقتها أو إغلاقها بأي وقت.

لكن التضييق لا يأتي من السلطات فقط، بل يمتد إلى تخلي بعض الفاعلين/ات عن مسؤولياتهم/ن تحت الضغط. يقول مازن -اسم مستعار-، وهو أحد منظمي الفعالية التي أُلغيت عام 2023، إن المنظمات الشريكة تنصّلت من الدعم، بل إن المقهى المضيف تبرّأ من النشاط. هذا الانسحاب يُظهر كيف تنتج البنية القمعية عنفًا أفقيًا داخل المجتمع المدني نفسه.

ويذكرُ تقريرٌ لمنظمة هيومن رايتس ووتش أنَّ المخابرات العامة قامت بتهديد المقهى وإلزامه بتقديم إذنٍ للمحافظ قبل القيام بأية فعاليّة.

ويرى مازن أنَّ المنظمات النسوية والكويريّة تخلّت عن منظمي/ات الفعاليّة ولم تساهم بدعمهم/ن أو الوقوف معهم/ن وهو ما يعكس صورةً من العنف التي يمارسها أفراد المجتمع على بعضهم/ن البعض.

ووثقت المنظمة كذلك حالات قامت فيها دائرة المخابرات العامة ودائرة الأمن الوقائي في مديرية الأمن العام باستجواب نشطاء من مجتمع الميم حول عملهم/ن، وترهيبهم/ن بالتهديد بالعنف والاعتقال والملاحقة القضائية، ما أجبر العديد من النشطاء على إغلاق منظماتهم/ن ووقف أنشطتهم/ن، وفي بعض الحالات، الفرار من البلاد.

ووثقت في تقريرٍ آخر العواقب الوخيمة التي تترتب على الاستهداف عبر الإنترنت ضد مجتمع الميم في الأردن، بما في ذلك الإيقاع بهم في الفخ، والابتزاز عبر الإنترنت، والمضايقة عبر الإنترنت، والاعتماد على المعلومات الرقمية التي تم الحصول عليها بشكل غير مشروع بناءً على عمليات البحث الهاتفية التعسفية في الملاحقات القضائية.

ويقول فريد – اسمُ مستعار-، وهو أحد مدراء المنظمات التي تمّ إغلاقها في الأردن إنَّ الربيع العربي قد شكّل حُلمًا بالتغيير امتدَ إلى أفراد مجتمع الميم عين؛ لأن هناكَ فاصلًا بنقل المعرفة بين أفراد المجتمع تزامنًا مع انغلاق العديد منهم/ن على أنفسهم/ن.

ولذا فإن المساحة التي أوجدها كانت معنيّةً  بتوفير الحماية والدعم لطلبات اللجوء من قبل الأفراد المعرضين/ات للخطر في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وسعت المنظمة إلى ديمومة العمل، مشيرًا إلى أنه “في لحظةٍ ما شعرنا أن هناك أمل”.

إلا أنه تعرَض للخطف من قبل الأجهزة الأمنيّة وتهديده بالتوقف عن العمل أو إبلاغ أُسرته عن ميوله ونشاطاته رُغم مساعدته للعديد من مجتمع الميم عين آنذاك. وعلى الرغم من ذَلك استمرت المنظمة بعملها وأصدرت العديد من الأوراق البحثية والدراسات وتشاركت مع عددٍ من منظمات المجتمع الأردنيّ؛ ليفاجأ بمداهمة مكتب المنظمة وإغلاقها خلال سفره خارج الأردن والتعميم على اسمه لإلقاء القبض عليه حال عودته للبلاد.

يقول “لم أفهم البتة لماذا كل هذا التضييق؟! سافرت بحقيبةِ ظهرٍ واحدة ومُنعت من العودة للبلاد، ولا أدري ما الذي سأفعله حال انتهاء جواز سفري وحاجتي لتجديده، لم أرد مغادرة البلد ولا العيش وسط هذا الخوف”، ويتابع (10 سنين من حياتي، كل حياتي حطيتها بهدا المكان وسكّروه بلا سبب، ليه؟!”.

وكان مدير منظمة حقوق للمثليين/ات قال إنه اضطر إلى إغلاق المنظمة في يناير/كانون الثاني بعد ما وصفه بـ”هجوم غير مسبوق ومنسق” من جانب السلطات، قائلًا “إنه لأمر مرعب مدى النفوذ الذي يمكن أن تمارسه قوات الأمن بالترهيب وحده، دون الحاجة إلى تحريك إصبع. لقد قلبوا حياتنا رأسًا على عقب، تحت التهديد”.

وأغلقت المخابرات الحساب المصرفي وأمرت بإغلاق المنظمة التي تعمل منذ عام 2018 لتوفير مساحات وخدمات آمنة لأفراد مجتمع الميم، وقد تم تسجيلها كشركة بسبب رفض الحكومة السماح بتسجيلها كمنظمة غير حكومية.

واستدعت كذلك مدير ومسؤول العمليات في منظمة حقوقية مسجلة في عمان للتحقيق عام 2022 بعد تنظيم ورش عمل خاصة حول النوع الاجتماعي وتداولها على نطاق أوسع دون الإعلان عنها على وسائل التواصل الاجتماعي.

وقالت المديرة إنه قبل أيام قليلة من عقد ورشة عمل أخرى، أبلغتها المخابرات عن تلقي تقريرًا يزعم أن  الورش تهدف إلى “تعزيز الانحراف الجنسي والتحريض على المثلية الجنسية والجنس قبل الزواج والعلاقات الجنسية مع الحيوانات”، ووجهت  لها أسئلة خاصة وغير لائقة عن حياتها الجنسية.

وكان المحافظ قد أمر بمداهمة “حفلٍ مشبوه” كما وصفه للإعلام، في عمّان عام 2022 بصفته حفل للمثليين/ات، وقبل ذَلك تم القبض على مجموعةٍ من الشباب والفتيات في أحد المساحات الثقافيّة خارج عمّان لاشتباه الجهات الأمنيّة بوجود حفلٍ مشبوهٍ كذلك.

وفي لبنان، تتكرر أنماط مشابهة. فمنذ 2019، تقود جماعة “جنود الرب” المسيحية المتشددة حملات اقتحام وتخريب ضد فعاليات ثقافية يُشتبه في دعمها لمجتمع الميم، بتواطؤ ضمني من السلطة. أما رسميًا، فقد أصدر وزير الداخلية قرارًا في 2023 يحظر أي نشاط “يخالف القيم”، وعمليًا يُستخدم لتجريم تجمعات مجتمع الميم رغم تعليق مجلس شورى الدولة له. كما تستند الشرطة إلى المادة 534 من قانون العقوبات لتبرير الاعتقالات، رغم تراجع بعض القضاة عن تطبيقها.

النتيجة أن العديد من المساحات الآمنة – سواء كانت مقاهٍ، معارض، أو فعاليات ثقافية – أُغلقت أو أصبحت عاجزة عن العمل، كما حصل مع منظمات مثل “حلم” و”موزاييك”. هذه الحملة الممنهجة لا تستهدف الأفراد فحسب، بل تهدف إلى محو كامل للوجود الكويري من المجالين العام والخاص، وإحكام السيطرة على ما يُقال ويُرى ويُعاش في ما يخص الجندر والجنسانية.

تضييق الممول على المساحات

لا يظهر تضييق الممول بالعنف ذاته الذي تمارسه الدولة أو المؤسسة الدينية، لكنه يفرض نوعًا آخر من السيطرة، عبر توجيه أولويات المساحات وتقييد خطابها ضمن أجندات محددة قصيرة الأمد وغير مستدامة. هذا التمويل المشروط أضعف البعد السياسي والحقوقي في الخطاب النسوي والكويري، ودفع بالمنظمات إلى تنفيذ مشاريع خفيفة الأثر لضمان الاستمرار المادي، لا التأثير الحقيقي.
في هذا السياق، يبدو المموّل وكأنه الفاعل المركزي غير المرئي، يتحكم بمتى وأين يمكن للمساحات أن تتنفس، وما حدود حركتها وخطابها، ما يضع الاستقلالية التي تدّعيها هذه المساحات تحت المساءلة  الجادة.

تقول الباحثة المهتمة في الشأن الثقافيّ السياسيّ راما سبانخ إنَّ التمويل استخدم أجندة النساء والكويريين/ات لشرعنة التدخل فيها، وهو ما انعكس بزيارة السفيرة الأميركيّة عام 2014 إلى إحدى المساحات المدافعة عن مجتمع الميم عين واستخدام التمويل لفرض سيطرتها على الخطاب العام.

يتفق معها الناشط بحقوق مجتمع الميم عين موسى الشديدي بأن الجهات الممولة هي عنصر أساسي في التضييق، وأنه لا  الفرصة  الكافية لتوسع هذه المساحات، مضيفًا “نحن محكومون/ات بظروف اقتصاديّة لكننا غارقون/ات بوحل التمويل”.

ويتابع بأن التمويل يفرض كيفية تعريف نفسك وطريقة مقاومتك؛ لذا فهناك العديد من المساحات التي تم إغلاقها بسبب التضييق عليها أو رفضها الخضوع لأجندة الممول والتمسّك بآراءها، وبخاصة التمويل الأميركيّ والألمانيّ.

وهذا التمويل ذاته هو الذي يتم منحه للدولة بشكلٍ أكبر والتي بدورها تختار الوقت المناسب للتضييق على هذه المساحات.ن.

تضييق المساحات على العاملين/ات فيها

ويلفت موسى الشديدي إلى نوعٍ آخر من التضييق وهو تضييق المساحات نفسها على العاملين/ات فيها وفقًا لسياسة الممول، فقد يرفض البعض هذه السياسة بينما يتفق آخرون/أخريات معها وهو ما يدفع المسؤول عن المنظمة لاختيار الممول.

ويرى أنَّ الأمر قد يختلف في حال كان الانتخاب هو المعيار الأساسي لاختيار مسؤولي/ات المنظمات الذين/اللواتي سيمثلون الغالبيّة والتي – من منظوره- سترفض السياسات والأجندة التي تختلف مع قيمها.

وتحت ضغط التمويل وأجنداته، تعيد المساحات إنتاج التضييق داخليًا؛ إذ يتم إقصاء  العاملون/ات أو تقييدهم/ن  بسبب خلافات على الخطاب أو الأولويات، لا سيما حين يُفرض عليهم/ن الانحياز لسياسات الممول على حساب قناعاتهم/ن.
في أعقاب الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان مثلًا، بعض المنظمات الكويرية اختارت مهاجمة حزب الله دون المساس بإسرائيل، وأخرى نسوية تخلّت عن دعم مجتمع الميم خوفًا من فقدان التمويل أو التأييد الرسمي. هذا التوتر الداخلي بين “ما يجب قوله” و”ما يمكن قوله” يكشف حجم الانقسام داخل المساحات نفسها، ويؤكد أن التضييق ليس فقط خارجيًا، بل يمارسه الأفراد على بعضهم البعض، حين تُغيب الديمقراطية الداخلية، وتُقدّم أجندة الخارج على مبادئ الداخل.

تضييق الأسرة على المساحات

تستخدم الدولة خطاب “الأسرة” كغطاء أخلاقي لممارسة العنف أو التغاضي عنه؛ فإذا لم تعاقب بنفسها، فسوف تترك للعائلة أو المجتمع مهمة الردع، وهو ما يعرّض الناشطين/ات لخطر مباشر، يصل أحيانًا إلى الإخفاء أو القتل. وتبدأ الانتهاكات من التهديد والتشهير، ولا تنتهي عند الطرد أو الاضطرار للهرب خارج البلاد، كما وثّقت حالات متكررة في الأردن ولبنان.

ومع ضعف الحماية القانونية والتطبيع مع خطاب الكراهية داخل الإعلام ومنصات التواصل، تنغلق المساحات على نفسها أكثر، ويتقلص الهامش الآمن أمام الأفراد، ليعودوا/ن من جديد إلى دائرة الخوف والصمت.

وتُظهِر دراسة أجرتها منظمة Legal Action Worldwide غير الربحية أن أعضاء مجتمع المثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي والمتحولين جنسياً يتعرضون بانتظام لـتمييز منهجي ووصمة عار وإساءة معاملة في المنزل وفي جميع الأماكن العامة، بدءًا من الإسكان والرعاية الصحية والتوظيف، إلى التعليم والضيافة والمتاجر.

وعلى الرغم من تصوير لبنان كملاذ للأشخاص المثليين في الشرق الأوسط، لا يزال يتعين على اللبنانيين التعامل مع رهاب المثلية الجنسية ورهاب المتحولين جنسياً في حياتهم اليومية.

انعكاس التضييقات عربيّا وعالميًا

وتؤدي هذه التضييقات إلى زيادة القيود حول حريّة الرأي والتعبير والمشاركة في الحياة العامة،  وتزايد الهجمات الإعلامية التي تجرّم المثلية، ويزيد من ذلك القانون الجديد لمكافحة الجرائم الإلكترونية الصادر عام 2023 في الأردن والذي يهدد حرية التعبير بشكل خاص حول قضايا النوع الاجتماعي والجنسانية.

ويتضمن بنودًا غامضة تجرّم “الترويج أو التحريض على الفحش”، ما يجعل النشاط الرقمي للكويريين/ات محفوفًا بالمخاطر، ويشجع الرقابة والتدخل في الخصوصيات الشخصية.

وتفاقم الوضع في لبنان نتيجة الأزمة الاقتصادية والسياسية، ويستهدف القمع الحقوق الكويرية عبر وسائل قانونية وأعمال عنف مجتمعية، بالإضافة إلى تضمّن الإجراءات الحكومية منع الأنشطة ذات الصلة بالكويرية، ما أضعف الحركات المدنية ودفع لتشويه صورة الحريات بشكل عام.

وهو ما يؤدي إلى عزل المجتمعات الكويرية والنسويّة دوليًا وزيادة الشعور بالخوف والعزلة، وفي السياقات العالمية، تُظهر هذه الأوضاع التحديات المستمرة في تحقيق المساواة الحقوقية، مما يؤدي إلى تصاعد الضغط من منظمات حقوق الإنسان الدولية على الدول القمعية، في حين تستغل بعض الدول هذه الضغوط لتأكيد سياسات محلية مناهضة للغرب وإغلاق المناقشات حول حقوق الكويريين​.

ويأتي ذَلك رغم ما ينصّ عليه القانون الدولي لحقوق الإنسان، الذي تحظى فيه حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات باعتراف على أنها حقوق إنسانية أساسية، وغالبا ما تكون متداخلة، وضرورية لحسن سير المجتمع الديمقراطي وتمتع الناس بحقوق فردية أخرى.

ويضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والأردن طرف فيه، وصادقت لبنان عليه، حقوق الإنسان الأساسية، منها حرية التعبير، والتجمع، وتكوين الجمعيات، فضلا عن الحماية المتساوية أمام القانون، كل ذلك دون تمييز،  كما أن “لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة”، التي تفسر العهد، صرّحت بوضوح أن التمييز على أساس التوجه الجنسي والهوية الجندرية محظور في دعم أي من الحقوق التي تحميها المعاهدة.

فيما ينص الدستور اللبناني صراحة في مقدمته على أن لبنان “جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفاضل”.

وتنص المادة 13 من الدستور على أن “حرية إبداء الرأي قولا وكتابة وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون”.

ورُغم مما ذُكر هنا، فإن العديد من المساحات ما تزال تستمر للتضييق يوميًا في حين يفضل آخرون عدم ارتيادها خوفًا على حياتهم أو سلامتهم الشخصيّة، في حين يرفض البعض ذكر أسماءهم أو الإشارة إليهم – رُغم إغلاق مساحاتهم- خوفًا من الملاحقة الأمنيّة والمجتمعيّة.

كتابة: شفاء القضاة

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد