
“الصفقة”: قراءة نقدية في تمثيل استقلالية النساء وتحدياتهن في المجتمع الخليجي
بعد النجاح الكبير الذي حققه مسلسل “الصفقة” في موسمه الأول، عاد الموسم الثاني ليكمل رحلة “فريدة” و”منيرة” في عالم البورصة الكويتية إبان الثمانينيات.
يتجاوز “الصفقة” كونه مجرّد دراما تقليديّة خليجية عن البورصة وسوق العمل، إذ تعيد مؤلفة العمل، الإعلامية والكاتبة نادية أحمد، طرح أسئلة جوهرية حول قدرة النساء على التحرر من القيود المفروضة عليهن في بيئةٍ تربط حريتهن برضى العائلة والمجتمع، ويصوّر نجاحهن كمعركة يومية تتجاوز التحديات الاقتصادية لتطال البنية الاجتماعية أيضًا.
“الصفقة” ليس مجرّد عملٍ عن المال أو النجاح فقط، بل هو كشف لآليات القمع الخفي التي تُمارس ضد النساء عندما يقررن تجاوز الحدود المرسومة لهنّ.
العائلة: بين الدعم والتقييد
يُلقي “الصفقة” الضوء على العائلة بكونها إحدى الأدوات الرئيسية التي تعيد إنتاج الأدوار الجندرية وترسّخ الحدود المفروضة على النساء في المنظومة الاجتماعية الشرقيّة. وبالرغم من وجود نماذجٍ خارجة عن السائد -كوالد “فريدة” الداعم لها مثلًا- إلا أن المسلسل يؤكد أن هذه الحالات تظل استثناءً نادرًا، فالغالبية العظمى من النساء يواجهن ضغوطًا تُعيدهن إلى المسار التقليدي ما إن يخرجن عنه، حيث يصبح الاستقلال خيارًا مؤقتًا لا يعترف به المجتمع إلا إذا كان تحت مظلة أبويّة.
والد “منيرة” هو التجلّي لمصدر هذه الضغوط، حيث لا يتوقف عند محاولة فرض سلطته الأبوية عليها، بل يستخدم موقعه المالي وعلاقاته المهنية لفرض عروض زواجٍ أشبه بصفقات تُدار لمصلحته، فهو يرى في زواجها فرصة لتلميع اسم العائلة والتخلص من عبء عدم زواجها بعد، بينما يتمتع أبناؤه الذكور بحرياتهم دون قيود.
ورغم أن “منيرة” تحقق نجاحًا ماليًا يفترض أن يمنحها استقلالها، إلا أن وجودها تحت سقف العائلة يظل أداة للسيطرة عليها، ما يعكس كيف تُعاد إنتاج التراتبية الاجتماعية بين الأجيال، إذ يُنظر إلى تحرر النساء كتهديد للتوازن الأسري الذي يجب أن يُحافَظ عليه بأي ثمن.
استقلال النساء: بين الحرية الشكلية والقيود غير المعلنة
رغم تصاعد الخطابات النظرية حول تمكين النساء، إلا أن الواقع لا يزال مليئًا بالعراقيل التي تحول دون استقلالهن الفعلي. فحتى أبسط حقوق “منيرة” و”فريدة” -كفتح حساب مصرفي أو استئجار غرفة في فندق- يصبح تحصيلها بمثابة معركة، حيث تُقابل المرأة بأسئلة استجوابية وكأن استقلالها أمر مريب يتطلب موافقة رجل يمنحها “الشرعية”، سواء كان أبًا أو زوجًا أو حتى مشرفًا قانونيًا.
“لم نصل بعد إلى ثورة نسوية حقيقية تحصّل للنساء جميع حقوقهن. لكن هناك جهود متواصلة من نساء يعملن على خلق مساحات لغيرهنّ على خطى الرائدات اللواتي مهدن الطريق لنا.”
مؤلفة “الصفقة” نادية أحمد
في مشهدٍ دالّ، تحاول “فريدة” فتح حسابٍ مصرفيّ فتواجَه بسؤالٍ استهجاني من موظف البنك قائلًا: “هل أنت متأكدة من قدرتك بمفردك على التعامل مع هذه الأمور المالية؟”. وفي هكذا سؤال ترسيخ لفكرة أن نجاحها المهني لا يكفي لتمنحها المؤسسة المالية الثقة ذاتها التي تُمنح تلقائيًا للرجل. كما حدث مع “منيرة” التي حاولت منح نفسها قليلًا من الاستقلالية باستئجارها غرفة في فندق، فقوبلت بأسئلة عديدة من موظف الفندق تنتهك خصوصيتها وتشكّك في السبب الذي دفعها الى ذلك.
مثل هذه العراقيل نراها واضحة جليّة في عصرنا الحالي كما كانت في الثمانينيات، مع اختلافات صغيرة تحمل الجوهر القمعيّ ذاته. عند سؤالي للكاتبة “نادية أحمد” عن رأيها في مدى تطور أوضاع النساء منذ الثمانينيات حتى اليوم، أجابت: “لم نصل بعد إلى ثورة نسوية حقيقية تحصّل للنساء جميع حقوقهن، لكن هناك جهود متواصلة من نساء يعملن على خلق مساحات لغيرهنّ على خطى الرائدات اللواتي مهدن الطريق لنا.”
“فريدة” في المسلسل، كانت مثال حيّ للنساء اللواتي ناضلنَ لتحصيل أبسط حقوقهن. فقد فرض زوجها السابق “قضية حجر” عليها لسحب ابنتها منها، كورقة ضغط يستخدمها لإخضاعها له. لكن مثل هذه قوانين متعلقة بالحضانة أخذت تنصف الأم في السنوات الأخيرة بتغيّرات طفيفة ولكن ملحوظة عن سابقاتها، فالكفاح النسوي ما زال طويلًا مثقلًا بالتعب المترتب على النساء لنيل حقوقهن كاملة.
هذه الإشارة تعكس حقيقة أن الاستقلالية التي تحصل عليها النساء لا تأتي كنتيجة لتغيير مجتمعي شامل، بل بفضل نضالٍ فرديّ ومستمر ضد القيود التي لا تزال تُمارَس بصور جديدة وأكثر خفاءً.
نساء حقيقيات لا أيقونات مثالية
من نقاط قوة “الصفقة” أنه يقدم شخصيات نسائية متعددة الأبعاد، بعيدًا عن القوالب الجاهزة التي تحصر النساء بين ثنائية الضحية والمثالية.
وقد أكّدت الكاتبة على إصرارها في إظهار الشخصيات بهذا العمق، كمحاولة منها لكسر الجليد المتراكم للنمطيات، وأعربت عن ذلك بقولها: “آثرت على تقديم النساء في المسلسل بصورة واقعية، فقد رأينا “منيرة” و “فريدة” تدخنان مثلًا، وفي هذا تحطيم للصور النمطية عن الكاركترات النسائية التي قُدمت لنا على مدار سنوات، خصوصًا في الدراما الخليجية، التي صدّرت لنا مشهد النساء المدخنات على أنهن خطّاءات أو شخصيات سيئة، بينما في الواقع لا شيء يربط الأمرين ببعضهما”.
هذه النزعة الواقعية تعطي الشخصيات طابعًا إنسانيًا، إذ لا يتم تقديم المرأة ككيانٍ مثالي، بل كإنسانة تخوض تجارب الحياة بقرارات قد تكون صائبة أحيانًا وخاطئة أحيانًا أخرى، مع منحنّ الحقّ بأن يخطئن دون تقييدهنّ بـ”إطارٍ نموذجي”. مثلما حصل مع “فريدة” التي نراها تواجه تحديات مختلفة، خصوصًا في علاقتها مع ابنتها، حيث تحاول إصلاح الفجوة بينهما بلا جدوى. هنا، تُقدَّم الأمومة ليس كحالة مثالية من الحكمة والاحتواء، بل كدورٍ مليء بالصراعات والتحديات. فـ”فريدة” تحب ابنتها، لكنها ليست دائمًا قادرة على فهمها أو اتخاذ القرارات المثلى بشأنها، ما يعكس صورة أكثر صدقًا للنساء اللواتي يواجهن مسؤولياتهن دون أن تكون مضطرة لأن تكون مثالية طوال الوقت.
بهذا الطرح، يتجنب “الصفقة” إعادة إنتاج الصور النمطية للنساء، التي تفرزهنّ بين نساء مضحيات بالكامل أو فهنّ “سيئات”، فيُقدّمهن كأفراد طبيعيات يعشن حياتهن بتعقيداتها المختلفة.
الزواج كآلية لضبط مسار النساء
أظهر “الصفقة” الزواج على أنه أداة أبويّة تستخدم لإعادة قولبة النساء في أدوارٍ جندريّة مُعدّة لهن مسبقًا.
فـ”منيرة”، رغم نجاحها المهني، تجد نفسها تحت ضغطٍ متواصل لقبول عروض زواج لا تتناسب مع قناعاتها، فقط لأن المجتمع يرى أن دورها لا يكتمل قبل أن تُصبح أُمًّا متفرّغةً لزوجها وأولادها.
وفي سياق آخر، يُظهر المسلسل كيف يُمكن للزواج أن يكون بمثابة مصيدة ذكوريّة، إذ يتحول بمرور الزمن من مساحة للحرية والدعم إلى عقدٍ غير متكافئ، يفرُض فيه الزوج قيوده على الزوجة مستغلًا التقاليد الاجتماعية المرتبطة بمفهوم الزواج الناجح.
“جهّزي القهوة لمديرك، فإن انجازك ليس بالشيء الذي يستحق الذكر، ووجودك هنا مرهون بذاكرتك الجيدة لكي تعدّين القهوة كما يحبّها المدير دائمًا، فهذا ما تجيده النساء فعلًا”.
لقطة من المسلسل تبرز النكات التحقيرية ضد النساء
بعض الشخصيات الذكورية تستغل الإغراءات المادية والعاطفية لاستقطاب النساء، مثلما فعل زوج “فريدة” السابق حين قرّر أن يتزوج مجددًا من فتاة تصغرهُ بعقود مغريًا إيّاها بالوعود والرفاهية والحرية ثم بدأ تدريجيًا بتقييدها كما فعل مع “فريدة”، ما يعكس نمطًا شائعًا من استراتيجيات الهيمنة التي تبدأ بالوعود وتنتهي بالسيطرة، فتحمّل النساء دائمًا اللوم عند فشل العلاقة، بينما يستمر الرجل في حياته دون أن يُساءل. الطلاق مثلًا، وبدلَ من أن يُنظر إليه كخيار للتحرر من علاقة غير متكافئة، يصبح وصمة تُلاحق النساء، ما يدفعها إلى صراعٍ دائم بين رغبتهن في الاستقلال وخوفهن من الأحكام الاجتماعية.
كما يزداد موضوع الطلاق تعقيدًا بوجود الأولاد، حيث أن حضانة الأم للأولاد في الثمانينيات كانت مقيدة في القانون الكويتي، ولا قوانين كافية تضمن هذا الحق لها، إلى الحدّ الذي جعل فكرة زواجها مرة أخرى أمرًا غير مطروح؛ لأن ذلك كان سببًا كافيًا لسحب حضانة الأولاد منها. وقد ناضلت النساء الكويتيات على مدار عقود لسنّ قوانين جديدة تتعلق بحضانتها لأطفالها، واستطعن تحصيل بعض حقوقهن في ذلك خارج إطار المظلة الأبوية، بقوانين تعزز حقوق الأطفال/الطفلات وأمهاتهن/م على حدّ سواء، وتوفير بيئة أمنة لهن/م، ومع ذلك كان ذلك التطور بطيئًا محكوم بقوانين أبوية راسخة تُهمَّش فيه النساء واحتياجاتهن أمام الرجال.
النساء بين النجاح واللوم: كبش فداء أم شريكة حقيقية؟
يظهر جليًا في “الصفقة” كيف أن الرجال لا يتحملون وجود نساء تضاهيهم قدرة. في كل مرة تحقق إحدى البطلات نجاحًا، يتم تحقير إنجازها أو التقليل من شأنه عبر نكات مستفزة واستهزاء مبطن، مثلما حدث مع “فريدة” عندما بدأت بالعمل في البورصة، وعند اتمامها أوّل تقرير لها بنجاح وسرعة فائقة، قوبل ذلك من قبل زملائها الرجال بالاستهجان، وقول أحدهم: “جهّزي القهوة لمديرك، فإن انجازك ليس بالشيء الذي يستحق الذكر، ووجودك هنا مرهون بذاكرتك الجيدة لكي تعدّين القهوة كما يحبّها المدير دائمًا، فهذا ما تجيده النساء فعلًا”.
هذه الآلية الدفاعية ليست عبثية، بل هي انعكاس لخوف البنية الذكورية من فقدان السيطرة. وهذا ما يؤكد التناقض العميق في تعامل المجتمع مع نجاح النساء، حيث يتم تحميلهن مسؤولية الفشل أكثر مما يُنسب إليهن الفضل عند تحقيق الإنجازات. فـ”منيرة” و”فريدة”، وبالرغم من تفوقهما في سوق العمل، تتعرضان للطرد بسبب قرارات لا دخل لهما بها، وحتى عندما قرر مديرهنّ في العمل “أمير” كتابة مقال يمدحهنّ فيه، لم يكن الهدف منه الاعتراف الحقيقي بقدراتهنّ، بل كان مجرد وسيلة لتحقيق صفقة معينة، ما يعكس أن النساء يبقين الحلقة الأضعف في سوق العمل، كما يتم استخدامهنّ كأدوات تخدم المصالح الذكورية دون منحهنّ تقدير فعليّ.
إضافةً إلى ذلك، نرى كيف أن النظام لم يصمم ليشمل النساء أصلًا، كما يتجلّى في غياب مرافق خاصة بالنساء في عملهنّ. وعندما اشتكت “منيرة” لمديرها “أمير” ذلك، كان الرد ببساطة: “لم يشتكِ أحد من قبل”. وكأن حاجات النساء غير مرئية ما لم يجُبرن على اثباتها والقتال من أجلها، وهذا ما يجعلهنّ مضطرات دائمًا للتكيّف مع شروط لم توضع لهنّ أصلًا.
اللغة البصرية كأداة نقدية
يستخدم المسلسل تقنيات تصوير تعزز رسالته النقدية. تبدأ هذه التقنيات من التوتر البصري، حيث تصبح الكاميرا غير مستقرة في لحظات الضغط النفسي، كأنها تعكس اهتزاز المكانة الهشة للنساء في العالم. أما الألوان، فتتحول إلى أداة رمزية تكشف عن التمييز الجندري، حيث نرى البطلات يرتدين ألوانًا زاهية وسط بحر من الرجال الذين يرتدون ألوانًا داكنة، وكأنهنّ عنصر “غريب” عن المنظومة التي تحاول إقصاءهنّ.
يُترجم القمع أيضًا من خلال وضع الشخصيات داخل الكادر، حيث نجد النساء محاصرات بصريًا بين الرجال أو في زوايا ضيقة، ما يخلق شعورًا بعدم القدرة على التحرك بحرية. وعلى مستوى السرد، يوظف المسلسل المونتاج الموازي لعقد مقارنة صامتة بين حياة النساء والرجال، حيث تنشغل البطلات بإثبات أنفسهنّ في العمل، بينما ينعم الرجال بمساحة من الحرية والاسترخاء، وكأن النظام صُمم ليمنحهم الأولوية تلقائيًا.
ختامًا: “الصفقة” كمرآة للتحولات الاجتماعية
“الصفقة” ليس مجرد دراما خليجية عن سوق المال، بل هو عمل يعكس التحولات التي تمر بها المجتمعات العربية _وخصوصًا الخليجية، وتحديدًا الكويتية حيث تجري أحداث المسلسل_ في نظرتها لأدوار النساء. من خلال تفكيك القوانين غير المعلنة التي تحكم استقلالهن، وتسليط الضوء على التناقضات التي تواجههن في العمل والعلاقات.
أوضحت ذلك الكاتبة “نادية أحمد” بقولها: “أتمنى أن يكون الصفقة قد قدّم خطابًا نسويًا مختلفًا، يشكل بادرة لأعمال أكثر عمقًا، بعيدًا عن الصور النمطية المعتادة، حيث نادراً ما سلطت الأعمال الخليجية الضوء على هذه القضايا، إذ تكاد لا توجد دراما تدور أحداثها في بيئة عمل ببطولة نسائية مطلقة مثلما فعلنا في هذا العمل.”
تلعب الدراما دورًا محوريًا في إعادة تشكيل السرديات حول النساء، ليس فقط عبر تسليط الضوء على قضاياهنّ، بل أيضًا من خلال تحدي الصور النمطية وإعادة تعريف أدوارهنّ في المجتمع. ورغم جرأة الطرح الذي لمسناه في المسلسل، إلّا أن القضايا النسوية مليئة بتفاصيل أكثر حساسية وتعقيدًا، تحتاج إلى إنتاج المزيد من الأعمال التي تتناول قضايا النساء بجرأة، وهذا ما يعدّ ليس ضرورة فنيّة فقط، بل مسؤولية ثقافية تسهم في خلق وعي أعمق وتعزيز التغيير الاجتماعي.