
الإقصاء الافتراضي: عنف خفيّ يقطع علاقة النساء بالعالم
قبل جيل من عمر البشرية؛ أي 33 عامًا، لم يكن استخدام الإنترنت أمرًا هينًا كما هو اليوم، بل اقتصر على المراسلات والمباحثات الأكاديمية مدة 22 عامًا خضع خلالها للكثير من التطوير الذي خلُص إلى شكله الحالي المعروف باسم شبكة الويب العالمية، فأصبح وسيلة شاملة للتواصل والبحث والتبادل مما غيّر طريقة تفاعل البشر مع العالم بشكل جذريّ، ولربما، لا رجعة عنه.
لمسة رقيقة على هاتف محمول بحجم كفّ اليد أصبحت كفيلة بإلغاء المسافات عبر تواصل لا ينقصه سوى الرائحة والتلامس ليكتمل كما لو أنه يحدث وجهًا لوجه، حتى ولو كان بين شخصين في قارتين مختلفتين.
ورغم بساطة هذا الوصول وكثافة انتشاره، وضرورة توافره بوصفه عنصرًا أساسيًا في الحياة الاجتماعية، وتحوّل إلى حق قائم بحد ذاته، إلّا أن حصول الفتيات والنساء عليه ليس تلقائيًا ولا هيّنًا كما يجب له أن يكون. فقد شكّل استخدام الإنترنت ساحة جديدة لفرض السيطرة على حيوات النساء والفتيات، وأتى بشكل جديد من أشكال العنف الممارس بحقهنّ تحت مظلّة النظام الأبوي، الذي وصفته كاثي كولي رائدة الحركة النسوية الراديكالية بأنه يتعدّى الهيمنة الاجتماعية مشابهًا الاحتلال.
فكما يتحكم النظام المحتل بواقع ومصير الشعب الرازح تحت سيطرته، يمنح النظام الأبوي سلطة مطلقة للرجال تخوّلهم التحكم بحيوات النساء والفتيات بدءًا من الجنس والجسد، مرورًا بالمجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على مختلف تفرّعاتها، وصولًا إلى الفضاء اللامادي؛ الإنترنت.
الحبّ ذريعة الراغب بالسيطرة
اختبرت (سلمى 29 عامًا) أشكالًا عديدة من التعنيف النابع من رغبة شريكها بالسيطرة على حياتها والتحكم في خياراتها. كانت مراهقة في السادسة عشر من عمرها عندما تعرّفت عليه، وجمعتها به علاقة عاطفية استمرت خمس سنوات عانت خلالها الكثير من الإساءات، تستذكر أكثرها قسوة في موقف حدث وسط الشارع عندما صفعها شريكها السابق على وجهها لأنه اكتشف مخالفتها لتعليماته بعدم إنشاء حساب على تطبيق التواصل -الجديد حينها- واتساب.
ولم يكن الواتساب الممنوع الوحيد، بل كان هنالك قائمة طويلة من ممنوعات التواصل يتقاطع فيها الافتراضي مع الواقعي، ويشكّل كلّ منهما امتدادًا للآخر؛ الخروج من المنزل دون إذنه ممنوع، كما كان تصفّح الفيسبوك دون مراقبته وإشرافه ممنوع أيضًا، عن ذلك تقول سلمى “كلمة سرّ حسابي لم يسمح لها بأن تكون سرية، وبالطبع لم أشاركها طواعية معه، وإنما حصل عليها بعد إلحاح بذريعة خوفه وغيرته عليّ. وبالاعتماد على نهجٍ عالٍ من الابتزاز العاطفي نجح بامتلاك الصلاحية المفتوحة والوصول إلى حسابي على فيسبوك، وتفتيش محادثاتي ومراقبة نشاطي، كانت موافقتي دليل على حبّي له وتقديري لغيرته”.
تظهر التجربة القاسية لسلمى ارتباط التعنيف الجسدي، بالإقصاء عن العالم الافتراضي إذ يعمد المعنّفون دومًا إلى عزل ضحاياهم عن المحيط، وتكريس شعور الوحدة والعجز بما يضمن استمرار حالة السيطرة والتحكم.
ففي لبنان، بلغت نسبة مستخدمات الإنترنت 46% فقط وفق تقرير الشبكة الرقمية العربية لعام 2022، ورغم أنها أحدث دراسة بهذا الشأن، إلّا أن تفنيد أسباب غياب الفتيات والنساء عن الفضاءات الرقمية، وضعف استخدامهن للإنترنت مقارنة بالرجال؛ يصعب تحديد أسبابه وحصرها بدقّة. ففي الكثير من الحالات تمنع النساء والفتيات من اقتناء هاتف محمول في المقام الأول.
تروي سوسن (30 عامًا) عن تجربتها مع الحرمان من الهاتف المحمول، والأثر النفسي لذلك عليها “أخذ والدي هاتفي لأول مرة عندما كنت في عمر 17 عامًا، وكسر خط الهاتف، بدافع منعي عن التواصل مع الشاب الذي كنت على علاقة معه. وبعد ذلك بفترة وجيزة استطعت استرجاع الهاتف دون معرفة والدي، فبقيت أستخدمه سرًّا. صوت رنينه مكتوم دومًا، كما أنني كنت أخفيه داخل كومة من الملابس وسط الخزانة؛ لقد كان رعبًا حقيقًا بالنسبة لي أن يكتشف والدي أنني استرجعته، وقد استهلكتني سنوات طوال حتى تخلّصت من هذا الشعور”.
يودي الخوف المستمرّ إلى حالة عامّة من الفزع. “اضطراب القلق المُعمم” هو واحد من اضطرابات الصحة النفسية التي تصاب بها النساء بمعدل ضعفين أكثر من الرجال. وبالتأكيد، ليس التعنيف الإلكتروني، أو الحرمان من التواصل هما السببان الوحيدان، إلّا أن التضييق والمحاصرة المتمثّلة بالرقابة على التواصل والحركة يشكّلان سببًا مباشرًا لشعور القلق.
لاحقًا، عندما بلغت سوسن عمر 24 سنة، سلب هاتفها منها مجددًا، ولكن هذه المرة من خطيبها.
“خطيبي، الذي كان خطيبي حينها، كان يتجسّس على حساباتي بعد أن أجبرني على مشاركة كلمات المرورمعه.
شاركته كلمة مرور حساب الفيسبوك في محاولة مني لإقناعه بأنني لا أخونه. فقبل أن يحصل عليها كانت أشبه بالتواجد تحت عدسة مجهر يراقب منه خطيبي تحرّكاتي كلّها. يوبّخني إذا شاركت أيّ شيء على وسائل التواصل الاجتماعي حتى وإن كانت صورة وردة، كما كان يمنعني من استخدام واتساب إلّا للردّ على رسائله فقط”.
في السجن الافتراضي تصبح عيون المراقب أكثر حدّة
في روايته الشهيرة 1948 تحدّث جورج أورويل عن المراقبة الدائمة، بوصفها واحدة من أقوى وسائل القمع والترهيب؛ “الأخ الأكبر يشاهدك” تلك العين التي تنتهك خصوصيتك، وتقف بسلطتها على أكثر لحظات حياتك حميمية وعمقًا، ما يسلبك شعور الأمان بشكل كامل. “لم يعد هناك مكان آمن سوى سنتمترات معدودة في الجمجمة” كانت تلك الجملة تعبيرًا عن الديستوبيا في دولة أوقيانا المتخيّلة، حيث يكون “الإنسان/ة” بذاته/ا شيئًا في ملكية الأخ الأكبر، أكثر من كونه شخصًا. وهو ما تختبره النساء والفتيات في المجتمعات الأبوية المليئة بـ “إخوة كبار” يمارسون رقابتهم ووصايتهم عليهنّ.
بعد سنوات، نجحت سوسن بالانفصال عن خطيبها، واستعادت جزءًا من السيطرة على حياتها، ولكنّها إلى اليوم، تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي بحذر شديد خوفًا من عائلاتها التي تختلف معها في الآراء السياسية. فبعد مشاركتها في ثورة السابع عشر من تشرين في لبنان، أصبحت من “المغضوب عليهنّ” لمعارضتهنّ سلطة حزب الله في القرية. وهو ما حال بينها وبين التعبير عن آرائها علانية خوفًا من العقاب الأسريّ أو المجتمعي.
في التقرير الأول من سلسلة قياس التنمية الرقمية الصادرة عن الاتحاد الدولي للاتصالات عام 2019، الذي حمل عنوان قياس التنمية الرقمية
أظهرت بيانات الاتحاد الدولي للاتصالات أن النساء ما يزلن متأخرات عن الرجال في استخدام الإنترنت في معظم دول العالم. وقدّر التقرير أن 52% من النساء والفتيات؛ أي ما يربو عن نصف سكان العالم منهنّ، لم يستخدمن الإنترنت بعد. وأما في الدول التي سجّلت النساء والفتيات حضورًا في فضائها الرقمي، فكانت النسبة 48% نساء وفتيات، مقابل 58% من الرجال والشبان.
يخلق هذا الانقسام بين أشخاص يتمتعون بصلاحية وقدرة على الوصول إلى وسائل التواصل الحديثة، وأخريات يحرمن منها بسبب نوعهنّ الاجتماعي؛ إلى خلق فجوة رقمية تنعكس على مختلف جوانب الحياة وأنشطتها إذا يترافق حرمان النساء والفتيات من استخدام الإنترنت مع خسارتهنّ لفرص تعليمية وعملية عديدة، وهو ما يساهم بتفاقم الفجوة الاقتصادية والمعرفية لصالح الرجال.
ولطالما أن العنف ضد النساء والفتيات يعكس عدم التكافؤ في موازين القوى اجتماعيًا وقانونيًا، فإن تطوّر العالم الرقمي حمل هذا العنف معه إلى الفضاء الافتراضي بأشكال متعددة. في لبنان، يظهر التقرير الرقمي للشبكة الرقمية العربية عام 2022 أن 35% من النساء عانين شكلًا من أشكال العنف الإلكتروني مرة واحدة على الأقلّ.
الإقصاء الافتراضي.. أنا هناك.. أنا هنا!
كانت رؤى (24 عامًا) واحدة من الفتيات اللواتي اختبرن عنفًا رقميًا متداخلًا، إذ بدأ من ردّ فعل انتقاميّ صادر عن شاب رفضته بأن نشر لها صورًا للـ”إضرار بسمعتها”، وامتدّت إلى التعنيف الجسدي من قبل والدها، وصولًا إلى عزوفها الكامل اليوم عن استخدام أيّ من وسائل التواصل الاجتماعي.
تعلّق على ذلك بقولها “لا رغبة لديّ بالعودة إلى هذا الفضاء المفتوح الذي لا ضوابط فيه، إنه مكان مرعب، ولا يمكن حصره. أنا محرومة اليوم من الإنترنت؛ لا أتسوّق، ولا أتابع مقاطع مضحكة، ولا أحظى بفرص عمل، ولا أتعثّر بتدريبات قد تفيد مسيرتي المهنية، ولكنني لا أستطيع الجزم إذا ما كان هذا قراري النابع عن قناعة أم إنه مجرّد ردّ فعل؟ والمشكلة أنني أشعر دومًا أن شيئًا ما ينقصني. وأخاف دومًا من مواجهة حقيقة أن هنالك عالم موجود بحد ذاته، وفي اللحظة ذاتها، ولكنني أنا لست موجودة فيه”.
يوصّف مصطلح الخوف من تفويت الأشياء (Fear of Missing Out – FOMO)شعور رؤى. وهو مصطلح ظهر عام 2004 ووصل ذروته مع الانتشار الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي. ويمكن اعتبار “الفومو” شكلًا من أشكال القلق حيال عدم المواكبة، وبالتالي الشعور بالعزلة والإقصاء، ما يترك أثرًا سلبيًا على الصحة النفسية للواتي يختبرنها.
ومن الجدير بالذكر أن معظم الدراسات تركّز على الأثر السلبي لاستخدام الإنترنت، وخصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة النفسية، ولكن على المقلب الآخر، هنالك أثرٌ سلبيٌّ للحرمان منها لا يقلّ عمقًا عن الإفراط في استخدامها.
“يمكن القول اليوم إن الهوية الرقمية أصبحت واقعًا، بمعنى أننا صرنا نمتلك صفحات نذكر فيها معلوماتنا الشخصية وهي بمثابة هوية وطنية في العالم الافتراضي. كما أننا نستخدم البطاقات المصرفية للتسوّق، ولدينا حسابات على مواقع مختصّة بإيجاد فرص عمل، ونملأ طلبات للحصول على فرص سفر خارج حدود بلداننا الواقعية، هذا كلّه يحدث بشكل يرتبط فيه الواقعي بالافتراضي. ويؤثّر الحرمان من هذه التجربة على الصحة النفسية للمحرومات منها إذ يترك شعورًا بالدونية، وانعدام الخصوصة، ويؤثّر بشكل عميق على نظرة الفتاة لنفسها، وفهمها لخصوصيتها وحدودها الشخصية، خصوصًا المراهقات اللواتي قد يسعين لتحقيق رغبة الاطّلاع أو استخدام الهاتف المحمول بطرق قد تعرّضهن للخطر أو انتهاك الخصوصية”، تقول المعالجة النفسية شهد هبرة.
تعرّضت منى (22 عامًا) قبل ست سنوات لابتزاز من إحدى زميلاتها في المدرسة، حيث كانت الأخيرة تطالبها بمبالغ مالية مقابل السماح لها باستخدام هاتفها المحمول للتواصل أو لتصفّح الإنترنت، بعد أن قرر والدها معاقبتها على ارتباطها العاطفي مع ابن الجيران، بسلب هاتفها المحمول. تعليقًا على ذلك تقول منى “حينها، لم أكن مدركة أن هذا ابتزاز لي، بل كنت أراه تبادلًا للخدمات رغم أنني أعلم منذ ذلك الحين أنها تستطيع تحديد المبلغ المطلوب حسب رغبتها، وأنني مضطرة للانصياع لأن رغبتي باستخدام الإنترنت كما تفعل صديقاتي، كانت تسيطر عليّ.”
فيما بعد، عزمت منى على اقتناء هاتفّ محمول بشكل سريّ، عبر توفير المبالغ التي تدفعها لصديقتها مقابل الاستخدام المشروط لهاتفها، فتقول “اقتنيت هاتفًا مستعملًا، واستخدمته طيلة عام ونصف تقريبًا دون أن أظهره أمام أبي، كما لم أخبر أحدًا من العائلة بشأنه، إلى أن عثر عليّ عن طريق الصدفة على موقع فيسبوك، واحد من أقربائي فأخبر أبي بذلك. وبالطبع، كان ردّ فعل أبي عنيفًا جدًا على عصيان أوامره، فقد أجبرني على منحه كلمة المرور وراح يفتّش كل شيء داخل الهاتف، ثم تحوّل هذا التفتيش إلى طقس يومي استمرّ إلى أن استقليت عن منزل العائلة قبل عام من اليوم”.
تقول شهد هبرة المعالجة المختصّة بالتحليل النفسي
“عندما نفقد الحق بامتلاك الخصوصية، عندما يجتاحنا الانتهاك، نفقد معه الحق في اتخاذ القرار، وفي ارتكاب الأخطاء؛ أي أن حقّنا بالتعلّم من تجارب الحياة مسلوب ومقيّد. وهذا بحدّ ذاته مسبّب للشعور بالاكتئاب، وله أثر سلبيّ كبير على شكل العلاقات العاطفية كونه يمسّ بشكل مباشر مفهوم الثقة. فمن الوارد جدًا أن تعجز الفتاة المراهقة التي لم تمنح الثقة لخوض تجربتها الخاصة، على منح هذه الثقة أو تشاركها في علاقاتها لاحقًا. الفتاة ستجد دائمًا وسيلة لتجربة ما تريد تجربته، ليس لأنها “فتاة” ولا لأنها “مراهقة” بل لأنها إنسانة. وهذا ما تدفعنا أدمغتنا إليه؛ أن نجرّب ونختبر ونتعلّم. ولكن الحرمان والإجبار على استخدام وسائل غير طبيعية لتحقيق التجربة يجعلان الفتاة تشعر بالذنب والعار، مما يقود إلى الاكتئاب والمزيد من العزلة.”
إن تقييد الوصول إلى الإنترنت، أو الحرمان الكامل منه هو انتهاك صامت عميق الأثر، يتقاطع مع أشكال عديدة من العنف الذي تختبره النساء والفتيات تحت ظلّ الأبوية. ولا يتعلق الأمر بالمراقبة فقط، بل بتجريد النساء من حقهن في خوض التجارب، وعدم الاعتراف الكامل بأهليتهنّ وإنسانيتهنّ.
إنه بمثابة إخفاء رمزيّ لنساء وفتيات لا يمكننا -حتى الآن- معرفة أعدادهنّ، نساء وفتيات يكلّفهن تصفّح الإنترنت مغبّة التعنيف أو الاستغلال، بينما تطلق شركات الاتصالات نفسها، دعوات للاستيطان في المريخ.