ماذا يعني أن تكوني امرأة غير متزوجة في مجتمع عربي؟

حكايات ستات "مش على ذمّة حد"

أن تكوني امرأة في المجتمع العربي هو تحدٍّ، ولكن أن تكوني امرأة غير متزوجة، قرّرت أن يكون لها قرارات مختلفة تمامًا عن الطريقة التي يلقّنها الأهل، الأقارب، الجيران والأصدقاء، فهذا قرارٌ مجبولٌ بالعناء!

أن تكوني “المرأة النموذج” من وجهة نظرهم/ن، الزوجة والأم فقط وغير ذلك كماليات ورفاهية ليست هامة، حتى لو كان اختيارك هو عدم الزواج فعًلا، فلن يكون عملك أو نجاحك المهني أو استقلالك محل ترحيب!

هذه “حياتك الشخصية”، وأنت “امرأة راشدة بالغة حرة الإرادة”، ولكن هذا ليس مهمًّا بالنسبة للمنظومة الأبوية. الصدام قادمٌ لا محالة، قرارتك وحريتك مستباحة من الجميع.

مطلّقة أفضل من عانس: كأن الزواج، ولو فاشلًا، يمنح أي امرأة اعترافًا اجتماعيًا بمرورها عبر “الطريق الصحيح”.

في كل مناسبة، تُسمَع العبارة ذاتها تتردد بخفةٍ على الألسنة: “عقبالك”، “هنفرح بيكي امتى؟”، تبدو الكلمات عادية، محمّلة بالحب والدعاء، لكنها بالنسبة لكثير من النساء تحمل طيفًا آخر من المعاني؛ كأنها تذكيرٌ ناعم بأن شيئًا ما ما زال ناقصًا، وأن اكتمال المرأة لا يكتمل إلا بخاتمٍ في إصبعها.

نساء من أعمار وتجارب مختلفة يروين لـ”شريكة ولكن”، كيف تحوّلت هذه العبارات من مجاملات اجتماعية إلى وخزٍ نفسي متكرر، ما وضعهن في مواجهة مع المجتمع، ليتساءلن عن قيمتهن، وعن موقعهن في سردية الحياة التي تُقاس غالبًا بمدى اقترابهن من الزواج لا بما حققنه فعليًّآ.

تتحدث بعضهن عن عزلةٍ غير مرئية، تبدأ من الجلسات العائلية ولا تنتهي في أماكن العمل.

وأخريات يصفن نظرات الشفقة أو الفضول التي تلاحقهن أينما ذهبن، وكأن كونهن غير متزوجات يحتاج إلى تفسير أو تعاطف. وبين الساعة البيولوجية التي تذكّر بالجسد، والساعة النفسية التي تصرخ طلبًا للهدوء والاختيار، تجد بعض النساء أنفسهن في سباقٍ غير عادل، لا ضد الزمن فقط، بل ضد توقعاتٍ اجتماعية لا ترحم.

جسد مُنتهي الصلاحية!

تحكي ناهد (38 سنة)، مهندسة معمارية، كيف لم يشفع لها نجاحها المهني واستقلالها المادي من نظرة والدها المجحفة والنمطية لها كفتاة. النظرة التي تذكرها دائمًا، بإن الوقت يمر وليس في صالحها، فهي مجرد جسد له تاريخ صلاحية للإنجاب، وإذا انتهت صلاحيته لن يقبل رجل بالزواج منها.

تقول: “عيلتي والمجتمع شايفني مجرد سلعة زي (برطمان مربى)، له تاريخين إنتاج وانتهاء صلاحية، لو متجوزتش بسرعة، هتفسد مع مرور الوقت ومحدش هيقرب له.، أبويا كل نهار يوبخني على رفضي للعرسان اللي بيتقدموا لي، لإن شيفاهم غير مناسبين، ومن حقي اختار شريك حياتي.”

وتتابع: “بيقولي مين هيرضى بيكي بعد ما كبرتي، هيعمل بكي إيه؟ وهيجيب منك عيال إزاي؟!”

حق السكن ممنوع للعازبات

بينما تعاني رحمة (31)، باحثة، مثلما تعاني ملايين النساء في المجتمعات العربية المعادية لاستقلال النساء. مجتمعاتٌ لا تؤمن بأحقية النساء في سكنٍ مستقل قبل الزواج، لإنها تنظر للنساء كملكية خاصة للعائلات وخصوصًا الآباء أو الأخوة، ثم تنتقل للأزواج، ومن ثم لا مجال أن تفكر أي فتاة في الاستقلال في السكن، وعليها أن تخوض معركة صعبة حتى تنجح في اقتناص أربعة جدران تعيش فيها في خصوصية وآمان.

“أن أكون امرأة غير متزوجة في مجتمع عربي، هو وضع يجعل اختياراتي الحياتية، محل محاكمة اجتماعية، وكأني خارج النص المرسوم للنساء”، تقول رحمة.

تُكمل: “لما حاولت ألاقي شقة، أسكن فيها بمفردي كمُطلقة/غير متزوجة، أغلب الملاك بيرفضوا من البداية لمجرد إن مفيش زوج في الصورة. في الآخر ما قدرتش أستأجر شقة غير لما بابا هو اللي مضى العقد معايا، وكأن وجود رجل شرط أساسي علشان حقي الطبيعي في السكن يتحقق.”

ممنوعة من السفر.. ممنوعة من الحياة

لا يمكن فصل قضية حرية النساء عن واقعهن الطبقي والاقتصادي، فالمكانة الاجتماعية تحدد إلى حدٍّ بعيد مساحة الاختيار، وحدود الصمت أو التمرد. المرأة التي تملك استقلالًا ماديًا أو تعليمًا جيدًا تستطيع أن تفاوض المجتمع حول خياراتها الشخصية، وأن ترفض أدوارًا مفروضة عليها دون أن تخشى تبعات الفقد أو الحاجة.

في المقابل، تُدفع النساء من الطبقات الأفقر إلى الامتثال للمعايير التقليدية حفاظًا على ما يُعرف بـ”الستر” أو الأمن الاقتصادي، لا اقتناعًا بالضرورة. لذا يتحول الفقر من مجرد واقع مادي إلى أداة ضبط اجتماعي تُكرّس خضوع النساء وتحد من قدرتهن على إعادة تعريف ذواتهن أو مسارات حياتهن. وبذلك، تصبح العدالة الجندرية مشروطة بعدالة اقتصادية أعمق، لا يمكن الحديث عن الأولى دون تحقيق الثانية.

فاتن (41 عامًا)، صحافية ناجحة تعيش في منطقة شعبية. منطقةٌ ترى النساء بصورة نمطية بحته بكل ما تحمله هذه المنطقة من أفكار تقليدية وأبوية. تقول فاتن: “يعني إيه واحدة متجوزتش في مجتمع شرقي محافظ، وممكن كمان تكون ساكنة في منطقة شعبية، وتأخرت في الجواز أو حتى مش متجوزة. الحاجة الأولى؛ إنها هتكون تحت المجهر جدًا، لازم هنطلع فيها عيب ما هي مش معقولة تكون ما اتجوزتش لحد النهاردة كده ومش معيوبة”

تُكمل فاتن: “ومتجوزتش، لإن العرسان بتطفش منها، ليه؟! أكيد في حاجة فيها يا إما في شكلها، إما في طريقتها، إما في طباعها اللي أكيد لا تطاق يا إما مايصة وبتضحك في الشارع! وشخصيتها مش مظبوطة يا إما غفير وبتمشي مشية العسكري، وهذه الجملة قالتها جارتنا لأمي: بنتك بتمشي زي العسكري مين اللي هيرضى يتجوزها ما هم أكيد بيطفشوا من كده.”

تدلل فاتن أن الطبقة تسيطر على حريات النساء وحقهن في العمل والسفر، وإنها تتعرض لاختراق في حياتها الشخصية من أهل منطقتها لمجرد إنها مختلفة وتسافر خارج البلاد في رحلات عمل.

تحكي: “بعاني من تركيز رهيب جدًا على لبسي، شكلي، مظهري، خروجي ودخولي للمنزل، يسأل الجيران عن كل شيء، وكأني طالما غير متزوجة معنديش راجل، فأنا متاحة ومشاع للجميع يتكلموا عن حياتي الشخصية بدون حدود. إحدى الجيران قالت لأمي، ليه بتشتغل، هو انتو مش لاقيين تأكلوها، وإزاي بنت بنوت، ما اتجوزتش وبتسيبوها تسافر لوحدها؟”.

مُطلقة أفضل من عانس!

في مفارقة لافتة، يُظهر المجتمع الأبوي، أحيانًا قدرًا من التسامح مع لقب “مطلقة” أكثر من “عانس”.

فبينما تُوصف غير المتزوجة بأنها “لم تُختر بعد”، تُمنح المطلقة -ولو ضمنيًا- شرعية التجربة، وكأن الزواج، ولو فاشلًا، يمنح أي امرأة اعترافًا اجتماعيًا بمرورها عبر “الطريق الصحيح”.

هذا التناقض قد يدفع كثيرات إلى الزواج بدافع الخلاص من وصمة “العنوسة” لا عن قناعة، بل عن خوف من نظرات المجتمع وأسئلته المكررة. هكذا، تتحول مؤسسة الزواج في بعض الأحيان من خيارٍ شخصي إلى درعٍ اجتماعي يحمي من الأحكام، ويمنح لقبًا أكثر قبولًا في عيون الآخرين، حتى لو كان الثمن حرية النساء وسلامهن النفسي.

ولكن نهال (32 عامًا) طبيبة وجراحة مخ وأعصاب، لم تستسلم لهذه التناقضات وضغوط العائلة التي تمرر لها فكرة قبولهم/ن بطلاقها عن بقائها عزباء بدون زوج، او كما يطلقون بالمصطلح الذكوري الدارج “عانس”.

تحكى نهال: “حتى لو كنتي دكتورة ناجحة ومتحققة، ومُستقلة ماديًا ومركزك العلمي مرموق، كل ده مالوش معني في تجمعات الأقارب وحضور الأفراح وأسئلة الجيران. وتفضل كلمة هنفرح بيكي أمتى، عقبالك، لعنة بتلاحقك في كل مكان، كأن المجتمع مش هيديكي العلامة الكاملة إلا لو بقيتِ على ذمة راجل!، هو أنا لازم أكون على ذمة حد، مينفعش أكون على ذمة نفسي؟!”

خالتي بتقولي “والله لو حتى طلعتي القمر الست ملهاش قيمة الإ لو اتجوزت، ونصحتني بالجواز حتى لو أطلقتِ بعدها، فلقب مطلقة أفضل من عانس.”

كإنك ناقصة!

“بكره نظرة الصعبانيات والشفقة اللي بشوفها في عيون الناس لإن مش متجوزة! بيشوفوا البنت اللي تأخرت فيها حاجة ناقصة، رغم إني بعمل حاجات تانية وسعيدة بها من غير الجواز، حتى الخياطة بتعض شفايفها أما عرفت سني، وبتدعيلي ربنا يرزقك، وكأن في سباق مع الزمن لازم اجري عشان أوصل لمحطة الجواز؟!”، تقول أسماء (31 عامًا).

تُكمل: “عمي في فرح بنته، بيقولي عايز ارقصلك قبل ما أموت، ليه بترفضى العرسان اللي بيتقدموا لك؟! بقوله عشان مش مناسبين، فاجأني برده: بس أنا شايفهم مناسبين ليكي؟!”…  تضحك.

على الرغم، من أن هذه الشهادات السابقة التي وثقتها “شريكة ولكن” تحمل معاناة وقسوة من المجتمعات الذكورية تجاه النساء، لكن في ذات الوقت، نجدهن ملهمات قادرات على المواجهة وعدم الرضوخ للمعايير التقليدية.

نساء يواجهن بشجاعة هذه النظرة المجحفة، هن مناضلاتٌ قادرات على إعادة تعريف ذواتهنّ خارج إطار هذا الارتباط، انطلاقًا من إيمانهنّ بأنّ قيمتهنّ لا تُقاس بوضعهنّ الاجتماعيّ بل بقدراتهنّ وخياراتهنّ.

 

كتابة: هاجر عثمان

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد