من الفاشر إلى كوستي نساءٌ يروين مخاطر النزوح التي واجهنها

بعد حرب دامت قرابة العامين والنصف الفاشر، خلّفت مقتل عشرات الآلاف وتشريد نحو 13 مليون شخص، ونزوح وفرار الآلاف من النساء والأطفال والرجال، سودانيات يروين ما واجهنه  في طريق النزوح من مخاطر وأزمات.

عن حكايات نزوح طويلة وخطرة من الفاشر إلى الدبة، ومن شمال كردفان إلى ولايات النيل الأبيض والعاصمة الخرطوم، في ظل أزمة غذاء وجوع وسوء تغذية وانهيار شبه كامل للرعاية الصحية في أنحاء البلاد، حيث أصبح نصف السكان اليوم في حاجة ماسة للطعام ويواجهون/ن خطر الموت بالمجاعة. وبين الفارين/ات أطفال/طفلات انفصلوا/ن عن أسرهم/ن ووجدوا/ن أنفسهم/ن وحيدين/ات يسيرون/ن برفقة جماعات إلى مصير مجهول، في واحدة من أسوأ أزمات النزوح التي يشهدها العالم اليوم.

 

“فقدت أربعة من أطفالي الستة في طريق النزوح ولا أعرف مصيرهم”

رحلة نزوح مليئة بالفقدان

روت خديجة (اسم مستعار) عبر راديو دبنقا تفاصيل ما عاشته في دارفور وكيف نجت بأطفالها الستة من الموت المحقق مع كل ساعة تحت وطأة القصف والمعارك، إذ حملت أبناءها/بناتها واتجهت صوب ولاية النيل الأبيض عبر مسارات متعددة دون أن تعلم شيئًا عن زوجها أو حصيلة الفوضى التي أحاطت بهم/ن خلال الفرار بحثًا عن الأمن وطوق نجاة. وخلال الرحلة الشاقة فقدت أربعة من أطفالها/طفلاتها الستة الذين خرجت بهم من الفاشر، ولم تتمكن من معرفة مصيرهم/ن، كما لا تعلم ما آلت إليه أوضاع زوجها، ما أدخلها في حالة إحباط وحزن عميقين. وصلت خديجة إلى معسكر على محمد نور بقوز السلام جنوب كوستي في ولاية النيل الأبيض، حيث انضمت إلى مجموعة كبيرة من الأسر النازحة من ولايات دارفور وكردفان، لتجد نفسها في خيمة صغيرة وسط معسكر مكتظ، يعجز عن تلبية متطلبات السكن والإعاشة في ظروف تستنزف قواها وتضاعف معاناتها.

مُعاناةٌ تواجه النازحين/ات

تصف خديجة بمرارة ما تواجهه الأسر النازحة من ظروف قاسية، مشيرة إلى تكدس أكثر من ثلاثين أسرة في خيمة واحدة لا تتوافر فيها مقومات السكن أو الإعاشة، ومع قدوم طقس الشتاء القارس وغياب المستلزمات الأساسية تتضاعف المعاناة. وتؤكد أن النازحين/ات القادمين/ات من الفاشر يواجهون/ن صعوبات بالغة في الحصول على الخدمات الأساسية، لا سيما الرعاية الصحية، وأن الوضع في جبل الدائر “لا يُحتمل” بسبب النقص الحاد في الأدوية والكوادر الطبية، فيما يضطر الجميع إلى الوقوف لساعات طويلة أمام المستشفى دون الحصول على علاج، في مشهد يلخص انهيار المنظومة الخدمية، ويعكس مدى الضغط على المرافق التي لم تعد قادرة على الاستجابة لاحتياجات هذا العدد الكبير من النازحين/ات، وسط تسابق على البقاء وتشبث بما يمكن توفيره من غذاء ودواء وكساء في بيئة معيشية تفتقر لأبسط المقومات.

سلسلة رحلاتٍ من النزوح

تقول المواطنة شريفة آدم إنها سلكت طريق النجاة من ويلات الحرب عبر سلسلة من الرحلات القسرية داخل وخارج السودان، لم تخلُ من مشقة ومعاناة مركبة تجمع بين المخاطر الأمنية وظروف الحياة القاسية وضيق ذات اليد في تدبير نفقات الإعاشة والتنقل. خرجت شريفة من مدينة نيالا تحت ضغط العمليات الحربية التي شملت دارفور كلها، وانتقلت إلى مدينة الضعين بشرق دارفور، ثم غادرت إلى خارج السودان ووصلت مدينة واو بولاية غرب بحر الغزال في جنوب السودان، قبل أن تتنقل بين مدن أخرى هناك، حيث لم يكن الوضع في جنوب السودان أفضل حالًا. وتوجهت بعدها إلى محافظة أويل بشمال بحر الغزال ومكثت فيها فترة قصيرة، ثم سافرت إلى جوبا عاصمة جنوب السودان، لكنها لم تتمكن من الاستقرار بسبب أحداث شهدتها المدينة، لتقرر العودة إلى السودان، وإن لم تستطع الرجوع إلى ديارها بسبب استمرار الحرب وتعقّد الظروف الأمنية.

عاد المسار بشريفة إلى معسكر على محمد نور بقوز السلام جنوب كوستي في ولاية النيل الأبيض، حيث وجدت بعض أقاربها/قريباتها الذين وفدوا/ن من ولايتي سنار والخرطوم، ويبلغ عددهم/ن نحو عشرين أسرة داخل المعسكر، يعيشون/يعشن جميعًا في مساحة ضيقة تحاول أن تتسع بجبر الخواطر وطيب المعشر للتخفيف من وطأة الحياة وقسوتها. وبرغم ما واجهته من مآسي ومعاناة خلال الرحلات المتتابعة، تواصل شريفة مكابدة ظروف الشتاء المقبل والحاجة الماسة لأغطية توفر الدفء، وتسعى إلى مسايرة حياتها ضمن شروط نزوح قاسٍ فرض عليها الانتقال من مدينة إلى أخرى، وكل محطة تحمل آثار فقد وخسارة ومشقات يومية في الحصول على ضروريات العيش، وسط مجتمع نازح يتشارك الألم ويقتسم المتاح من موارد شحيحة لا تكاد تكفي.

تعيش نائلة مع حفيدها الرضيع داخل معسكرٍ هشّ

تكافح الجوع والبرد وشحة الحليب والدواء للصغير

نازحةٌ برفقة حفيدها الرضيع

تروي نائلة آدم إدريس عباس أنها كانت تعيش حياة بسيطة في حي الجامعة درجة أولى بمدينة الفاشر، حيث توفرت لها سبل الراحة والعيش الكريم قبل أن تقلب الحرب كل تفاصيل حياتها رأسًا على عقب، وتبدل تلك الرفاهية إلى بؤس وعوز، لتدفعها الظروف إلى الفرار من مدينتها نحو معسكر في ولاية النيل الأبيض المكتظ بالنازحين/ات من دارفور وكردفان. بدأت مأساة نائلة بمقتل زوجها جمال بابكر حسب الله، ثم فقدت نجلها خلال الحرب، كما توفيت ابنتها الوحيدة، وتركت لها طفلاً رضيعًا كان عمره عشرة أيام آنذاك، وقد بلغ اليوم سبعة أشهر. ورغم ثقل الفقد، تحمل نائلة حفيدها وتتنقل إلى حيث وجدت مأوى هشًا داخل معسكر على محمد نور بقوز السلام جنوب كوستي، في مظلة بلدية “راكوبة” لا تقي من حرارة الشمس ولا تمنع المطر ولا تحمي من برودة الطقس، فيما تكافح لتوفير الغذاء وحليب بديل والدواء والكساء، محاولة أن تكون لهذا الطفل أماً وجدة وسندًا في وجه حياة قاسية لا ترحم.

طريق النزوح مدججٌ بالمخاطر

وسردت سيدة أخرى من سكان الفاشر، ممن نزحن في ظروف قاسية إلى ولاية النيل الأبيض، أنها خرجت من أحد أحياء المدينة تحت هدير الرصاص وأصوات القنابل والطائرات والمسيرات بحثًا عن مأوى آمن، وأن رحلة الوصول إلى كوستي كانت مليئة بالمشقة وارتفاع نفقات السفر والانتقال، لكنها تمكنت في النهاية من الوصول إلى معسكر على محمد نور بقوز السلام جنوب كوستي. وبرغم فقدها لأهلها وعشيرتها ودارها، وجدت تعويضًا مع حفيدين توأم وضعتهما ابنتها التي ترافقها وتتلقى العلاج في المستشفى. وتوضح أنها تقيم اليوم مع ابنتها ومعها ما بين عشرين إلى خمسة وعشرين شخصًا في خيمة واحدة صغيرة قد لا تتسع لخمسة أشخاص، لكنها أصبحت ملجأ لأسر كاملة، فيما يشكون جميعًا من نقص في الغذاء والدواء والكساء، ما يعكس ضيق الخيارات واشتداد الحاجة في بيئة إنسانية متعبة تتطلب دعمًا وخدمات أساسية مفقودة.

تكشف هذه الشهادات عن امتداد أزمة إنسانية عميقة في السودان، حيث تتواصل موجات النزوح من دارفور وكردفان إلى النيل الأبيض ومناطق أخرى، في ظل ظروف معيشية بالغة القسوة وانعدام الخدمات الأساسية وتراجع القدرة على الوصول إلى العلاج والغذاء والكساء. ومع اقتراب فصل الشتاء، تتضاعف معاناة النازحين/ات الذين يواجهون/ن البرد والجوع والمرض في معسكرات مكتظة، فيما تتفاقم معضلة الأطفال/الطفلات المنفصلين/ات عن أسرهم/ن، والنساء/الرجال اللاتي يتحملن/ين عبء الرعاية في ظل إمكانات شحيحة وملاجئ لا ترقى إلى حماية الحد الأدنى من الحياة الكريمة. ويعكس هذا الواقع حجم الانهيار الذي خلفته الحرب على المجتمع والنسيج الاجتماعي، ويبرز أن النزوح بات مسارًا طويلاً محفوفًا بالمخاطر بين الفاشر وكوستي، حيث تتراكم قصص الفقد والنجاة وتتشابه المعاناة اليومية في مواجهة شتاء قاسٍ ومشهد إنساني لم تتضح نهاياته بعد.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد