
في مخاض السلام… وداعًا يا رحمي
لا أدري كم من الوقت انقضى على المرة التي شاهدت فيها على فيسبوك صورة قطة خضعت للتعقيم، كانت تناظر بعينيها المنطفئتين قطعة وردية صغيرة من اللحم ملقاة أمامها، كانت رحمها. لكنني أعي لماذا يستحضر عقلي هذا المشهد الآن بالتحديد.
فأنا أرى نظرتها على وجهي كلما حدّقت في المرآة، وأشعر بنوع من الحسد تجاه تلك “الأنثى” البائسة، إذ حظيَتْ بفرصة لم أحظَ بها، فرصة النظرة الأخيرة لوداع شيء أحس أنه صار اختصارًا لي بعد أن فقدته…
الوصاية الأبوية.. “الطبيب كان مصرًّا على استطلاع موافقة زوجي!”
كانت رحلة حملي الأخير مليئة بالقلق والدماء، كل الأطباء/الطبيبات الذين/اللواتي زرتهم/ن بذلوا/ن جهودًا مضاعفة للحفاظ على جنيني. أسبابٌ كنت أجهلها حينذاك، لكنّها تكشّفت لاحقًا، إذ كانوا/كنّ مدركين/ات جميعًا أنها ستكون المرة الأخيرة.
أخبروني أنني أمام مخاض حرج لا بد لي فيه من نقل عدة وحدات من الدم، لكنّ اصفرارٌ مذعورٌ علا وجهي حين صرّح الطبيب باحتمال استئصال الرحم ما لم تتم السيطرة على النزيف الولادي خلال دقائق. وفي المفاضلة بين خسارة حياتي وحياة طفلتي وبين خسارة رحمي اخترت خسارة الأخير بالتأكيد، لكن الطبيب كان مصرًّا على استطلاع موافقة زوجي!
“قدوم عيد الأم بعد يومين من عملية الاستئصال فجّر البركان ونزع عن روحي قناع القوة”.
لم يكن الوقت مناسبًا للنقاش حول عرف الوصاية الذكورية الأزلية على أجساد النساء، إلا أنّ سؤاله سبّب لي صدمة لا تقل عن تلك التي سببها إدراك حالتي.
View this post on Instagram
في غرفة العناية المركزة كانت سبعة أنابيب تدخل وتخرج من جسدي المنتفخ، عرفت لاحقًا مدى اقتراب الخطر أثناء الجراحة. وربما أن نشوة النجاة من الموت القريب، وفرحة الحصول على طفلةٍ جميلة هي من أخّرت مدّ مشاعر الفقد التي بدأت تجتاحني مع كل عبارة تعاطف أو نظرة مواساة أتلقاها. إلا أن قدوم عيد الأم بعد يومين من عملية الاستئصال فجّر البركان ونزع عن روحي قناع القوة، وتركني وحيدة وعارية في الحلبة أمام خسارتي.
إنه لأمر سورياليّ، غير قابل للشرح، أن تستقبل أم عيدها بدون رحم، وأن يحين عيد ميلادها الثالث والثلاثين بعد أسبوع دون أن ترن في أذنها واحدة من عبارات الشفقة الكثيرة التي قيلت بحقها “حرام، ضيعانها، بعدها صبيّة”…
“صار فيكي تلبسي بناطلين بيضا كل يوم” “ارتحتي من مصروف الفوط الصحية!”.
كنت أنوي الاكتفاء ببناتي الثلاثة بكل امتنان، ولم أكن لأفكر في الإنجاب مرة أخرى. كنت وزوجي نتناقش في وسيلة منع حمل مثالية بعد الولادة، لكن الأشياء تغدو أقسى حين تصبح مفروضة.
منصات التواصل الاجتماعي وبعد أن تنصتت على حديثي المكرر صارت تعرض لي حملات لنساء لا إنجابيات اخترن طواعية استئصال الرحم. كانت صورهن الغرافيكية وهن يقذفن أرحامهن باسمات -كما تقذف اللاعبات كرة اليد- عاجزة عن مواساتي. كما عجزت عبارات صديقاتي “صار فيكي تلبسي بناطلين بيضا كل يوم” “ارتحتي من مصروف الكوتكس كل شهر”.
بين الفقد والتقبّل
حاولت جاهدة إظهار تقبّلي للأمر، كنت أريد أن أمحي علامات القلق والحزن التي ملأت وجوه أحبتي، وطفت بحنوٍّ على وجوه نساء لا أعرفهنّ عندما سمعن قصتي.
لا أنكر أيضًا أنني في الساعات الأولى من عودتي للحياة نهرت كل من أتاني باكيًا. لقد حاولت أن أقدّم لهن/م صورة المرأة القوية الواثقة التي لا يهزها شيء، المرأة الأعتى من أن ينقص فقدان أي جزء شيئًا من قوّتها. سألت الطبيب أمامهم/ن ممازحة “هل لا زلت أستطيع افتعال المشكلات مع زوجي والتذرّع بالهرمونات؟”. فرد بالإيجاب ضاحكًا، وشرح كيف أن الاستئصال لم يطل الملحقات المعنية بالإفراز الهرموني.
“ليتني استطعت أخذ بعضي المستأصل، لأدفنه!”
لكنني الآن هنا، على سريري في منزلي وبين أفراد عائلتي الذين/ اللواتي يغمرونني/ يغمرنني بالدعم والحب، وإلى جانبي طفلة انتظرتها طويلًا أحتار كيف أداري دموعي، وأجد نفسي بعد أن يناموا جميعًا أتلمس بطني بحسرة، أدلّكها كأنني أبحث عن شيء أعرف أنني لن أجده، فيملؤني شعورٌ بالفراغ. وأشعر بيدي تنفذ عبر اللاشيء إلى الجهة الأخرى، أحسّ بأنني جوفاء تمامًا، فأشتهي أن أصعد إلى أعلى قمة في العالم لأعوي مثل وحش، عواءً طويلًا وغير منتهٍ، مغلفًا بالأنين والألم، أو أن أنفذ كجنية ملعونة إلى أعمق حفرة في باطن الأرض، لأضم ركبتي إلى صدري وأرتجف حتى يحنّ عليّ قلبها الأصم.
أؤمن أن الحياة سلسلة من المراحل، وها أنا على مشارف مرحلة جديدة. مرحلة لا أستطيع أن أكون فيها “الخصبة الولود”، لكنني أحاول أن أحجب بغربال العقل شمس العاطفة، فأتخيل أنني أودّع شاكرة قطعتي الوردية، بامتنان يخفي الفاجعة التي تسكنني.
أتخيل أنني أربّت على جدرانها الملساء، أقبّلها، تلك التي أتمت مهمتها بأمانة فكانت بوابة لعبور بناتي الثلاثة إلى الحياة. لكن العتمة تجرني إلى دوامتها، تخبرني أنني لن أعود كما كنت أبدًا، وتستحضر لي سيناريوهات سوداء عن مصير هذا الجزء الذي غدا فجأة أثمن شيء فيّ!
ترى ماذا فعلوا به؟ هل رموه في القمامة؟ هل نامت قطط المدينة شبعانة في تلك الليلة؟ ليتني استطعت أخذ بعضي المستأصل، لأدفنه…
يا لسخافة ألمي.. أمام فقد الأمهات في الساحل!
لم يقل لي أحد ذلك، أنا من قلت هذا لنفسي في كل مرة تطالعني صور مقاطع فيديو المجازر التي حدثت في الساحل السوري. هذا الساحل الجميل، الذي أسكن وعائلتي واحدةً من قراه، وحالت الأقدار فقط من أن نكون أرقامًا بين ضحايا.
“نذرت لأجل هذه البلاد أن أسمي طفلتي “سلام”، عسى أن تنجح في استحضار السلام إلى جغرافيتنا المفتونة بالقتل والحروب”.
أتذكر صوت الرصاص ومدافع الـ23 التي كانت تصدح في ليالي حملي الأخيرة، أتذكر الرعب الذي عشته وعاشته ابنتاي المحمومتان ليلة نزح الجيران إلى الأحراج، بينما لم نكن نملك طاقة للهروب. أتذكر الموت الذي انتظرناه في سريرنا، والقلق الذي استوطنني من أن يأتيني المخاض في الليل، فأخاطر بحياة زوجي حين يسعفني إلى المشفى الوحيد المجهز لاستقبال حالتي والذي يبعد عن منزلي أكثر من أربعين كيلو مترًا.
أفكّر في كل هذا، بالعائلات التي أبيدت عن بكرة أبيها، بالأمهات اللاتي فقدن أزواجهنّ وفلذات أكبادهن وبيوتهنّ أمام عيونهن، فأشعر بتفاهة حزني وصغره. لقد نلت نصيبًا وافرًا من الألم، لكنه يغدو سرابًا إذا ما وضعته أمام آلامهن، فأشعر أنني أفقد شرعيتي في الشكوى…
بلادي التي تشبهني وأشبهها
لقد تزامنت رحلة حملي المتوترة مع توترات في البلاد، كانت سوريا هي الأخرى تجهض نظامًا وتشهد مخاض نظام آخر.
لمست الشبه بيننا مرة أخرى حين أشار لي الطبيب بضرورة تأمين متبرعين بالدم، لأن بنك الدم فارغ، نُقلت جميع محتوياته إلى من خرج حيًّا من مجازر الساحل.
السوريّ استنزف دم السوريّ، تمامًا كما استنزف جسدي دمي، كنت كما البلاد مرة أخرى: القاتل والمقتول. نذرت لأجل هذه البلاد أن أسمي طفلتي “سلام”، عسى أن تنجح في استحضار السلام إلى جغرافيتنا المفتونة بالقتل والحروب. ولقد نجوت ونجحت في إنجاب سلامي، واليوم آمل أن تنجو البلاد هي الأخرى وتنجب سلامها ولو كلفها الأمر أن تصير عقيمة أيضًا، فقدر السلام أن يكون مخاضه عسيرًا وثمنه باهظًا دومًا.