التحضّر المزيّف: كيف استباح الرجل الأبيض أجساد نساء غرينلاند؟

على أكبر جزيرة في العالم غرينلاند، وهي إقليم ذاتي الحكم تابع للدنمارك، ولكنها الأقل سكانا، ويغطيها ثاني أكبر غطاء جليدي في العالم، كُتبت واحدة من أكثر فصول الاستعمار الغربي ظلمة، حين قررت الدولة “المتحضّرة” في الشمال الأوروبي إخضاع أجساد نساء شعب الإنويت لسياسات ضبط الإنجاب، بزعم التنمية والسيطرة السكانية، فيما كان الهدف الحقيقي هو إعادة هندسة مجتمعٍ كامل من الداخل – بدءاً من الرحم.

منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى مطلع الثمانينيات، نفّذت السلطات الدنماركية برنامجًا ممنهجًا لتركيب وسائل منع حمل، خصوصًا اللولب الرحمي، لآلاف النساء والفتيات في غرينلاند — أحيانًا لمن لم تتجاوز أعمارهن 12 عامًا — دون علمهن أو موافقتهن.

وتشير التقديرات الرسمية إلى أن أكثر من 4,500 امرأة وفتاة خضعن للإجراء، وهو ما يعادل نصف النساء في سنّ الإنجاب آنذاك.

كانت هذه الممارسات تُقدَّم وقتها على أنها “خطوات صحية حديثة” لتحسين حياة السكان المحليين، لكن خلف لغة الطب والعلم كانت تكمن نزعة استعمارية ترى في جسد المرأة غير الأوروبية مادةً يمكن إخضاعها باسم التقدّم.

تقول إحدى الناجيات في شهادة مؤلمة لوسائل إعلام محلية:”لم أفهم يومًا لماذا لا أستطيع الحمل. كنت طفلة خائفة، والآن أعرف أن حقي في الأمومة سُرق مني دون إذني.”

إبادة جماعية بيولوجية رغم الاعتذار

في أيلول/ سبتمبر الماضي، وبعد أكثر من نصف قرن على بدء هذه الانتهاكات، قدّمت رئيسة وزراء الدنمارك ميتا فريدريكسن اعتذارًا رسميًا للنساء المتضررات، في بيان مشترك مع حكومة غرينلاند.

قالت ميتا: “لا يمكننا تغيير الماضي، لكن يمكننا الاعتراف به وتحمل المسؤولية.”

ورغم الاعتذار وفتح باب التعويض للضحايا اللواتي خضعن لتلك الإجراءات قبل عام 1992، يرى كثيرون/ات أن ما جرى لا يمكن اختزاله في أموال أو لجان، لأن الجرح الحقيقي هو فقدان الثقة في “التحضّر الأوروبي” الذي تبين أنه كان غطاءً لسياسات عنصرية منظمة.

ولاحقاً، أقيمت مراسم رسمية في نووك، عاصمة غرينلاند، أُعلن فيها عن فتح الباب لتقديم طلبات التعويض من النساء اللواتي خضعن لهذه الإجراءات قبل عام 1992، وهو العام الذي استلمت فيه غرينلاند إدارة قطاعها الصحي من الحكومة المركزية في كوبنهاغن.

ووصف قادة / ات غرينلاند ما حدث بأنه “إبادة جماعية بيولوجية”، استنادًا إلى تعريف الأمم المتحدة الذي يشمل “التدابير الهادفة إلى منع الإنجاب داخل جماعة قومية أو عرقية.”
أما بعض السياسيين/ ات الدنماركيين/ات رفضوا/ن الوصف، مدّعين/ات أن القضية “إجراء طبي خاطئ” لا أكثر — وهي محاولة جديدة لتبييض التاريخ وطمس معالم الجريمة.

بينما اعتبرت منظمات حقوقية أوروبية وغرينلاندية القضية فضحًا أخلاقيًا لمركزية الإنسان الأبيض الذي يروّج لنفسه كمدافع عن حقوق الإنسان، بينما مارس، على مدار عقود، التحكم في أجساد النساء والسكان الأصليين باسم العلم والتمدن.

وأعادت قضية سكان الجزيرة، فتح النقاش حول العلاقة الاستعمارية المستمرة بين غرينلاند والتاج الدنماركي، رغم الحكم الذاتي منذ عام 1979. فبينما تُسوّق الدنمارك لنفسها كرمز للعدالة والمساواة الجندرية، تكشف هذه القصة أن الاستعمار لم ينتهِ، بل تغيّر شكله — من احتلال الأرض إلى السيطرة على الجسد.

اليوم، وبعد الاعتذار وإنشاء صندوق تعويض، يبقى السؤال معلقًا في هواء القطب البارد: هل يكفي المال لمحو تاريخٍ استُخدم فيه الطب كأداة استعمار، والحداثة كقناع للوحشية؟

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد