نبوءة أمي تتحقق.. وجوه النساء في قبضة الخوارزميات

ابتزاز رقمي وتشريعات غائبة 

“ضحكتك حلوة .. بتهيّج”. رسالة مريبة وصلتني، أنا ابنة الـ١٧ عامًا، من ثلاثيني مجهول على “إنستغرام”، كانت كفيلة بثنيي عن استخدام التطبيق لأسابيع، وإبعادي عن الفضاء الرقمي، خشية أن يتحقق عقب هذا التحرش الإلكتروني هاجس أمي الدائم: “أوعا تحطوا صوركن عالإنترنت بكرا بياخدوها وبركبوا وجكن على جسم ثاني”.

اليوم وبعد ١١ عامًا تحققت النبوءة التي لطالما حذرتنا أمي منها، وباتت منصات التواصل الاجتماعي منبرًا، لا لتهديد النساء وتقييد حريتهنّ عبر تعليقات مسيئة أو صور مفبركة ومحادثات فحسب، بل تعدّتها لتوليد صور ومقاطع فيديو تكرّس ابتزاز النساء وتشويه سمعتهنّ، في مجتمعات تحمّل المرأة وحدها وزر “الفضيحة”.

  • نيّرة أشرف: شابة مصرية طالها العنف الرقمي بعد موتها حيث جمع أحدهم بينها وبين قاتلها بصورة مولّدة بالذكاء الاصطناعي.
  • زينب: فتاة ليبية انتهك أحدهم خصوصيتها واستغل صور تخرجها المنشورة على حسابها للإساءة إليها، وحمّلها محيطها المسؤولية.
  • فداء غالب: شابة يمنية شنقت نفسها بحبل مربوط بشجرة إلى جانب منزلها، بعد ابتزاز يوسف دوم لها بصورة التقطتها صديقتها دون علمها.
  • رهام يعقوب: ناشطة عراقية قتلها مسلحون بعد حملة تحريض وتهديد وتخوين إلكترونية إثر نشرها صورة تجمعها بالسفير الأميركي.
  • سناء: لبنانية ابتزها صديقها بصور التقطها خلسة وأخرى فبركها للحصول على المال، ما أفقدها عملها وأضر بعائلتها وصحتها النفسية.
  • كريمة الترهوني: فنانة ليبية تم فبركة فيديو جنسي لها باستخدام تقنية التزييف العميق ولا يزال المقطع موجودًا رغم التبليغات لإزالته.
  • سارة الورع: بلوغر سورية فبرك متابعون صورة لها باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي ما أثار حملة تحريض واسعة ضدها.

هذه القصص وغيرها الكثير مما ما يزال مستورًا تحت غطاء “العادات والتقاليد والعيب والفضيحة والخطيئة”، يفتح، خاصة في المجتمعات المحافظة، الباب على معاناة متكررة تواجهها النساء العربيات في الفضاء الرقمي المتحيز جندريًّا، والذي يُستغل لابتزاز النساء باختلاق أعمارهنّ، انتماءاتهنّ، ومكاناتهن.

فما الذي يفاقم هذه الظاهرة في مجتمعاتنا؟ وكيف يمكن للقانون حماية النساء من عنف رقمي يهدّد مسارهنّ النفسي والمجتمعي؟

 

 

View this post on Instagram

 

A post shared by FEMALE (@femalecomms)

تحديات النساء في الفضاء الرقمي

الذكاء الاصطناعي، بحسب “Chatgpt”، نظام الذكاء الاصطناعي الأكثر شيوعًا، هو “محاولة جعل الآلة تفكر أو تتصرف بطريقة مشابهة للإنسان، من خلال التعلم من البيانات والخبرات السابقة، وهو تمديد لقدراتنا البشرية، وانعكاس لطموح الإنسان لتوسيع قدراته”. بالتالي وجود هذه الأدوات في فضاء رقميّ عربيّ، ما هو إلا امتداد للقيود التي تُفرض على النساء وأجسادهنّ وسلوكهنّ في مجتمعاتنا “الشرقية” المحافظة، وتكريس لأشكالٍ جديدة من الابتزاز والتهديد والعنف القائم على النوع الاجتماعي.

هذه التحديات أرجعتها كل من رويدا العربي، مؤسسة منصة “هي تتحقق” في ليبيا، وندى حمزة، الخبيرة بالإعلام والتواصل الرقمي في لبنان، إلى قلة وعي النساء بحقوقهن الرقمية من جهة، ولكيفية تحصين وحماية أنفسهنّ على الانترنت من جهة أخرى، ما يؤمن للمتربص وفق الأخيرة، مادة دسمة يستهدف من خلالها ضحاياه.

ففي وقت يمثل الفضاء الرقمي، بحسب حمزة، انعكاسًا للمرآة الاجتماعية التي نعيشها، يعتبر الابتزاز والعنف والانتهاك تحديات أساسية لطالما واجهت وما زالت تواجه النساء. بالتالي هنّ معرّضات، وفق حمزة، لخرق خصوصيتهنّ عبر الإنترنت، ما يسهّل مضايقتهنّ رقميًّا. وهذا ما حدث بالفعل مع سارة (اسم مستعار)، فتاة من ليبيا.

عبر تطبيق “سناب شات” اعتادت سارة مشاركة يومياتها مع أصدقائها/ صديقاتها في هذا الفضاء الرقمي. إلا أن ما أقدمت عليه من فعل طبيعي هذه المرة، استغلّه أحد متابعيها لابتزازها وتهديدها إلكترونيًّا. حيث انتهك خصوصية سارة، واحتفظ بصورة شخصية نشرتها وهي ترتدي الحجاب، وعدّلها باستخدام الذكاء الاصطناعي، واضعًا وجه الفتاة الليبية على جسد سيّدة ترتدي “شورت وcrop top”.

هذه الصورة التي تعتبر عادية في أي مكانٍ آخر، قد تعد في ليبيا سببًا للتشهير أو للتحريض ضد أي امرأة، بحسب رويدا التي أكدت لـ”شريكة ولكن” أن “هذا الخلل في الفهم الثقافي يجعل الذكاء الاصطناعي أداة غير عادلة، خصوصًا في المجتمعات التي تُحمّل النساء مسؤولية “الفضيحة” أكثر من الجناة أنفسهم”.

وتابعت: “استخدام الذكاء الاصطناعي لتوليد صور مزيفة للنساء، يجعل عملية التهديد والابتزاز أكثر سهولة وخطورة، في ظل خوارزميات لا تفهم حساسية السياق الاجتماعي في دولنا، أو تجاهل خصوصية المجتمعات”.

التهميش التكنولوجي الصريح لخصوصية النساء في مجتمعاتنا، حوّل مساحات التعبير الحرة لأدوات تكرّس التحيز الحندري، وأدوات الذكاء الاصطناعي المبرمجة على محتوى متوفر ‘أونلاين’ لتلبية طلبات المستخدمين/ات، تتصرف بالطريقة عينها، وفق ندى التي قالت: “ليس هناك أية أداة تخبرك بأنها ستستخدم صورك لهذا الغرض، هي فقط تقول إنها تريد استخدامها ونحن نعطيها هذا الإذن. بالتالي ممكن لأي فتاة أن تتفاجأ بصورها في مفبركة في موقع ما”.

الآثار النفسية للعنف الرقمي

بعد تلاعبه بصورتها، تواصل المبتز مع سارة عبر “سناب شات”، وأرسل لها نسخة مزيفة منها، مولدة بتقنية الذكاء الاصطناعي “faceswap”، مهددًا بنشرها. شعور الصدمة الذي سيطر عليها وما تبعه من قلق وخوف، لم يمنعا سارة من التصرف سريعًا وهي التي تدري أنها لم تحمّل صورةً كهذه. إلا أن كثيرات لا يمتلكن الشجاعة عينها، إما بسبب خوفهنّ من المبتز، أو بسبب شعورهنّ بالذنب أو العار، بحسب ما أكدته الأخصائية النفسية العيادية راشيل مهنّا لـ”شريكة ولكن”،

سارة التي اختارت، بتوجيه من جمعيات نسوية ليبية مثل “هي تتحقق”، مواجهة المبتز وعدم الرضوخ لتهديداته عبر نشر محادثاته والصورة الأصلية على صفحتها الشخصية، تقابلها نساء داخل مجتمعات قمعية اخترن، بسبب التهديد الاجتماعي وفقدانهنّ الإحساس بالأمان، آليات دفاع نفسية مغايرة. حيث تكبت الضحايا في بعض الحالات بحسب مهنّا، “الغضب وتحوّلنه إلى خوف أو شعور بالعار، لتجنب المواجهة أو الانتقام في بيئة لا تسمح بالتعبير المفتوح عن الغضب”.

بالتوازي، عزت مهنّا تحوّل الانتهاك إلى شعور عميق يالعار، إلى “تواجد الضحايا في مجتمعات محافظة، حيث السمعة والشرف مرتبطة بالعائلة”. وقالت: “برأيي، شعور الخوف والعار ناتج عن مزيج من فقدان الأمان النفسي، الضغوط الاجتماعية، وآليات الدفاع النفسية التي تعلمتها النساء عبر حياتهن. لذلك، أي تدخل يجب أن يبدأ بفهم هذه العوامل الثلاثة ومنح الضحية مساحة للتعبير عن خوفها، ثم العمل على معالجة العار وتمكين الغضب كطاقة إيجابية لإعادة السيطرة على حياتها”.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by FEMALE (@femalecomms)

سياسات فضفاضة وتشريعات غائبة

حماية سارة ومثلها كثيرات من النساء من مبتزّ “استغلّ جسد امرأة هندية” ليهدّد وجودها في هذا الفضاء الرقمي، تتنصل منه شركات التكنولوجيا الكبرى. فرعم إعلان الأخيرة التزامها منع استخدام تقنياتها لإنشاء ونشر مواد الاعتداء الجنسي على الأطفال/الطفلات، بقيت النساء خارج المعادلة.

تزامن ذلك وغياب أيّ التزام دولي يُحتّم على هذه الشركات وضع معايير لحماية النساء، لتستمر بذلك باتباع سياسات فضفاضة وغامضة تتيح للمتربّصين التسلّل إلى المساحات الرقمية واستغلالها. ومع تزايد أعداد البلاغات المرتبطة بالابتزاز الرقمي في كل من ليبيا ولبنان، خصوصًا مع انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي، تبرز فجوة قانونية وتشريعية تحوِّل الفضاء الرقمي إلى مكان غير آمن للنساء.

من هنا، لفتت مؤسسة منصة “هي تتحقق” رويدا العربي في حديثها لـ”شريكة ولكن”، إلى أن “كثير من القضايا التي تُرفع في ليبيا تتعطل، لأن الجهات القضائية أو الأمنية لا تمتلك الإمكانيات التقنية لتتبع الأدلة الرقمية، أو لأنها تتعامل مع الجرائم الإلكترونية باعتبارها ‘قضايا أخلاقية’ وليست جرائم تمسّ الكرامة والخصوصية”. وتابعت: “هذا ينعكس بشكلٍ مباشر على استعداد النساء للتبليغ، حيث تخشى كثيرات أن تتحوّلن من ضحايا إلى متهمات، أو أن يساء لسمعتهنّ في المجتمع”.

وفيما يتعلق بقضايا الابتزاز الإلكتروني أو نشر الصور الخاصة، تؤكد العربي أن “القانون الليبي لا يزال محدودًا في هذا المجال. هناك مواد عامة تندرج تحت قانون الجرائم الإلكترونية، لكنها لا تراعي البعد الجندري ولا خصوصية قضايا النساء. في حين يتعامل المجتمع بدوره مع هذه القضايا بنظرة مزدوجة؛ فبدلاً من حماية الضحية، كثيرًا ما تُدان هي ويُسكت عن الجاني. وهذا ما يجعل معظم النساء يفضلن الصمت خوفًا من الوصمة أو من الأثر الاجتماعي”.

في لبنان الوضع “مش أحسن بكتير”، حيث لا زلنا “كتير بعاد” عن وجود سياسات وأخلاقيات تنظم استخدام الأدوات التكنولوجية، بحسب الخبيرة في الإعلام والتواصل الرقمي ندى حمزة التي أكدت في حديث لـ”شريكة ولكن”، أن “عدم تدريب وتهيئة الفرق الأمنية، يثير خوف النساء من اللجوء للحماية القضائية في حال تعرضن لأي انتهاك إلكتروني”.

ومع بروز الأعراف والعادات والتقاليد كسلاح فعّال بوجه القوانين المدنية في بعض المجتمعات المحافظة، تتولد لدى النساء خشية من التبليغ عن الجرائم التي تتعرض لها، خوفًا من “الفضيحة” ومعرفة الأهل. ورغم الشوط الكبير الذي قطعه لبنان في زيادة أعداد التبليغات التي تصل إلى مكتب مكافحة الجرائم الأمنية والمعلوماتية، أهابت حمزة بالأجهزة الأمنية ضرورة “المبادرة لكسر هذا الحاجز وخلق ثقة بينها وبين النساء، ليتمكنّ من التبليغ أكثر في حال تعرّضهن للإساءة الإلكترونية”.

سبل الحماية: من الوقاية إلى التعافي

ما حدث مع سارة وقبلها مع كريمة، سناء، رهام، فدّى وكثيرات لم تنشر قصصهنّ بعد، ولم يمنحن فرصة المحاسبة إمّا لأنهنّ قُتلن بذريعة ما يُعرف بـ”الشرف”، أو بسبب التحريض والتخوين، أو بسبب تغييبهنّ بذريعة “الحماية”، يتطلّب جهودًا مضاعفة تنظر إلى الذكاء الاصطناعي لا كأداة محايدة، بل كمنظومة تحتاج إلى ضوابط أخلاقية وتشريعية تضع سلامة النساء في مقدّمة أولوياتها.

بالتالي الحل وفق رويدا “يحتاج مقاربة متعددة المستويات، يبرز فيها تطوير الشركات الكبرى أدوات لرصد المحتوى المسيء وفهم خصوصية مجتمعاتنا العربية كحاجة أساسية”. كذلك “تدريب الذكاء الاصطناعي على البيانات المحلية واللغة العربية باللهجات المختلفة، حتى يميز بين النقد والتشهير أو بين المزاح والتحريض”.

أما على الصعيد القانوني، تتجلّى الحاجة، بحسب العربي، إلى تشريعات واضحة تُجرّم نشر الصور الخاصة أو استخدامها دون إذن، مع آليات سريعة لحذف المحتوى المسيء وملاحقة المنتهكين. حتى ذلك الحين، حين يكسر المجتمع ثقافة لوم الناجية، ويعي الرجال والنساء أن الفضاء الرقمي امتداد لحياتنا الواقعية تحكمه القوانين الأخلاقية والإنسانية، يستمر دور المجتمع المدني، ولا سيما المنصّات النسوية، في نشر ثقافة الأمان الرقمي، وتوثيق الانتهاكات، وتقديم الدعم للناجيات.

في الوقت الراهن، حيث ما تزال النساء يعانين الأمرّين في الفضاء الرقمي، تبرز حماية خصوصية النساء وأمنهنّ الرقمي كحاجة أساسية. حيث يجب على النساء بحسب الخبيرة ندى حمزة “اتخاذ إجراءات تقنية وأمنية تساهم في حماية بياناتهنّ، تشمل، بالحد الأدنى، وضع كلمة مرور صعبة، تفعيل خاصية التحقق بخطوتين، عدم تحميل تطبيقات ضارة على الهاتف، أو السماح بوصول التطبيقات لصور المستخدم أو بياناته الخاصة”.

وبينما شدّدت حمزة على ضرورة نشر هذه التوعية، تبقى الحاجة ملحّة إلى مقاربة شاملة تتعدّى الوقاية الرقمية، لتشمل دعم النساء نفسيًّا واجتماعيًّا. من هنا، أوعزت الأخصائية النفسية العلاجية راشيل مهنّا، بخطوات تساعد الناجيات على تجاوز آثار الصدمة واستعادة الشعور بالأمان والثقة، تبدأ بتأمين الحسابات وتوثيق الأدلة، وجود شخص موثوق وداعم، الحفاظ على استقرار الحالة النفسية وتخفيف التوتر، دعم العائلة والمحيط، التدخل العملي والتقني والقانوني، وصولاً إلى إعادة بناء الهوية والثقة تدريجيًّا.

أمام كل ما سبق، ما نقاسيه نحن النساء، باختلاف انتماءاتنا مكانتنا الاجتماعية وقوتنا، من عنف إلكتروني متعدد المظاهر، يضعني في هذا المجتمع المتحيّز أمام سؤال واحد: ماذا لو كان زمن أمّي الملجأ الوحيد؟! هل كنّا سنعيش في أمان من ماكينات تنفّذ أهواء “رجل شرقي”؟! بعدها أدرك أن هذا “الغيور المتخفّي خلف رجولته المزعومة، المتعطش لجلسة تحت عباءة امرأة غريبة” سيمارس سلطته لإشباع شهواته يا أمي وإن كان عبر آلة باردة كـ”الكالكوليتر”.

كتابة: سمايا جابر

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد