تجسيد العنف في التراث الشفهي: الأمثال الشعبية والنساء

الأمثال لا تُقال عبثًا، بل تُصاغ لتُقيّد النساء

كيف تتحوّل الأمثال الشعبيّة من أقوال متناقلة إلى قواعد تبرر العنف، وتفتح الباب أمام جرائم قتل تُرتكب باسم الشرف والسترة؟ حين يُقال: “البنت إمّا لبيت جوزها أو للقبر”، لا يكون الأمر مجرد مثل، بل اختصارًا لمسار حياة محاصر بالقيود، حيث تُفرض على النساء خيارات تنتهي إمّا بالطاعة أو بالموت.

هذه الأمثال لا تُقال عبثًا، بل تُصاغ لتتحوّل إلى قاعدة سلوك تُقيّد النساء داخل الدائرة الضيقة للعائلة، ثم في المجتمع الأوسع.

 

تصبح حياة النساء رهينة بيد معنِّف يجد في الموروث الشعبي ما يمنحه شرعيّة العنف.

الأمثال الشعبية: من القول إلى قاعدة سلوكية

وإن بدت الأمثال الشعبيّة “حِكَمًا متوارثة”، فهي في الواقع أدوات ثقافية تُعيد إنتاج التمييز وتحوّله إلى ممارسة يومية، بمنطقٍ ذكوري أبعد ما يكون عن الحِكمة.

تتحوّل الكلمة إلى قاعدة غير مكتوبة، وتصبح حياة النساء رهينة بيد معنِّف يجد في الموروث الشعبي ما يمنحه شرعيّة العنف، حتى يصل إلى القتل تحت شعار الحفاظ على ما يُعرف بـ”الشرف”.

هكذا يتجسّد الموروث من القول إلى الفعل، ويتحوّل المثل الشعبي إلى نص اجتماعي يُترجم في الواقع قمعًا وتمييزًا ودمًا. الأخطر أنّ هذه الثقافة لا تُنقل فقط عبر التربية أو الممارسات اليوميّة، بل تُعاد صياغتها باستمرار لتُرسّخ سلطة ذكورية تضبط مصير النساء.

“من الحب ما قتل” و”ظل راجل ولا ظل حيطة”

هذه الأمثال لم تبقَ كلمات فقط، بل تحوّلت إلى واقع مأساوي في حالات عديدة. في كانون الأول/ ديسمبر 2024، قُتلت الصحافية عبير رحال على يد زوجها داخل قاعة المحكمة الجعفرية في شحيم (لبنان). لم يكتفِ القاتل بإنهاء حياتها، بل سجّل مقطعًا مصوّرًا اتهمها فيه بالخيانة قبل أن ينهي حياته، محاولًا منح جريمته شرعية شعبية تختصرها الأمثال: أنّ المرأة التي تخرج عن الطاعة لا مكان لها إلا في القبر.

سبق هذه الحادثة جرائم مماثلة هزّت الرأي العام اللبناني، مثل قتل رلى يعقوب عام 2013 (لبنان) ومنال العاصي عام 2014 (لبنان)، وغيرهن من النساء اللواتي قُتلن بأيدي أزواجهن أو أقاربهن تحت ذرائع الشرف والسترة. وفي كل مرة، تحضر الأمثال الشعبيّة كأنها نصوص ظلّية تمنح القاتل غطاءً ثقافيًا، مثل “ظل راجل ولا ظل حيطة” و”البنت يا بتستر بيت أهلها يا بتفضحه”.

وفوق ذلك تتنطّح بعض الوسائل الإعلامية في تغطياتها لبعض جرائم قتل النساء على أيدي الشركاء، لتبرر الجرائم بذريعة المثال الشعبي الساذج: “من الحب ما قتل”.

 

جاءت الأمثال الشعبية لتجسّد وتبرّر العنف البنيوي والثقافي المتراكم عبر الزمن.

الأمثال كأداة تبرير

لفهم الأبعاد الأعمق لارتباط الأمثال بالعنف البنيوي والثقافي، تقول منى حسونة، مدربة واستشارية في فريق “خطوات” بأن “الأمثال الشعبية لم تُنشئ العنف في المجتمع، بل جاءت لتجسّد وتبرّر العنف البنيوي والثقافي المتراكم عبر الزمن.

المنظومة الذكورية، إلى جانب التمييز الطبقي وتجارب الاحتلال والاستعمار، كلها أسهمت في إنتاج أنماط من الظلم والعنف، انعكست لاحقًا في الأمثال لتبرير سلوكيات مثل عنف الزوج، أو عنف الأب والأخ، أو حتى الخيانة وفقدان الثقة بين الأصدقاء”.

وتكمل: “تكمن خطورة الأمثال في كونها تبرّر هذه الممارسات من منظور أخلاقي أو أدبي أو حتى “محبّة”، في حين أنها في جوهرها إعادة إنتاج لتراكيب عنف موجودة أصلاً. ومن هنا، أهمية العمل تكمن في التفكير بكيفية استبدال هذه الأمثال بصياغة بدائل تعبّر عن قيم لا عنفية”.

وتوضح بأن “جزء من الجهود المبذولة اليوم، سواء من خلال التدريبات أو الجلسات الحوارية أو إنتاج المعرفة، يتمثّل في تفكيك العنف في ثقافتنا وفلسفتنا وممارساتنا، وفي إبراز محاولات المقاومة للعنف التي غالبًا ما يتم تهميشها أو إغفالها إعلاميًا وثقافيًا”.

وفي الختام تؤكد منى بأن “تمكين المجتمعات من فهم العنف وتحليله – ببُعديه البنيوي والثقافي، إضافة إلى تجلياته الظاهرة، هو بداية كسر الحلقة. إدماج التربية على السلام في المناهج الرسمية، في المدارس والجامعات، من شأنه أن يحدث فرقًا جوهريًا، كما أنّ دور الإعلام محوري في حمل الرسائل التي تفسّر العنف بشكل علمي ومنطقي، بعيدًا عن الاتهامات والتخوين، مما يفتح الباب أمام إنتاج ثقافي جديد قادر على تغيير الأمثال الشعبية بمرور الوقت”.

الأمثال تاريخيًا

تعود نشأة الأمثال الشعبية المسيئة للنساء إلى سياقات تاريخية واجتماعية بطريركية، حيث هيمن الرجل على البنية الثقافية وربطت قيمة المرأة بالشرف والزواج والإنجاب. في هذه البيئة الزراعية والبدوية القديمة صيغت أقوال مثل “اكسر للبنت ضلع يطلع لها 24” في مصر أو “البنت إما رجلها وإما قبرها” في المغرب، لتبرير العنف وإخضاع النساء.

تكرار هذه الأمثال عبر الأجيال أسهم في تكوين وعي جمعي يُشرعن العنف اللفظي والجسدي ضد المرأة، ويعمّق صوراً نمطية تؤدي إلى أضرار نفسية واجتماعية خطيرة. كما تؤكد الأدبيات النسوية أن استمرار تداولها يعكس قوة البنى الذكورية في المجتمعات العربية، في حين ظهرت محاولات معاصرة لتفكيكها وإنتاج خطاب بديل قائم على المساواة والكرامة الإنسانية.

تداول مثلٍ شعبي مهين لا يضر المرأة وحدها، بل يؤذي أيضًا الذي يستخدمه

تأثير الأمثال على صورة النساء

وفي هذا السياق، يشير دانيال الذيب، مدرب في فريق “خطوات” إلى أن “الأمثال الشعبية تعكس صورة المرأة التي نراها في المجتمع، فهي بمثابة مرآة تظهر التأثيرات الناتجة عن الصورة الاجتماعية للمرأة. هذه الأمثال ليست محايدة، بل إن تداولها والقبول بها يكرّس هذه الصورة ويعيد إنتاجها باستمرار”.

ويؤكد على أن “الكلمات والأمثال تتحوّل إلى أدوات لتبرير العنف، إذ تعكس الواقع العنيف الذي تعيشه النساء وتبرره من خلال اللغة اليومية. إن تداول مثلٍ شعبي مهين لا يضر المرأة وحدها، بل يؤذي أيضًا الذي يستخدمه، خصوصًا حين يُأخذ على أنه مسلّم به دون تمحيص أو تفكير أعمق”.

ومن جانب آخر يقول: “تُحرَم النساء من مساحات يمكنهنّ من خلالها المشاركة على قدم المساواة، سواء في الإعلام أو العمل أو السياسة، ويستمر هذا الحرمان في تكريس أدوار نمطية محددة. ورغم استمرار تداول الأمثال، أعتقد أنه من الممكن تغيير الموروث الثقافي إذا تم العمل على توفير الفرص المتساوية، وخلق مساحات آمنة للنساء، وإعادة صياغة الأدوار التقليدية، واستحضار تجارب النساء الرائدات التي غالبًا ما تُهمل في الموروث الثقافي”.

المعايير الاجتماعية تُعلي من مكانة الرجل وتُقلل من مكانة المرأة

تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن العنف ضد النساء ليس مسألة فردية فحسب، بل ظاهرة منتشرة عالميًا: نحو ثلث النساء يتعرضن لشكل من أشكال العنف الجسدي أو الجنسي خلال حياتهن. من بين عوامل الخطر البارزة، تُذكر المعايير الاجتماعية التي تُعلي من مكانة الرجل وتُقلل من مكانة المرأة، والمعتقدات الثقافية التي تُشرّع العنف مقابل ما يُعرف بـ“الشرف”، إضافة إلى انخفاض مستويات التعليم.

هذه العوامل تتداخل بشكل مباشر مع الأمثال الشعبية التي تتداول في المجتمعات، إذ إن الأمثال التي تحصر قيمة المرأة بالشرف أو الطاعة تكرّس هذه المعايير الاجتماعية، وتُسهّل ممارسات من قبيل العنف المنزلي أو جرائم الشرف.

 

تفكيك هذه الأمثال لا يقتصر على نقدها، بل يتطلّب مبادرات شاملة تسعى إلى تغيير الثقافة من جذورها

نحو مبادرات تغييرية

لا يمكن النظر إلى الأمثال الشعبية المسيئة للنساء كأقوال عابرة أو موروث لغوي بريء؛ فهي في حقيقتها جزء لا يتجزأ من البنية الثقافية والاجتماعية التي تُشرعن التمييز وتبرّر العنف. وحين تتحوّل هذه الأمثال إلى قواعد سلوك غير مكتوبة، تصبح النساء في مواجهة مباشرة مع عنفٍ يوميّ يُغذّيه الموروث ويمنحه غطاءً شرعيًا.

العمل على تفكيك هذه الأمثال لا يقتصر على نقدها، بل يتطلّب مبادرات شاملة تسعى إلى تغيير الثقافة من جذورها: إدماج التربية على المساواة واللاعنفيّة في المناهج، إنتاج معرفة نسوية بديلة، فتح مساحات إعلامية آمنة تعكس قصص النساء وتجاربهن، وتطوير خطاب جماعي يُعيد صياغة الموروث بما يخدم الكرامة الإنسانية.

التحدي يكمن في تحويل هذه المبادرات من محاولات متفرقة إلى حركة مجتمعية مستمرة، قادرة على خلق بيئة لا تكتفي برفض العنف، بل تُنتج بدائل ثقافية تُحاصر الأمثال العنيفة وتُضعف قدرتها على الاستمرار.

فالموروث الشعبي ليس قدرًا محتومًا؛ يمكن تغييره حين تتوفر الإرادة والمعرفة والشراكة المجتمعية.

 

كتابة: ناهلة سلامة

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد