“نشوة الجنود” بعد قتل المدنيات/ين في الفاشر

شهادات توثق الجرائم

على مدى ثمانية عشر شهرًا، كانت مدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور (السودان) تعيش حصارًا قاسيًا فرضته قوات الدعم السريع. المدينة المكتظة بالسكان والمخيمات تحوّلت إلى فضاء مغلقٍ على الجوع والمرض والرعب، إلى أن انهار الحصار في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2025 مع بدء هجوم دموي انتهى بسيطرة القوات على المدينة بعد معارك ضارية مع الجيش السوداني الذي تحصّن داخل مقر الفرقة السادسة. ومع دخولهم، تحوّلت الفاشر إلى مسرحٍ مفتوحٍ لعمليات قتل جماعي وانتهاكات وجرائم وصفتها الشهادات بأنها جريمة إبادة وتصفية عرقية ضد المدنيات/ين من سكان المدينة والمخيمات المحيطة بها. فالمشاهد التي ترويها الناجيات والناجون تتجاوز أرقام القتيلات/ القتلى إلى وصف لحالة “نشوة القتل” التي استبدت بالجنود، كما لو أن سفك الدم صار طقسًا للاحتفال بانتصارٍ مأزومٍ على أجساد المدنيين العزّل.

 

مروة سليمان: “كانوا يتسلّون بالقتل”

في شهادةٍ مؤلمة، تقول مروة سليمان، وهي أمّ لستة أطفال نزحت سابقًا من مخيم زمزم إلى داخل الفاشر، إنها كانت تستعد ليومٍ آخر من الجحيم الذي طال أمده، لكنها فوجئت بأرتال عسكرية تقتحم الحي القريب من مقر الجيش وسط صراخ الجنود وإطلاق الرصاص في كل اتجاه. تصف المشهد بقولها: “خلال فترة الحصار شاهدتُ حالات قتل كثيرة، لكن عند دخولهم المدينة كانوا يتلذذون بقتل المدنيات/ين وكأنهم يلهون بلعبة. كانوا يقتحمون المنازل ويطلقون النار من مسافة صفر من دون أن يوجهوا أي سؤال”. فقدت مروة ابنها البكر الذي لم يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره حين أطلقوا عليه النار أمام منزلهم. تروي وهي تكتم صرختها: “سمعتُه يتوسّل ألا يقتلوه، سمعتُ أصداء سقوطه أرضًا بينما أنا أختبئ مع أطفالي داخل نفقٍ تحت الأرض. كتمتُ صراخي خوفًا على الباقيات/ين، كنت أتمنى أن أتمكّن من إسعافه لكن الجنود واصلوا مداهمة المنزل وسرقته، فهربت في الاتجاه المعاكس”. في طريقها، رأت مروة الجثث تملأ الشوارع والدماء تسيل في كل زاوية، بينما تُرك الجرحى والمصابات/ون لمصيرهن/م. المشهد، كما تصفه، لا يشبه سوى مقطع من جحيمٍ متحرّك.

 

هارون حامد: قتلٌ من منزلٍ إلى آخر

يتقاطع ما روته مروة مع شهادة هارون حامد، أحد الناجين الذي خرج من المدينة قبل سقوطها بأيام، بينما بقي شقيقه وزوجته في المنزل خوفًا من التعرض لانتهاكاتٍ على الحواجز الأمنية أثناء الهروب. يقول: “اقتحم الجنود المنزل وقتلوهما معًا. كانوا ينتقلون من بيت إلى آخر يقتلون من يجدونه، حتى امتلأت الطرقات بجثث النساء والأطفال والرجال خلال ساعات. كانت عملية انتقامٍ متعمّدة ضد السكان، بزعم أنهم متسلحون أو مؤيدون للجيش”. هذه الشهادة، مثل غيرها، تفضح طابع الجريمة المنهجية، التي تجاوزت المعارك العسكرية إلى استهداف المدنيات/ين على أساسٍ عرقي وإثني وجغرافي، لتتحول إلى شكلٍ من أشكال التطهير الجماعي والانتقام من مجتمعٍ صمد تحت الحصار.

زينب إبراهيم: حاجز الموت والتحرش بالنازحات

أما زينب إبراهيم فشهادتها تُعيد تعريف القسوة. تتحدث عن هروبها مع زوجها وأطفالها من المدينة حتى وصلوا إلى الساتر الترابي الذي كان يُعرف بين الناس بـ“حاجز الموت”. هناك، كما تروي، أوقفهم المسلحون، شتموهم بألفاظٍ عنصرية، وبدأوا بتفتيش النساء بطريقة مهينة وصلت إلى حدّ التحرش الجنسي، ثم سمحوا لهنّ بالعبور واحتجزوا الرجال الذين كانوا أكثر من سبعين شخصًا. تقول زينب: “بعد خطواتٍ قليلة، سمعنا الرصاص ينهمر عليهم. قتلوا الجميع وتركوا الجثث في العراء. كانت رائحة الموت في كل مكان، والجنود يتسابقون في القتل وكأنهم في سباقٍ نحو المجد الدموي. كانت أسلحتهم مليئة بالرصاص، وبعد انتهاء معركتهم مع الجيش قرروا إفراغها في صدور المواطنات/ين ورؤوسهن/م”. وتختم: “شاهدتُهم يقتلون النساء والأطفال وحتى الدواب التي كانت تحمل أغراض النازحات/ين”. في هذه الشهادة تتجسد معاني الإذلال المضاعف، إذ لا يقتصر العنف على القتل بل يمتد إلى الأجساد كأرضٍ مستباحةٍ بالقهر والتحرش، كأن الحرب تستمد نشوتها من تعذيب النساء ومحو حضورهن الإنساني.

 

حين يتحوّل الجندي إلى قاتلٍ سعيد، ويتحوّل القتل إلى متعةٍ معلنة.

عائشة يعقوب: نجاةٌ من تحت الرصاص

ومن زاوية أخرى، تروي عائشة يعقوب أنها نجت من الموت بأعجوبة حين صادفت عربة قتالية لقوات الدعم السريع أثناء فرارها مع عشرات النازحات/ين. “أطلقوا النار علينا من مدفع رشاش فسقط عددٌ كبير خلفنا، كنا نركض وسط بركٍ من الدماء. سمعتُ صيحات الجنود المنتشية بعد أن حصدوا أرواح النساء والأطفال. كانوا يحتفلون بالموت”. صوتها المرتجف يختصر لحظة انهيار المعنى: حين يتحوّل الجندي إلى قاتلٍ سعيد، ويتحوّل القتل إلى متعةٍ معلنة.

 

مجزرة بالأرقام: الإبادة تتواصل

تؤكد اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان أن ما جرى في الفاشر ليس حادثة معزولة، بل مجزرة إبادة وتطهيرٍ إثني راح ضحيتها ألفا مدنية/ي خلال الساعات الأولى من دخول قوات الدعم السريع إلى المدينة، حيث تم حرق المدنيات/ين أحياءً وتصفيتهم جماعيًا، فيما يُقدّر عدد المحاصرات/ين الذين لم يتمكنوا من الخروج بنحو 177 ألف شخص. خلال 48 ساعة فقط، نزح 28 ألفًا، كثير منهم قُتلوا على طرق الهروب التي حوّلتها القوات إلى كمائن موت. وتقول نقيبة الأطباء السودانيات/ين هبة عمر إن الأوضاع في المدينة مأساوية وإن آلاف المدنيات/ين ما زالوا عرضة للقتل، فيما سُجلت عشرات حالات الذبح والتصفية الميدانية.

 

استهداف المستشفيات والعاملات/ين الصحيات/ين

الاستهداف لم يتوقف عند المدنيات/ين، بل طال المستشفيات والعاملات/ين الصحيات/ين. فقد اتهمت شبكة أطباء السودان قوات الدعم السريع بتصفية عشرات المرضى والجرحى داخل المستشفى السعودي ومستشفى الفاشر، وباختطاف أطباء وطبيبات ومطالبة ذويهن/م بدفع فدية لإطلاق سراحهن/م. يقول الناطق باسم الشبكة محمد فيصل إن ما حدث هو جريمة ضد الإنسانية على أساسٍ عرقي وإثني، موضحًا أن عمليات الإعدام الميداني جرى توثيقها بالفيديو ونُشرت على مواقع التواصل. أما منظمة الصحة العالمية فأعلنت مقتل أكثر من 460 مريضًا ومرافقًا في المستشفى السعودي، وأعرب مديرها العام تيدروس أدهانوم عن “الفزع والصدمة” إزاء هذه الجرائم.

الحرب تستهدف النساء في رمزيتهن للحياة والاستمرارية،

النساء في قلب الجريمة

بين روايات مروة وزينب وعائشة تتشكّل صورة الفاشر كجسدٍ جماعيٍّ للنساء السودانيات، اللواتي يجدن أنفسهن دائمًا في الخطوط الأولى للنجاة والمقاومة، وفي الوقت نفسه أهدافًا مباشرة للعنف القائم على النوع الاجتماعي. فالحرب تستهدف النساء في رمزيتهن للحياة والاستمرارية، فيتحوّل الجسد  إلى مساحةٍ لإفراغ الحقد والهيمنة. شهادات النساء من الفاشر تعبر عن إرادةٍ لم تنكسر رغم الرعب. هؤلاء النساء يكتبن بذاكرتهن المكلومة سجلًّا موازياً للتاريخ الرسمي، تاريخًا لا ينسى تفاصيل الجسد ولا يختزل المأساة في الأرقام.

(المصدر: العربي الجديد)

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد