حين خذلتني الطائفة

هل حقًّا نحن مكرّمات؟

أن تتربى في بيئةٍ شيعيةٍ “محافظة” يعني أن تسمع باستمرار شعارات عن “إنصاف المذهب الجعفري لنسائه” و”ضمان حقوق النساء عند العقد على المذهب الجعفري”. كبرنا على هذا الخطاب من دون أيّ وعيٍ قانوني، وبالأخص فيما يخص قانون الأحوال الشخصية.

في بيئةٍ تتفاخر باستمرار بأن بعض النساء من المذهب الحنفي يعقدن على المذهب الجعفري باعتباره “ضامنًا لحقوق النساء”، وتستحضر بفخر قصة صدام حسين حين عقد لابنته حلا على الجعفري “ليحفظ حقوقها”، تتكشف المفارقة المؤلمة.

فعلى مدى أكثر من دورة برلمانية، طرحت مقترحات لإقرار المدونة الجعفرية وتعديل المادة (57) الخاصة بالحضانة. وفي كلّ مرة كانت منظمات المجتمع المدني هي الصوت الأبرز في مواجهتها، والنساء الناشطات في الصفوف الأمامية للاحتجاج. لكن في المقابل، ظلت غالبية النساء في البيئة الشيعية غير واعياتٍ تمامًا بخطورة ما تتضمنه هذه المدونة. الانتماء المذهبي كان يعلو على وعي الحقوق، فجعل الموقف أقرب إلى الولاء الطائفي وهذا ما يلعب عليها الاحزاب الاسلامية دائمًا.

يُقال لنا: “ضعي شروطك في العقد”. أي شروط؟ أقصى ما يتحمله الرجل “إثمًا شرعيًّا” إن أخل بوعده!

والحقيقة أن جهلنا بحقوقنا لم يكن صدفة، بل انعكاس لثقافة مجتمع ودولة لم تكترث يومًا بتعليمنا واجباتنا وحقوقنا. حتى النساء المتزوجات لم يكنّ يعرفن من حقوقهن سوى “المهر” الحاضر والغائب، وكثيرًا ما انتهت قصص حب وخطوبات بسبب هذا الموضوع.

الأهل يعتقدون أن المهر هو الضمان الأكبر لبناتهم/ن، وبعضهم/ن يبالغ في رفع المبلغ ليضمن أن الزوج لن يفكر بالطلاق. لكن في النهاية، معظم النساء يخرجن من الطلاق خاسرات، مجبرات على التنازل مقابل الحرية.

كان يثير استغرابي في السابق ما أسمعه عن معاناة النساء في بعض الدول العربية، لبنان تحديدًا، فأتعجّب نحن نعقد على المذهب الجعفري ولم نعانِ مثل هذا، فلماذا يتعرضن هناك لكل هذا الظلم؟

لكن تفجير 4 آب (تفجير المرفأ في بيروت) وما جرى مع الشابة ليليان شعيتو، حين حُرمت من ابنها، دفعتني للتأمل فيما يحدث داخل المحاكم الإسلامية، وبالأخص الشيعية منها. عندها أدركت أين تكمن خطورة المدونة الجعفرية، ولعل تلك الحادثة جعلتني أقف ناقمة على أي محاولة لإقرارها.

 

شروط لم تكتب

المشكلة الأعمق أن مطالب بعض الأهل ومعاييرهم/ن نابعة من عدم وعيٍ قانوني.

لا يفكروا/ن بوضع شروط واضحة في العقد. حتى حين يصرّون شفهيًّا على حق ابنتهم/ن في التعليم أو العمل أو زيارة أهلها، يكون الأمر مجرد كلمات أثناء الخطوبة، غالبا بين الرجال، وكأن كلمة الرجل تكفي.

وأحيانًا، حين يخل الرجل بوعوده، لا يحتكم إلى القانون، بل ترحل القضايا إلى العشيرة. حتى في مسائل مصيرية مثل الحضانة أو النفقة، يُترك مصير النساء في بعض المحافظات المتشددة لسلطة العشيرة التي تفرض كلمتها في حل النزاع.

كنت أسمع عن العقود الغربية للمشاهير، وكيف يضعون شروطًا تفصيلية في عقود الزواج. كان ينظر إليها من قبل بقعتي الجغرافية كمادة للضحك والسخرية.

اليوم، ما كان يُنتقد بالأمس أصبح من حقوق النساء الشيعيات أن يضن شروطهن في العقد، ويتفاخرن/ون في ذلك. لكن الفارق كبير جدًّا؛ فالمشهورات لم يحتجن إلى إذنٍ ليعاملن كبالغات راشدات، بينما نحن نضطر لاشتراط بديهيات كالتعليم والعمل والخروج.

مدونة الطائفة كسرتني

حين قرأت المدونة الجعفرية، شعرت بالاشمئزاز.

أنا التي لم أتزوج بعد، راشدة وبالغة وأملك حق القبول والرفض، وجدت نفسي فجأة أُعامل كسلعة، كأداة جنسية لمتعة الرجل.

كلّ فقرةٍ فيها جعلتني أشعر بأنني خُلقت فقط لأكون “زوجة صالحة مطيعة”، وأنه عليّ أن أكتب كل شروطي كي أعيش نصف إنسانة.

لكن أي شروطٍ هذه؟ أن يسمح لي بالتعليم؟ بالعمل؟ بالخروج؟ ألا يتزوج عليّ؟ وأن تكون كل هذه المطالب “بما يرضي الله”! حتى العلاقة الجنسية صارت في المدونة أولوية تتفوق على بناء أسرة. المدونة لم تكتفِ بضرب الدستور عرض الحائط، بل جعلتني كائنًا من الدرجة الثانية.

المدونة التي يحتفي بها مؤيّدوها/مؤيّداتها ورجال الدين باعتبارها “منحًا للحقوق”، لا تمنحني سوى وجعًا مضاعفًا. أنا التي تفهم معنى أن تكون لي حقوق، وأستطيع أن أرى بوضوح معاناة نساء اللواتي لم يتيح لهن في بيئاتهن حتى فرصة إبداء الرأي. نساء لم يعرفن من الحياة سوى الأعباء المنزلية والرعائية، تصادر حقوقهن علنًا أمام أعين الجميع، فلا صوت لهن ولا خيار.

أشعر بخيانةٍ عميقة من المنظومة الدينية التي رددت على مسامعنا منذ الطفولة أن “الإسلام كرم المرأة”.

وحين يخرج المؤيدين/ات قائلين للبنات: “اختاروا صح”، أشعر بالسخرية والمرارة. كيف نطالب باختيار شريك صالح ونحن أصلًا لم نخيّر يومًا فيما نرتدي، وما نأكل، وما ندرس، وأين نعمل؟ كيف يطلب منا الاختيار ونحن لم نملك حرية القرار في أبسط تفاصيل حياتنا؟ ثم يقال لنا: “ضعي شروطك في العقد”. أي شروط؟ أقصى ما يتحمله الرجل “إثمًا شرعيًّا” إن أخل بوعده. لكن ماذا عن السيناريوهات التي يلتزمون بالصمت تجاهها؟

“ماذا لو زُوجت قسرًا بلا موافقتي؟ ماذا لو انتزع مني حق حضانة أطفالي/ طفلاتي؟ ماذا لو طلّقت فقط لأنني كبرت في السن أو لم أعد قادرة على “القيام بواجباتي الزوجية”؟ ماذا لو تعرضت لحادث أفقدني القدرة على المشي؟”

هذه المنظومة لا ترى النساء إنسانات كاملات، بل تابعات. تفرض عليهن الصبر في السراء والضراء، وتلزمهن بتحمل تقلبات أزواجهن وأوضاعهم المالية، لكنها في المقابل لا تضمن لهن أدنى حقوقهن في الكرامة والاختيار والعيش بإنسانية.

ازدواجية وصدمة

أشعر بخيانةٍ عميقة من المنظومة الدينية التي رددت على مسامعنا منذ الطفولة أن “الإسلام كرم المرأة”.

كبرت وأنا أصدق ذلك، مثل كثير من صديقاتي اللواتي يعشن اليوم صدمة مماثلة. هل هذا حقا الإسلام؟ أم أننا تربينا على أقوال منقولة مشوهة من المجتمع، لا على نصوص القرآن؟

منذ إقرار المدونة وأنا أعيش صراعًا داخليًّا لا يهدأ. أستيقظ مذعورة وكأنني خرجت من معركة. أكتب علّ الكتابة تخفف عني، لكن البرامج التلفزيونية ورجال الدين الذين يتحدثون عن “انتصار مذهبي” يجعلونني أشعر بالضياع. لم تكسرني الحياة كما كسرتني طائفتي.

المؤلم أن القضية ليست زواجًا وطلاقًا فقط، بل كل تفاصيل حياتنا. كل شيء بات مرهونًا بموافقة الأب أو الجد ثم الزوج تعليمنا، عملنا، وحتى مستقبلنا السياسي.

كيف نتحدث غدًا عن العدالة والمساواة وهم قد شرعوا قانونًا يجعلنا تابعات؟

كتابة: فرقان نصيّف

 

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد