قصص رعب لنساء وأطفال لبنانيات ولبنانيون.. عن قوارب الموت والهجرة غير القانونية

مدفوعات باليأس ومحكومات بأملٍ هو أقرب ما يكون إلى السراب، تسلحت ناديا وسماح وأحلام بشجاعة وإقدام بـ”فرصتهن”، وقررن المخاطرة بمغامرة غير محسوبة النتائج ومواجهة شبح الغرق واحتمال الموت… اليوم، ورغم كل ما قاسينه في ثلاث ليال مشؤومة، يعلن استعدادهن مجددًا لخوض المخاطرة نفسها. فلماذا؟

لكل واحدة منهن قصة. وبالرغم من اختلاف تجاربهن، يجمعهن الكثير. ناديا وسماح وأحلام من منطقة واحدة: باب التبانة – طرابلس. المنطقة الأكثر فقرًا على خط المتوسط. ناديا طفلة على وشك أن تبلغ الـ18 من عمرها. أما سماح وأحلام فكل واحدة منهما مسؤولة عن عائلة وأولاد. كل واحدة منهن لقيت من الحياة نصيبًا كبيرًا من الظلم، ومن المجتمع نصيبًا أكبر، ومن الدولة نصيبًا أكبر وأكبر.

هل أنتن/م مستعدات/ون لسماع حكاياتهن المكلومة؟

البداية مع ناديا…

قبل أربع سنوات كانت ناديا تتمتع بجسد معافىً. فاتنة. جميلة. كانت حصة والدها في العائلة. بالرغم من أن والدتها لطالما وُصفت بـ”المعترة”، إلا أن ناديا كانت أقرب إلى والدها، محمد الحموي، الملقب بالسمّاك.

قبل سنوات أيضًا، تزوّج الوالد بامرأة ثانية، أنجب منها طفلتين. ثم سافر للعمل في إفريقيا حيث يعيش ذووها.

كان محمد موظفًا في شركة “لافاجيت” لرفع النفايات، وصياد سمك، إلا أنه حاول البحث عن سبيل أفضل للعيش. سافر للعمل في إفريقيا، حيث تعيش عائلة زوجته الثانية، ولكن الوضع لم ينفرج كما اعتقد.

هناك، تعرض محمد للسعة ذبابة سببت له الملاريا وكاد أن يفقد حياته.

زوجته الثانية، سارة، دعته للعودة والبحث عن طريق للوصول إلى أوروبا. في هذا الوقت، كانت قد بدأت منطقة الشمال في لبنان تشهد إبحارًا غير قانونيّ عبر قوارب الموت نحو أوروبا، وبدأ معها حلم الحصول على فرص لدخول “الفردوس” الأوروبي.

محمد، بعد بحث مع عدد من الصيادين والبحارة في مدينة الميناء في طرابلس اقتنع بالفكرة، ووجد أن الأمر يستحق المخاطرة، فما لم يستطيع تأمينه لنفسه قد يستطيع أن يفعله الآن لأطفاله/طفلاته.

تتذكر ناديا، طفلته المدللة كلامه. تقول: “لقد كان عنيدًا جدًّا ومصرًّا على الذهاب. أمي كانت خائفة على عكس سارة، زوجة أبي. لم تكن تريد الذهاب”. تسكت ناديا، التي تحوّلت إلى شبه هيكل عظمي. جسد نحيل وعينان سارحتان معظم الوقت ووجه شاحب حزين.

ناديا، كأخيها علي، قليلة الكلام. تحاول أن تتذكر ما حدث وتروي باقتضاب شديد، فتأخذ دفة الحديث نيابة عنها، عمتها فاطمة الحموي، التي يعيش الطفلان في عهدتها اليوم.

تتابع فاطمة سرد ما حدث: “بعدما أصرت سارة على السفر بالبحر، اتفق أخي محمد مع سماسرة على موعد الإقلاع والتفاصيل المالية وغيرها. ولم يكن لنا علم بأي شيء في حينه، لكن بعد وقوع الفاجعة اكتشفنا أن أخي باع منزله بـ10 آلاف دولار ليتمكن من دفع تكاليف “التهريب” بالبحر. هذا المنزل كان كل ما يملك، وكان قد اشتراه بـ50 ألف دولار حينما كان موظفًا”.

بتاريخ 23 نيسان/ أبريل 2023 الساعة العاشرة ليلًا، وصل محمد إلى المنزل وصرخ بأولاده وزوجتيه: “هل أنتم/ن جاهزون/ات؟ احملوا/ن أغراضكم/ن واتبعوني/اتبعنني”. ذهب الجميع خلفه من دون أن ينبس أحد بكلمة. بلغوا/ن سواحل منطقة العبدة في عكار، وحينها وجدوا/ن الكثير من الناس ينتظرون/ن على الشاطئ. مثلهم/ن تمامًا. وبعد لحظات صمت، خرقتها صرخات رُضّع بين أيدي أمهاتهن، قال “المهربجي”: “اصعدوا/ن إلى القارب.. بسرعة قبل ما حدا يشوفنا”.

صعد الجميع وانطلق القارب. تعود ناديا لتقول: “كنا في شهر رمضان. أذكر أنني صليت التراويح فور إقلاعنا في البحر. تمسكت بأمي التي كانت في حينها حامل بتوأم في شهرها السادس. بعد ساعة من الإبحار بدأ يشتد البرد. بدأت أنظر إلى السماء وأحلم بما ينتظرني في أوروبا، تلك البلاد المغرية لكل الشبان والشابات في العالم. لكن حتى الحُلم لم يكتمل حينها، فقد سمعنا قاربًا للجيش اللبناني يقترب نحونا. طلبوا من السائق التوقف لكنه لم يفعل. هددوه بضرب المركب وقالوا: “إذا طلعتوا برا المياه الإقليمية رح يحبسوكن”. لكنه لم يستمع لهم وحاول الإقلاع بسرعة أكبر والهرب، فما كان منهم إلا أن ضربوا المركب فتوقف المحرك عن العمل. وما هي إلا لحظات حتى بدأت المياه تتسرب إلى داخله”.

تتابع: “كان المركب صغيرًا. تتوسطه غرفة صغيرة بأربعة نوافذ توزعت على أطرافها مقاعد من جلد مهترئ. جلست النساء والأطفال/الطفلات في الغرفة بينما توزع الرجال والشباب على سطحه. كان على متنه 80 شخصًا وهو لا يتسع لنصفهم/ن. عندما بدأت المياه تتسرب إلى القارب شعرنا بالخوف. بدأ الجميع يصرخ. صراخ من كل الاتجاهات. بكاء صغار وعويل. لو مهما قلت لن أتمكن من أن أصف ما حدث. كأنه فيلم”.

بينما هي تتحدث يضع شقيقها علي، الناجي أيضًا من رحلة الموت، راحة كفيه على وجهه. يحاول أن يكتم دمعة كادت أن تفرّ من عينيه. علي ابن الـ15 سنة، يعاني من الخوف الشديد، ومن الكوابيس التي تلاحقه إلى الآن منذ ذلك الحين.

بعد صمتٍ قصيرٍ تقول ناديا: “تجمدت في مكاني وأن أرى المركب يغرق. صرت مثل المشلولة. لم أكن قادرة على فعل أي شيء. وعقلي.. عقلي لم يسعفني على فعل أي شيء. وبسرعة خيالية غرق المركب. بتنا تحت الماء. حاولنا أن نعوم ونسبح لننقذ أنفسنا. بدأت أصرخ بأسماء أمي وأبي وإخوتي، لكن أحدا لم يجبني في البداية. كان الظلام دامس والبرد قارس. بدأت بالبكاء وأنا أتلاطم مع موج البحر. أبكي وأصرخ إلى أن أجابني علي وقال: “أنا هنا”.

“استمريت بالسباحة أنا وعلي. وكان في حينها مركب الجيش قد اقترب مجددًا. انتشلنا العناصر من المياه وعادوا بنا إلى مرفأ طرابلس. عدنا بمفردنا. علي وأنا. في حين خسرت أبي وأمي والطفلين التوأم في بطنها وزوجة أبي وابنتها”.

“لا قبل هذه الرحلة عرفنا معنى الحياة ولا بعدها”. تقول ناديا التي لم تعد إلى المدرسة منذ ذلك التاريخ، وكذلك شقيقها. ولم يحظ أي منهما بعلاجٍ نفسيٍّ يحررهما من الصدمات النفسية التي عاشاها مع فقدان ذويهما.

تقول العمّة: “ناديا لم تتوقف يوم عن السؤال عن أبيها. تعيش باعتقاد أنه لا يزال على قيد الحياة”. تقاطعها بغضب موضحة ما تشعر به: “أبي خرج من الماء. أبي سبّاح ماهر. عاش في البحر نصف حياته. كثر قالوا إنهم رأوه صعد إلى سطح الماء وعندما أدرك أن زوجتيه وأطفاله/طفلاته والكثير سواهم/ن عالقون/ات في الغرفة المغلقة تحت الماء عاد ونزل لإنقاذهم/ن. فقبل غرق المركب قام بأبي بكسر زجاج إحدى النوافذ برأسه ويديه، ولو لم يفعل هذا لما تمكن أحد من النجاة”.

اليوم يعيش الطفلان في كنف العمّة، وهي أرملة تعيش في المنزل مع ابنتها، في حين تزوج أبنائها/بناتها الآخرون وانتقلوا إلى العيش بمفردهم/ن. ليس لديها مدخول شهري، بل تعيش على ما يصلها من مساعدات من هنا وهناك لإعالتهم وتأمين احتياجاتهم الأساسية من مأكل ولباس.

في منزلهم/ن المتواضع يركن الفقر في زاوية. طفلان من دون أي ذنب تسربا من المدرسة، فلا قدرة على دفع تكاليف تعليمهما أو فواتير المواصلات من المنزل إلى المدرسة. طفلان يمثلان نموذجًا للمئات غيرهما من أبناء أحياء البؤس، يقع على عاتق المؤسسات الرسمية الالتفات نحوهم/ن وضمان حصولهم/ن على كافة حقوقهم/ن التي تؤمن لهم عيشًا كريمًا، وتحول من دون جعلهم/ن عرضة للاستغلال والاتجار.

ناديا تمسك هاتفها بين يديها وتجول في صورها وصور والدها. لا تخفي حزنها على فراقه. وعند سؤالها عما تتمناه تقول: “أن أعيش”.

إلى سماح دُر…

قبل حرب جبل محسن وباب التبانة كانت سماح ممتنة. لكن الحرب بفظاعتها أرخت بثقلٍ كبير على عاتقها. تلك الحروب لا تعرف تعداد ضحاياها لكن جلّهم/ن من النساء والأطفال. إذ لا تخاض معارك إلا فوق أجسادهم/ن وحقوقهم/ن واحتياجاتهم/ن وطموحاتهم/ن.

زوج سماح قُتل قنصًا في باب التبانة في واحدة من جولات العنف. رحل وترك لها أربعة أطفال/طفلات. لؤي وجولي وليلى وزكريا. ضاق الحال بسماح التي تسكن منزلًا متواضعًا مستأجرًا في شارع الجهاد في التبانة. هي التي لم يكن العمل خارج المنزل من الخيارات المقبولة لديها، فهي لم تحصل على تعليمٍ كاف، ولم تتعلم مصلحة أو حرفة، حاولت البحث عن عمل يمكّنها على الأقل من إعالة صغارها وإطعامهم/ن، لكنها لم تفلح. تقول: “في هذا البلد سأحصل على عمل؟ إن كان أصحاب الشهادات والخبرات عاطلين منه! لن أقول بأنني لم أحاول. بل على العكس، فعلت ولكن كان من الصعب جدًّا ان أجد عملًا يتناسب مع وضعي، إن كان لناحية دوام العمل أو لناحية الأجر. فأنا لن أترك أطفالي/طفلاتي في الشوارع بانتظار عودتي. لن أتركهم/ن عرضة للضياع والتغرير بهم/ن واستغلالهم/ن في أحياء تملؤها فوضى.. ما يحصل هنا لا يمكن وصفه.. لطالما سعيت لإخراج أطفالي/طفلاتي من هذه البؤرة. أريد لهم حياة كريمة. أريد لهم أن يعيشوا/يعشن حياة أفضل من التي عشتها”.

سماح تزوجت عن عمر مبكر، وهي اليوم على أبواب سنها الـ50. تُعدل ربطة حجابها وتقول: “حاولوا/ن كثر بأن أخرج إلى الإعلام لأحكي عما حدث معي لكنني رفضت. هذه هي أول مقابلة أجريها”. تصمت وتشيح بنظرها عنا. تسرح وكأنها باتت في عالم آخر. نناديها مرارًا قبل أن تستجيب وتقول: “أعتذر. راسي مش عم يجمّع”.

تُعدل جلستها. تحكم بقبضتها إقفال سترتها لمزيد من الدفء، وتروي: “سمعت من صهري أنه يتواصل مع أحد المهربين ويريد أن يحاول إخراج عائلته من لبنان عن طريق البحر. وجدت في جملته أملًا بأنني ربما أستطيع أن أمنح أطفالي/طفلاتي هذه الفرصة. فرصة حياة مختلفة، بعيدًا من كل هذا الذلّ. أتعرفين؟! قبل أن أنام كل يوم يداهمني خوف عظيم حول مستقبل أطفالي/طفلاتي. جميعهم/ن متفوّقون/ان، اثنان منهم/ن سيرتادون الجامعة في السنة المقبلة. أخاف كثيرًا من هذا اليوم. لا قدرة لي على تسجيلهم/ن في الجامعة ودفع مصاريفهم/ن، أنا بالكاد أطعمهم/ن! ولكن كيف لي أن أحرمهم/ن من التعليم! لا يطاوعني ضميري على فعل هذا.. ولا أجد حلًّا. أهرب من أمامهم/ن عندما أجدهم/ن متحمسين/ات لارتياد الجامعة.”

تعود سماح لتشرد مجددًا. تفحص الغرفة حيث الأثاث عبارة عن سجادة صغيرة وكنبات عتيقة. نوافذ غير محكمة تتيح للصقيع التسلل من كل زاوية. تقاطعني هي وتقول: “صهري قال إن المركب مجهز وأن الوصول إلى أوروبا مضمون لكن المشكلة أن علينا تأمين ألفي دولار عن كل شخص ثمنًا للرحلة. بدأت فورًا بالبحث عن كيفية تأمين المبلغ. 10 آلاف دولار. لم أتردد إطلاقًا بالرغم من أنني على علم بالكثير من الحوادث التي وقعت في البحر، وعلى دراية بخطورة الخطوة. ولكن في المقابل، هناك من نجح بالوصول إلى برّ الأمان، وربما يسفعنا الله على النجاة والبدء من جديد في بلد أوروبي”.

تتابع: “لا أذكر تاريخ الرحلة لكنني أذكر أنها كانت في العام 2022. حزمت أمتعة الأطفال. وضبت ما تيسر لي في حقائب صغيرة. وفي تمام الساعة الـ 12 ليلا انطلقنا. وصلنا إلى سواحل بلدة القلمون في طرابلس. كان هناك مركبا صغيرًا بانتظارنا، أشبه بفلوكة لصيد السمك. قلت لصهري أن هذا المركب صغير جدًّا، فرد المهرّب بالإشارة إلى مركب كبير تتلألأ أنواره في عرض البحر، قائلا: “سنصعد على متن ذلك المركب عندما نبلغ عرض البحر، لأنه لا يستطيع الاقتراب إلى اليابسة”. صدقنا ما قاله وصعدنا. كان عددنا كبير جد، حوالي 93 شخصًا، في حين أنه لا يتسع إلا لـ60! لكننا جازفنا.. وصعدنا”.

“جلسنا حرفيًّا ’فوق بعضنا البعض’. لا يمكن للشخص أن يحرك ساقه، ولا حتى يديه. جلست وبقربي زكريا وجولي وخلفي ليلى ولؤي. كنت خائفة على ليلى لأنها تعاني من أوجاع في الظهر. فهي سبق وسقطت من على شرفة المنزل وانكسرت فقرات في عامودها الفقري. تعذبت كثيرًا لكي أؤمن دخولها الى المستشفى. ذللت بكل ما للكلمة من معنى حتى أتمكن من معالجتها. استدنت الكثير من المال.. وما كان بيدي حيلة. قرعت الكثير من الأبواب، من سياسيين وجمعيات خيرية وأصحاب أيادي بيضاء لأشحذ المبالغ المطلوبة لخضوعها لعمليات جراحية تمكنها من السير مجددًا.. كل هذا دفعني إلى الفرار.. إلى التفتيش عن فرصة أخرى لهم.. كيف سأبقى هنا ولا حق لي في طبابة أو استشفاء! على متن تلك الفلوكة تذكرت كل هذه المعاناة وقلت لنفسي أولادي يستحقون حياة كريمة.. يستحقون أن أجازف من أجلهم.. وهم يعرفون أن ما فعلته كان من أجلهم/ن لذلك سامحوني”.

ابتعدنا كثيرًا عن الشاطئ.. وحينما اقتربنا من المركب الكبير اعتقدت أنها فرجت، لكن المهرّب لم يتوقف. علت أصوات الحاضرين “توقف. توقف هذا هو المركب دعنا نصعد إليه. لكنه استمر بالإبحار بعيدًا عنه مدعيًا أن هناك مركبًا آخر قادم في طريقه إلينا. علمت أنه يكذب وأننا سنبقى حيث نحن. صمت. احتضنت الصغار برفق وقلت: “ما تخافوا”.

“تابع المركب سيره واشتدت الريح والبرق والرعد. باتت الحياة سماء وماء. وفجأة توقف المحرك عن العمل. تعطل. قال المهرّب: ’لا تقلقوا سنصلح العطل’. بدأ الشباب يغطسون في المياه محاولين إصلاحه لكن من دون جدوى. مرت ثلاث ليال ونحن على هذا الحال. عشنا أوقاتًا لا يمكن وصفها. صراخ وخوف وبكاء.. بعد أيام لم يعد لدى الصغار طاقة على البكاء، فاكتفوا بالأنين.. جميعهم تقيؤا.. لا ماء ولا طعام.. ليس في حيلتنا سوى الصبر واحتضان بعضنا البعض خوفا من أن يقتلنا البرد”.

تكمل: “قبالتي جلست امرأة بين يديها رضيع. تعبت من حمله وكانت في حال إعياء شديد، فقلت لها هاته. حملته يومين متتاليين. وعندما تعبت أردت ارجاعه إليها، فرفضت. كان الإعياء قد أدماها. فتمتم: “لا أريده. أرميه في الماء”. كان هذا من أصعب المواقف بالنسبة لي. استمريت في حمله والاعتناء به. نظر إلي زكريا وسألني: “ماما، نحن رح نموت هون؟”. لم أجب واكتفيت بذرف الدموع سرًّا”.

حاول معظمنا استخدام الهواتف الخليوية للاتصال بأحد لإنقاذنا، وبعد محاولات عديدة تمكنت انا من التقاط إشارة. اتصلت بأخي وقلت جملة واحدة: “نحن عالقون بالحبر وسوف نموت”، ثم انقطع الاتصال.

بعد أيام.. رأينا مركبًا للجيش اللبناني يقترب منا. بدأ العناصر بمناداتنا عبر مكبر الصوت وأنقذونا.

عدنا أدراجنا إلى مرفأ طرابلس وخضعنا لساعات من التحقيق، لكن لم نتمكن من استعادة أموالنا فقد سجن المهرب.

تصمت سماح مجددًا. تجول بعينيها في المكان بحرقة، ثم تردف: “في حينه قلت أن كل ما أنا فيه من فقر وذل أهون من انتظار الموت على متن قارب.. ولكن لا أخفي أنه إن كان باستطاعتي مجددًا الهرب، بطريقة تضمن الوصول إلى أوروبا، سوف أفعلها مجددًا”.

أحلام… المرأة الصابرة

أحلام، اسمٌ على مسمى. تحلم بأشياء كثيرة وأهمها أن تلتقي بابنها مجددًا. هو مطلوب للدولة اللبنانية بجرم محاولة قتل. تقول: “كان عمره 17 عامًا. شاب طائش لا يفقه شيئًا. تهور وفعل ما فعل، فلم أجد سبيلًا إلا تهريبه خارج البلاد. ومنذ حينه لم أره. لقد مضى على الحادثة أكثر من عشر سنوات. فقلت أن محاولة الفرار عبر قوارب الهجرة غير الشرعية قد تنفع للقاء به في ألمانيا حيث يعيش بشكلٍ غير قانوني، فقد غرر به هناك أيضًا”.

أحلام في الـ57 من عمرها. تعيش على رزمة أدوية هي وزوجها الذي خضع لعمليات عدة في القلب. أولادها المتزوجين يعيشون “على قد حالهم” ولا قدرة لهم على إعالتها أو مساعدتها، فاختارت أن تدفع كل ما ادخرته في حياتها ثمنًا لحلم بالفرار والوصول للعيش في دولة تحترم أبناءها من كبار/كبيرات السنّ والمعوزين/ات.

تردد زوجها كثيرًا قبل الموافقة على اقتراحها بالمخاطرة، ولكنها أصرت قائلة: “يا بموت أنا وياك يا عيش أنا وياك”. حزم الزوجين أمتعتهما وانطلقا في رحلة محفوفة بالمخاطر من سواحل القلمون أيضًا. وبعد ليالي في البحر وصلوا إلى السواحل التركية وهنا كانت المصيبة، تقول: “لم تكتمل فرحتنا بالوصول فرأينا مركبًا ضخمًا يتجه نحونا وبدأ من عليه بالتكلم باللغة التركية. أجاب من كان معنا أننا من لبنان، فبدأ العناصر الأتراك بسحبنا من القارب الصغير. وضعونا على متن باخرة وأوصدوا أيدينا ونقلونا إلى سجن في إزمير”.

رحلة المخاطرة انتهت بأن ذاقت أحلام وزوجها معاناة الزلزال الكبير الذي ضرب تركيا في حينه. تقول: “أستغرب أحيانًا كيف أننا لا زلنا على قيد الحياة بعد كل ما مررنا به”.

إثر نجاتهما من الزلزال تكفلت جمعية خيرية تركية بإصدار جوازات سفر لهما وتأمين عودتهما إلى لبنان. هكذا عاد الزوجان مزوّدان بلحظات رعبِ وبذاكرة من المعاناة، إلا أن ذلك لم يمنعهما من التفكير بتكرار الأمر، فها هي أحلام تشدد: “لو أنني قادرة على الفرار مجددًا فسوف أفعلها. لم يبق في العمر أكثر مما مضى، فإما أن نعيش ما تبقى بكرامة وإلا فلا لزمة لهذه الحياة”.

وبحسب آخر إحصاءات الدولية للمعلومات، فإنه منذ أيلول/سبتمبر من العام 2013 ولغاية أيلول من العام 2022، بلغ عدد الضحايا الذين/ اللواتي غرقوا/ن في البحر أثناء محاولتهم/ن الهجرة غير القانونية 248 ضحية. يُضاف إليهم/ن مئات ممن هاجروا/ن وانقطعت أخبارهم/ن، فلم يُعرف إذا كانوا/كن قد وصلوا/ن إلى وجهتهم/ن أو تعرضوا/ن لمصيرٍ محتومٍ في البحر.

أما المحاولات التي تم الكشف عنها وتوقيفها فهي عديدة منها، 25 مركبًا في العام 2021 كانت يقلّ نحو 750 مهاجرًا/ة، و4 مراكب في العام 2020 كانت تقلّ 126 شخصًا. ولطالما تنوّعت جنسيات المهاجرين/ات بين سوريين/ات ولبنانيين/ات وإفريقيين/ات (من إثيوبيا كانت النسبة الأكبر).


وذكرت الدولية للمعلومات أن أماكن الاقلاع تنوعت، ولكن كانت حصة الأسد لمدينة طرابلس، وتحديدًا بحر الميناء، تليها مدينة المنية ثم القلمون والعبدة في محافظة عكار، وكلها مناطق في الشمال اللبناني، حيث نسبة الفقر هي الأعلى في لبنان.

جهود لمكافحة الهجرة غير الشرعية: إيطاليا على خط الدعم..

رغم تراجع أعداد قوارب الموت في لبنان في السنتين الأخيرتين إلا أن احتمال تكرار المآسي لا يزال قائمًا، خصوصا مع تضاعف العوامل الخارجية الضاغطة والتي تزيد الوضع اللبناني تأزمًا.

فمؤخرًا، زادت حدة الخسائر الاقتصادية في البلاد مع الحرب الإسرائيلية العنيفة التي أرخت بثقلها على كل القطاعات، ومختلف الفئات الاجتماعية، لا سيما النساء والأطفال/الطفلات، وقد قُدرت بنحو 8.5 مليار دولار.

بالإضافة إلى ذلك، خسر/ت العديد من اللبنانيون/ات عشرات المشاريع التي كانت ممولة بملايين الدولارات عبر برامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID لا سيما على مستويات التعليم والصحة والتمكين الاقتصادي.

وفي ظل غياب الدولة اللبنانية وتقاعسها عن إيجاد حلول فعلية وعميقة لأزمة الهجرة غير الشرعية، ولمعالجة الأسباب التي تدفع المواطنين/ات إلى المجازفة بحيواتهم/ن وحيوان أطفالهم/ن في قوارب الموت، تحضر دول أوروبية عدة على خط الدعم، ومنها إيطاليا التي تعتبر حدودها البحرية وجهة أساسية.

وفقًا لتقرير نشرته صحيفة “لوموند الفرنسية”، تعتبر إيطاليا دولة المواجهة الأولي مع الهجرة غير القانونية، حيث تستقبل كل عام ما يقارب من 56% من أعداد المهاجرين/ات العابرين/ات من البحر المتوسط. ويرجع ذلك لعدة عوامل جاذبة، يأتي على رأسها تمكنها من توفير فرص عمل بأجور مرتفعة، مقارنة بما يحصل عليه المهاجر في بلده الأصلي، كما تقدم خدمات صحية واجتماعية للمهاجرين/ات إليها، بالإضافة إلي توفير سُبل الإعاشة للناجين/ات من الغرق، عن طريق احتجازهم/ن في مراكز مجهزة، حتي يتمكن/وا من العودة إلي دولهن/م، وتعد إيطاليا من الدول الأوروبية ذات التكلفة المنخفضة في المعيشة، ما يجعلها الوجهة الأولى لغالبية المهاجرين/ات.

وتعتبر الحكومة الإيطالية الحالية برئاسة جورجيا ميلوني أكثر الحكومات سعيًا لمعالجة ملف الهجرة غير القانونية بهدف العمل على وقف الإتجار بالبشر والحد من خسارة الأرواح بطرق مفجعة في البحر. وفي محاولة للموازنة بين النهج الصارم تجاه الهجرة غير القانونية وإتاحة بعض الفرص للمهاجرين/ات القانونين/ات، تعتزم إيطاليا قبول 300 مهاجر للعمل من لبنان وساحل العاج وإثيوبيا في إطار مشروع تجريبي تقوده جماعة “سانت إيجيديو” الخيرية لكنهم/ن لن يحصلوا/ن على حق اللجوء.

يسعى مشروع “ممرات العمل” الذي اتفقت عليه “سانت إيجيديو” مع وزارة الداخلية الإيطالية إلى توظيف عمالة منخفضة الأجر نسبيًّا من دول فقيرة خارج الاتحاد الأوروبي، بحيث سيتم اختيار وتوظيف المهاجرين/ات في بلدانهم/ن الأصلية بعد إخضاعهم/ن لدورات تعليم اللغة الإيطالية والتدريب المهني على وظائف محددة مخصصة لهم/ن قبل انتقالهم/ن.

في المحصلة، يبقى الحلم بـ”الفردوس الأوروبي” حاضر لدى شريحة كبيرة من اللبنانيين/ات، وخصوصًا فئة الشباب، فهل يكفي تسهيل رحلات الهجرة للحد من خسارتهم/ن لأرواحهم/ن، أم أن المطلوب دعم البلدان النامية المُصدّرة للهجرة والضغط عليها نحو وضع سياسات عامة أكثر عدلًا وشمولية تجاه أبنائها/بناتها، بحيث توفر لهم/ن ما توفره الدول الأوروبية لسكانها؟

 

كتابة: ساندي حايك

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد