
العاملات التونسيات: أرقام تتضاعف في سجّلات الحوادث
شهد أحد مصانع المواد الغذائية بمنطقة بن عروس بتونس العاصمة حادث شُغل مأساوي، حين لقيت الشابة سمر، ذات التاسعة عشر عامًا، مصرعها نتيجة الإهمال وغياب شروط السلامة المهنية.
في صباحٍ عاديّ، كانت سمر تتفقّد مصعد البضائع لتتأكّد إن كان يحتوي على شحنة. لكن في لحظة إدخال رأسها هوى المصعد فجأة، فقطع رأسها في مشهدٍ مروّع ترك العاملات في صدمةٍ لم تبرأ منها ذاكرتهنّ بعد.
View this post on Instagram
العاملات أنفسهن أكّدن بأنّهن قد حذّرن مرارًا إدارة المصنع من خطر المصعد بعد عدّة حوادث خطرة، لكنّ أصواتهن لم تُسمع.
حادثة سمر لم تكن استثناءً، بل هي مرآةً لواقعٍ تتكرّر فيه المآسي تحت صمتٍ إداريٍّ خانق. فغياب شروط السلامة المهنية صار كابوسًا يُلاحق النساء العاملات في المصانع التونسية، يغتال أحلامهنّ البسيطة في حياةٍ كريمة. وهو ذاته الذي يُطارد العاملات الفلاحيات في الحقول، أولئك اللواتي يركبن “شاحنات الموت” كل صباح، وهنّ يحملن أكفانهن على ظهورهنّ، وفي المساء يقلن لأنفسهنّ: “الحمد لله.. لقد تركنا القدر نعيش ليلة إضافية أخرى.”
يُظهر الواقع الاقتصادي التونسي، خصوصًا في المناطق الداخلية والجنوبية، أنّ بنية العمل ما تزال محكومة بتراتبية جندرية تُعيد إنتاج السيطرة الذكورية في فضاءات السوق والإنتاج. فالعمل هنا ليس مجرد نشاط اقتصادي، بل امتداد لنسقٍ اجتماعي أبوي يُعرّف النساء ضمن منطق “الإعالة” لا “الاستقلالية”. تشتغل الرأسمالية التونسية، في صيغتها النيوليبرالية، على إعادة تدوير هذا النسق عبر تحويل هشاشة النساء إلى مورد إنتاجي. إنّها رأسمالية متوشّحة بملامح أبوية، تُعيد تشكيل جسد النساء كقوّة عمل منخفضة الكلفة، وتبرّر استغلالها بحجّة تمكينها وإدماجها الاقتصادي، بينما تُقصيها عن مواقع القرار وتُبقيها في الهامش الإنتاجي.
“نحن مجرد رقم”: شهادة من قلب مصنع للآلات الكهربائية
بدل إنقاذي، هُدِّدت بعملي إن تكلّمت عن عطل الآلة، وأُجبرت على توقيع وثيقة تنفي مسؤولية المصنع تُجاهها.
بصوت مُتعب، تروي سعاد (اسم مستعار)، وهي عاملة في مصنع لصناعة القطع الإلكترونية قصّتها لشريكة ولكن. “كُنت أعمل على آلة تُعرف باسم ‘آلة الكابل’. وقد لاحظت أنّها تستهلك كمية كبيرة من مادة العزل، فأعلمت المشرفات بأنّها معطّلة وقد تسبّب ضررًا، لكن لم يُنصت إلى تنبيهي أحد.”
وبعد أسبوعين من إعلام سعاد المتكرّر للمشرفات وللإدارة عن المشاكل التقنية للآلة، تعطّلت هذه الأخيرة فجأة وجذبت مئزرها ومعصمها معه عوض أن تسحب الكابل. تمزّقت أوتار كتفها وسقطت باكيةً من الألم. لم تُحرّك إدارة المصنع ساكنًا، وبدل إنقاذها على وجه السرعة صرخوا/ن عليها وهدّدوها/هدّدنها بعملها إن تكلّمت عن عطل الآلة، كما أمضوها على وثيقة تنفي مسؤولية المصنع تُجاهها.
في المصنع، نحن لسنا بشرًا، ينادوننا ويشيرون إلينا بالأرقام. كأنّنا آلات للإنتاج والربح السريع.
خرجت سعاد وحدها إلى المستشفى، ثم بدأت رحلة المماطلة بين الإدارة والضمان الاجتماعي، قبل أن تُفاجأ بأنّ أيام غيابها لن تُحتسب لأنّها لم تقدّم الشهادة الطبية في الوقت المحدّد. كما أنّها تعمل بعقد مفتوح وبالتالي هي ليست منخرطة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ولا تتمتّع بالتأمين على المرض في حال لم تتكفّل الإدراة بعلاجها، وهو ما حصل بالفعل.
“في المصنع، نحن لسنا بشرًا، ينادوننا ويشيرون إلينا بالأرقام. كأنّنا آلات للإنتاج والربح السريع.” بهذه الكلمات لخّصت سعاد معاناة النساء في المصانع، ففي ظلّ غياب السلامة المهنية وتهميش حقوق العاملات وترقيمهنّ دون النظر إلى هوياتهن، تسقط الإنسانية عليهن حالما يدخلن باب المصنع ويُصبحن مصدرًا للربح السريع. تعمل سعاد سبع ساعات يوميًا، مقابل 3200 مليم (ما يعادل دولار واحد) في الساعة، أي نحو 21 دينارًا (7 دولارات) في اليوم، ليصل مرتّبها إلى 600 دينار (204 دولار) وأحيانا 500 دينار شهريًا (170 دولار) بعد الخصومات.
“أعمل طوال اليوم، رأسي مطأطأ وكتفايا معقودتان، وفي النهاية ما أجنيه لا يكفي حتى لمصاريف البيت.” بهذه الكلمات ختمت سعاد شهادتها وهي الثلاثينية التي تُحاول جاهدة مساعدة زوجها في مصاريف البيت ومصاريف ابنتها الوحيدة، لكنّها لا تخفي خوفها من مستقبل مجهول وسط مصنع لا يهتّم بسلامة النساء ولا يحترم كياناتهن وبإمكانه التخلي عليهن في أيّة لحظة نظرا للعقد المفتوح.
تواصلنا مع المسؤولة الإدارية على المصنع المذكور، وحاولنا أن نفهم الأسباب وراء الإهمال وغياب السلامة المهنية عبر حادثة سعاد، لكنّها اختزلت مقابلتنا بأنّها سوف تفتح تحقيقًا في عدد الآلات المعطّلة دون إضافة أيّ كلمات حول الظروف الصحيّة لسعاد أو الاعتراف بأنّه حادث عمل.
استوقفتنا حادثة سُعاد عند قطاع يُعتبر الأقسى مقارنة ببقيّة القطاعات في المصانع. فقطاع النسيج في تونس -خاصّة بولايات الساحل مثل المنستير وسوسة- يعتمد بشكلٍ شبه كليّ على اليد العاملة النسائية وهو لا يختلف عن ظروف العمل في مصانع المواد الغذائية أو الإلكترونية، بل توصف ظروف العمل فيه بأنّها الأسوء لأنّها تعتمد على عدّة وظائف كالتجميع والخياطة اليدوية، وهي أعمال متعبة جسديًا، متكرّرة، وتُفتقر لأبسط تجهيزات السلامة حسب تقرير لمنظّمة Fair Wear لسنة 2020 وهذا ما يُعتبر استغلالا مضاعفا مرّتين أو أكثر للنساء.
بينما تُقدَّم تلك المصانع كرمز لتحرّر النساء من البطالة والفقر، فإنّها تُعيد في الواقع إنتاج منطق الاستغلال المزدوج.
يُشير التقرير ذاته أنّ نحو 80% من العاملين/ات في قطاع الملابس هنّ نساء، وفي تونس تُشكّل النساء نحو 85% من الأجراء في مصانع النسيج. كما تُسجّل تقارير منظمة العمل الدولية فجوة أجور بين النساء والرجال تصل إلى 19%، بينما تُظهر بيانات البنك الدولي لسنة 2019 أنّ معدّل مشاركة النساء في سوق العمل لا يتجاوز 26.6%، وأنّ بطالتهنّ تصل إلى 22%، أي ضعف معدّل بطالة الرجال تقريبًا.
تُعدّ العاملات في مصانع النسيج والغذاء من أكثر الفئات تجسيدًا للتقاطعات بين الطبقة والنوع الاجتماعي. فبينما تُقدَّم تلك المصانع كرمز لتحرّر النساء من البطالة والفقر، فإنّها تُعيد في الواقع إنتاج منطق الاستغلال المزدوج: من جهة يستفيد ربّ العمل من موقعهن الطبقي الضعيف، ومن جهة أخرى تُشرعن الثقافة الأبوية تبعيتهن بدعوى أنهن يُساعدن العائلة لا يُعِلنها.
يتجسّد في ذلك ما تُطلق عليه عالمة الاجتماع والنسوية الفرنسية كريستين ديلفي بـ “العمل المنزلي الموسّع”، حيث يُعاد إنتاج منطق الخدمة والطاعة داخل فضاء الإنتاج. كما يُمكن قراءة هذا الوضع من خلال عدسة الناشطتين النسويتين أنجيلا ديفيس وسيلفيا فيديريتشي اللتين ربطتا بين الرأسمالية وتملّك الجسد الأنثوي، إذ يُعامل جسد العاملة كآلة إنتاج لا كذات إنسانية، ويُقيَّم وفق ساعات العمل والقدرة على التحمّل لا وفق الكرامة أو العدالة.
من الحديد إلى التراب: العاملات الفلاحيات… وجع آخر
في الأرياف التونسية، يتّخذ الاستغلال شكلاً أكثر خشونة. فالنساء الفلاحات يخضعن لمنظومة مزدوجة من الإقصاء: طبقي وجغرافي. لا يملكن الأرض ولا رأس المال، ويُختزل دورهن في العمل الموسمي مقابل أجور زهيدة لا تعكس حجم المجهود الجسدي أو خطر التنقّل اليومي. إنّ ما يسمّيه عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو بـ”العنف الرمزي” يتجلّى هنا في قبوله كأمر طبيعي، إذ تشرعن الأعراف المحلية إخضاع النساء للعمل المرهق بوصفه مساعدة للعائلة.
من منظور نسوي تقاطعي، يتقاطع هنا النوع الاجتماعي مع الطبقة والمجال الريفي لتكوين شكل من العبودية الحديثة التي تحافظ على النظام الأبوي والرأسمالي في آن واحد. فالفلاحة التونسية ليست مجرّد عاملة، بل تمثّل شكلًا آخر مزدوج التهميش: امرأة/فتاة، وريفية، وفقيرة.
“تتمركز العاملات الفلاحيات أساسًا في المناطق الريفية مثل سليانة، القيروان، سيدي بوزيد، جندوبة، القصرين، وجبنيانة. وتتراوح أجورهن بين 15 و25 دينارًا (من 5 إلى 8 دولارات) في اليوم حسب المواسم، ضمن نظام وساطة، حيث يقتطع (الكهرباجي) صاحب السيارة والوسيط جزءًا من أجرهنّ مقابل النقل إلى الحقول.” حسب المسؤولة عن الجانب الاقتصادي والاجتماعي لجمعية أصوات نساء رحمة العيدودي، واصفة واقع العاملات الفلاحيات بأنّه “أحد أكثر وجوه التهميش قسوةً في تونس”.
وتُضيف أنّ أغلبهنّ يعملن دون عقود شغل ولا تغطية اجتماعية، ما يحرمهنّ من أيّ حماية في حال وقوع حادث.
أمّا ظروف العمل فـ”قاسية إلى حدّ اللا إنسانية”، إذ يعملن تحت الشمس أو في البرد دون معدّات وقاية، وغالبًا دون مياه شرب أو مرافق صحيّة. أمّا وسائل النقل فهي شاحنات مخصّصة للبضائع أو الحيوانات، تُستعمل لنقل النساء بسبب انعدام البدائل، وقد أودت بحياة العشرات منهنّ في ما يُعرف بـ”شاحنات الموت”. فقد سُجّلت سنة 2024 حسب رصد قامت به جمعية أصوات نساء 128 إصابة و5 وفيات في حوادث الشاحنات.
تقرّ القوانين التونسية بحقوق العاملات وبالحد الأدنى للأجر، إذ يحدّد الحد الأدنى الفلاحي بـ16.5 دينار يوميًا (حوالي 5.5 دولار)، لكن أغلب العاملات لا يتقاضين هذا المبلغ. هذه الفجوة بين النصّ والتطبيق تعكس هشاشة البنية الاقتصادية والاجتماعية التي تُحيط بالنساء العاملات، سواء في المصنع أو في الحقل.
في المصنع، تواجه النساء غياب السلامة المهنية والتهميش والإهمال، وفي الحقول يواجهن انعدام الحماية القانونية وخطر الموت في الطريق إلى العمل. وفي الحالتين، يختزل النظام الاقتصادي أجسادهن في أرقامٍ تُسجَّل في كشوفات الإنتاج أو في سجلات الحوادث.
لسنا مجرد أرقام.. “ماناش مسلّمين في حقوقنا شادين”
بين حديد المصنع وتراب الحقل، تمتدّ حكاية النساء التونسيات العاملات كخيطٍ واحد من الكفاح والمقاومة. يُقسن يومهنّ بآلام الظهر، والخوف من السقوط أو الاصطدام أو الانزلاق من شاحنة.
ورغم ذلك، يواصلن العمل، لا لأنهنّ لا يخشين الموت، بل لأنّ الحياة التي على الجانب الآخر من البطالة أشدّ قسوة. إنهنّ عماد الاقتصاد غير المرئي، وسند بيوتٍ كاملة، وأصواتٌ تخنقها الضوضاء الصناعية وهدير الشاحنات، لكنّها ما زالت قادرة على أن تقول ولو بصوتٍ خافت: لسنا مجرد أرقام، أو تصرخ “ماناش مسلّمين في حقوقنا شادين” (لن نسلّم في حقوقنا ومتمسّكات بها) كما سمعنا ذلك في حراك أصوات عاملات الفلاحة في ماي الفارط.
تكشف المقارنة بين العاملات والفلاحات أنّ النظام الاقتصادي في تونس لا يكتفي بتقسيم العمل وفق الكفاءة أو السوق، بل يُعيد إنتاج الهرمية الجندرية في قلب العملية الإنتاجية. فالمؤسسات الصناعية الكبرى كما الحقول الزراعية تعمل ضمن منطق الرأسمالية الأبوية التي تحدّثت عنها المتخصّصة البريطانية في علم الاجتماع والجريمة سيلفيا والبي: نظام يجمع بين السلطة الذكورية داخل الأسرة والاستغلال الرأسمالي في السوق. إنّ الأجر المنخفض، والعمل غير المؤمَّن، وغياب الاعتراف الاجتماعي هي أدوات لضمان استمرار تلك السيطرة. هكذا، يتحوّل عمل النساء إلى اقتصاد غير مرئي يدعم النموّ الرأسمالي دون أن يمنح صاحباته اعترافًا أو سلطة. والنتيجة هي إعادة إنتاج دورة الهيمنة التي تتغذّى على هشاشة النساء لتُبقي النظام الأبوي في توازنٍ دائم مع مصالح السوق وتُبقي الأدوار تدور في أطر عدم المساواة وعدم الإنصاف.