نساء الصفيح: البدونيات في الكويت بين العزلة القانونية والعنف البنيوي

“أن تكون/ي عديم/ة الجنسية لهو أحد أسوأ المآلات السياسية التي قد ينتهي إليها وضع أي شخص في العالم الحديث”.
– جوديث شكلار

عديم/ة الجنسية، أو “البدون” كما يُطلق عليه في الخليج، هو “أي شخص لا يُعتبر مواطنًا في أي دولة بموجب قانونها النافذ”، بحسب تعريف الجمعية العامة للأمم المتحدة. ويعني ذلك أن هذا الشخص يفتقر إلى الانتماء القانوني الأساسي الذي يعرّف العضوية الرسمية في أي من دول العالم الـ195 المعترف بها.

ورغم أن انعدام الجنسية ظل يُعامل طويلاً كمسألة هامشية، إلا أنه بات يحظى باهتمام متزايد في السنوات الأخيرة، سواء في الأوساط القانونية والسياسية، أو في المنظمات الإنسانية. وغالبًا ما يكون الأشخاص عديمو/ات الجنسية من ضحايا اللجوء فير القانوني أو الكوارث والحروب والمجاعات.

أما في الخليج العربي، وتحديدًا في الكويت، فإن قضية عديمي/ات الجنسية تأخذ طابعًا مختلفًا. فهي تُعد نتاجًا لبُنى سياسية وتمييزية واقتصادية متجذّرة، ما يمنحها خصوصية لا تشبه غيرها من قضايا انعدام الجنسية في العالم. ولأن النساء هنّ دائمًا من بين أكثر الفئات تضرّرًا وتعرّضًا للانتهاكات، خصوصًا في أوقات الأزمات، فإنّ البدونيات يتحّملن النصيب الأكبر من المعاناة. إذ جرى التعامل مع أوضاعهن، خصوصًا من ينتمين إلى أوساط قبلية، بوصفها شأنًا شخصيًا، في حين أنهن في الواقع أكثر الفئات تهميشًا ومحاصرة من قِبل كل من الدولة والعائلة. ويتجلّى ذلك في أشكال متعددة من الحرمان والانتهاك: سياسيًا، قانونيًا، اقتصاديًا، نفسيًا، اجتماعيًا وصحيًا.

في هذا المقال، لا أدّعي التحدث باسم البدونيات الكويتيات، بل أتيح لهن المجال لسرد معاناتهن بأصواتهن وكلماتهن الخاصة، في محاولة لتقديم وقفة جادة أمام قضية نسوية جوهرية، تواجه التعتيم والقمع وامتهان الكرامة.

النساء البدونيات

إذا كانت النساء يعانين بشكلٍ متجذّر من الأنظمة الذكورية والسلطة الأبوية وهيمنتها، فإن نساء البدون يعانين أضعاف ذلك. تُهمّشهن الدولة وتبتزّهن أجهزتها حتى في أبسط حقوقهنّ الإنسانية، ويحتقرهنّ المجتمع ويعاملن بنظرة استعلائية لا تخلو من عنصريةٍ وكراهيةٍ معلنة، وكأن حقّ العيش رفاهية لا يستحقنها. لا يُعترف بأوجاعهن، وتُهمّش أوضاعهن، ونادرًا ما يُنظر إليهنّ كحالة مستقلة عن الرجال البدون، فحتى في معاناتهنّ يُعاملن كتابعات.

أما الوسط النسوي الكويتي، المنحصر في طبقة اجتماعية معيّنة، فلا يعبأ بوجودهنّ بل يتعمّد تجاهلهن وتجاهل قضيتهن، كما يفعل مع قضايا الفئات المهمّشة الأخرى. ما دفع بكثير من نسويات البدون، في السنوات القليلة الماضية، إلى كسر تلك الكرة الزجاجية؛ فاستخدمن مواقع التواصل الاجتماعي لإيصال أصواتهن بصورةٍ منفصلة عن رجال البدون.

لقد تصادمن – وما زلن – مع ساكني فقاعات الامتيازات، في محاولة لمواجهة آليات النفي والتجاهل التي تُمارس بحقهن.

أن تكوني امرأة بدونية، يعني أن تولدي معدمة، مدقعة، مسلوبة الخيارات، ويُفرض عليك مسار حياة ترسمه الدولة قبل العائلة. خيارك الوحيد هو أن ترضي به. عليك أن ترضي بفقرٍ يُساوِم على حقوقك، بالمفاضلة بين تعليمك وتعليم أخيك، بزواج لن يُوثّق، بحزنٍ دائم وخوفٍ على أطفالك. كثير من الرضى… وكثير من الظلم.

تقول إحدى السيدات اللواتي تمت مقابلتهن: “ترعبني حقيقة أن يمضي عمري دون أن أحقق شيئًا من أحلامي البسيطة، مثل الدراسة في الجامعة أو العمل والاعتماد على نفسي. أحلام بسيطة، لكنها مستحيلة بسبب أنني بدون. أخاف أن يضيع عمري وأنا أركض خلف الجنسية، وهو الطريق الوحيد.”

وتروي فتاة في مقتبل عمرها كيف أن كونها فتاة بدون “هو أمرٌ بحد ذاته باعث للاكتئاب. وبما أن العلاج النفسي رفاهية غير متاحة، كانت لي محاولة فاشلة بالانتحار، أدت إلى تبعات زادت من اكتئابي. أهلي ضربوني وهددوني. هذه ضريبة أن أولد بدون، حتى الانتحار بالنسبة لي رفاهية”.

وتعرب ثالثةٌ، لم تتجاوز العشرين، عن خوفها من أن تبقى بدون: “أخاف ألا أستطيع إعالة نفسي أو تحقيق طموحاتي أو إكمال دراستي. أخاف أن أُجبر على الزواج من شخص سيء، وأُجبر على الحياة معه. أخاف أن أصبح أمًا، ويكون أطفالي ’بدون’. تخيّلي، أنا أخاف أن أعيش الحياة… لأني بدون.”

بينما تشرح فتاة بدون قبلية عن معاناتها المضاعفة: “أسوأ من كوني بدون، هو أنني بدون وبدوية، أنتمي لعائلة ذكورية حرمتني من المشاركة في الحياة. أبي ذكوري ينظر إليّ كعورة، ويهددني دائمًا بالضرب إن ناقشته على أبسط حقوقي، مثل مجرّد الخروج لـ’أشم هوا’. أعيش في سجن مع أمي الذكورية التي تضرني وتحرمني من كثير من الأمور، ومع إخوة يضربونني ويعاملونني كـ’عارٍ’ محتمل. كل شيء ممنوع في هذا البيت الذي يشبه السجن أكثر من كونه منزلًا”.

أزمة تعليم فتيات البدون

تعيش نساء البدون تحت وطأة صراعات وصعوبات تبدأ منذ لحظة ولادتهن، حين يُحرمن من الحصول على شهادة ميلاد، ثم البطاقة المدنية عند محاولة التسجيل في المدرسة – وهي وثائق غالبًا ما لا يمتلكنها، أو تكون غير قابلة للتجديد. أما من يُسمَح لهنّ بالوصول إلى التعليم، فغالبًا ما يُجبرن على تركه مبكرًا، إما بسبب تعسّف الجهاز المركزي، أو بسبب التمييز الجندري والجنسي السائد في معظم عائلات البدون.

هذا الواقع يرتبط بطبيعة الحال بذهنية رجعية متجذّرة لدى العديد من الآباء والأمهات البدون، الذين حُرموا/ن بدورهم/ن من التعليم نتيجة دورة الظلم المؤسسي الممتدة، والتي عمّدت إلى تجهيل أجيال بأكملها.

تجدر الإشارة إلى أنه، بعد الغزو العراقي، أُلغيت مجانية التعليم عن البدون، ومُنع العديد من الآباء من العمل في الشرطة والجيش، ما أدى إلى تفقير شريحة واسعة من العائلات. أما من تمتلكن بطاقة سارية أو سُمح لهن بإكمال تعليمهن، فيواجهن أعباء رسوم المدارس الأهلية المتزايدة، التي تدفع بعض الأسر إلى المفاضلة بين تعليم الابن أو الابنة، فتُفضَّل دراسة الابن، وتُخرَج الابنة قسرًا من المدرسة بعد المراحل الأولى.

وحتى اللواتي تخرّجن وحققن مراكز متقدّمة على مستوى الكويت، غالبًا ما تتوقف مسيرتهن التعليمية عند هذا الحد، إذ يمنعهن الجهاز المركزي من الالتحاق بالجامعة، نتيجة التضييق على أسرهن في مسألة تجديد البطاقات، وإجبار بعض الآباء على توقيع أوراق تُهدر حقوقهم وحقوق أسرهم.

أما من تُكملن تعليمهن الجامعي، فيندرجن تحت فئات متعددة؛ بعضهن انتظرن فرصة قبول في إحدى الجهات التعليمية الحكومية بفضل كون والدهن عسكريًا، وهي فرصة باتت نادرة الحدوث، وأخريات قُبلن ضمن استثناءات يقرها وزير التربية والتعليم، وغالبًا ما تُشارك فيها الشابات مع الشبّان البدون.

في معظم الحالات، تُجبَر الطالبات على اختيار تخصص لا يمثّل رغبتهن الحقيقية، إما بإملاء من الأب أو الأخ أو أحد الرجال “أولياء أمورهن”، حيث يُفرض عليهن التخصص وفق منطق السلطة الأسرية لا وفق ميولهن. كثيرًا ما تُقبل البدونيات في تخصصات لا تلقى إقبالًا واسعًا من الكويتيات، مثل التمريض، نظرًا لشروط القبول ومحدودية الخيارات المتاحة لهن. وهناك من يُكملن تعليمهن في الجامعات الخاصة على نفقة أسرهن، رغم الأعباء المالية الباهظة التي تتجاوز قدرة معظم العائلات، ما يدفعهن إلى إطلاق مناشدات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتسديد الرسوم الدراسية.

أما البدونيات اللواتي تخصصن في مجال الطب، فهن قلة تم ابتعاثهن على حساب ذويهن. وغالبًا ما يُفضّل الآباء ابتعاث الأبناء، على اعتبار أنهم الأقدر على إعالة الأسرة مستقبلًا.

بشكلٍ عام، لا تحظى الطالبات البدون بأي نوع من الإعانة أو الدعم، ما يجبرهن على تحمل نفقات الكتب والمستلزمات الدراسية والمواصلات. وتزداد معاناتهن مقارنةً بالطلاب الشبان، إذ يُسمح للأخيرين بالعمل إلى جانب الدراسة، بينما تُمنع معظم الفتيات من ذلك بحكم العادات والتقاليد، فتُحرمن من مصدر دخل، ويُجبرن على اللجوء إلى المناشدات العلنية، رغم ما فيها من مساس بكرامتهن. والمفارقة أن تفوقهن الأكاديمي في تخصصاتهن لم يشفع لهن أمام مجلس جامعة الكويت، الذي رفض مقترحات الإعانة بحجة عدم قدرة الميزانية على تحمّل التكاليف.

البدونيات و“رفاهية الوظيفة“

إن شغل وظيفةٍ من أجل كسب دخل منتظم يُعدّ حقًا مدنيًا أصيلًا، إلا أن هذا الحق لا ينطبق للأسف على نساء البدون في الكويت. فبعضهن يُحرمن من العمل بسبب القيود التي يفرضها عليهن أهلهن بدوافع ذكورية، وهو ما يشتركن فيه مع كثير من الكويتيات القبليات. أما القسم الآخر، فلا يُتاح لهن العمل إلا في وظائف محدودة، وبرواتب متدنية لا تتجاوز غالبًا 100 دينار، وفي أفضل الحالات 200 دينار، ما يجعلهن عرضة لاستغلال أصحاب العمل الذين يدركون حجم العراقيل التي تواجههن.

أما الطبيبات والممرضات من البدون، فرغم كفاءتهن، لا تتعدى رواتبهن 200 إلى 400 دينار، مقارنة بزميلاتهن الكويتيات أو المقيمات. ويواجهن تعسفًا واضحًا من قبل الجهاز المركزي بالتعاون مع وزارة الصحة في تأخير أو تقييد صرف رواتبهن. وكذلك المعلمات البدون، يتقاضين رواتب لا تتجاوز 300 دينار، في حين تحصل المعلمة الكويتية على نحو 1000 دينار، والمقيمة على نحو 700 دينار، فضلًا عن الفروق في الحقوق والمعاملة.

فالمعلمة البدون لا تتمتع بحقوق زميلاتها من الإجازات؛ إذ تُحرم من إجازة الأمومة، والإجازة الدورية، وحتى إجازة الحج، كونها موظفة “بعقد”، ما يضطرها أحيانًا إلى أخذ إجازة بنصف راتب، أو يتحتم عليها العودة للعمل مباشرة بعد الولادة إذا لم تتمكن من الحصول على موافقة للإجازة. وغالبًا ما تُرفض طلبات الإجازة بشكلٍ تعسفي، كما أن رواتبهن تنقطع خلال عطلة الصيف، نظرًا لتوقف العمل وعدم وجود حماية تعاقدية عادلة.

إن هذا الواقع يفرض مسؤولية أخلاقية وقانونية على المنظمات النسوية والحقوقية في الكويت لتسليط الضوء على هذه الانتهاكات والمطالبة بإنصاف النساء البدون، باعتبار أن إنصافهن أولوية لا تحتمل التأجيل.

فرغم تدني الرواتب وسوء ظروف العمل، فإن كثيرًا من النساء البدون يضطررن للتمسك بوظائفهن كوسيلة وحيدة لتأمين قوت يومهن. بعضهن يضطررن إلى التغاضي عن التحرشات أو الانتهاكات في بيئة العمل، خوفًا من فقدان مصدر دخلهن الوحيد. وكون غالبيهن من الخلفيات القبلية، ويرتدين النقاب والعباءة، كما هو شائع بين النساء الكويتيات، فإن ذلك كثيرًا ما يُستخدم ضدهن أثناء التقديم على الوظائف، فيكون مظهرهن سببًا في استبعادهن من وظائف معينة، لا سيما في السكرتارية أو الأعمال المكتبية أو الترويجية.

هذا الزي، الذي غالبًا ما يُفرض عليهن من أسرهن أو محيطهن الثقافي، يتحوّل إلى نقطة ضعف في نظر جهات العمل، فتصبحن في مرمى التمييز من الجانبين: مجتمع محافظ يفرض عليهن قيودًا لا فكاك منها، ومنظومة عمل تنظر إليهن بدونية بسبب تلك القيود.

إنهن ضحايا مجتمعٍ رجعيٍ يرفض التفاوض على ما يعتبره ثوابت، ومنظومةٍ وظيفيةٍ تمارس عليهن أقسى أشكال التمييز، لا بسبب مؤهلاتهن، بل بسبب هوياتهن المفروضة عليهن.

الهجرة غربة أم وطن مؤقت

تقول كلير بوغراند: “يحتل البدون فجوات الطبقات المتعددة والمركّبة للمجتمع الكويتي بوصفهم/ن مجموعة أشباح، فهم غير مرئيين/ا في القوائم الرسمية للدول، غير مرئيّين/ات لدى الجميع في الكويت عدا المطلّعين/ات”. وبما أن البدون يعانون من “العنف الإداري” الممنهج، يضطر بعضهم/ن إلى الهجرة بحثًا عن حياة أكثر أمانًا واستقرارًا لهم/ن ولأطفالهم/ن، تاركين/ات خلفهم/ن مشاعر الحنين والحزن والاقتلاع.

ورغم كثرة الحديث عن هجرة البدون، نادرًا ما نسمع عن التفاصيل الدقيقة لتلك الهجرات، ولا سيما حين تكون المرأة البدون هي من تخوض هذه التجربة، بما تحمله من صعوبات مضاعفة وتعقيدات خاصة.

تندرج نساء البدون المهاجرات تحت ثلاث فئات رئيسية: من هاجرن مع أسرهن أثناء أو بعد الغزو؛ من انتقلن إلى الخارج مع أزواجهن تحت بند “التحاق بعائل”؛ ومن هاجرن بمفردهن ضمن برامج الابتعاث الدراسي.

الفئتين الأولتين، أي من هاجرن ضمن أسرهن أو مع أزواجهن، يعانين من العزلة، والعنصرية، وصعوبة التأقلم مع بيئة جديدة لا تشبههن، وبعض المتزوجات منهن يواجهن العنف والاضطهاد بصمت، دون وعيٍ بحقوقهن القانونية هناك. بعضهن ما زلن يتمنين العودة إلى الكويت لأجل البقاء مع الأهل، بل إن بعضهن عدن فعلًا بعد حصولهن على جنسية أجنبية، ويقمن بتجديد إقامتهن سنويًا.

لكن المفارقة المؤلمة أن هؤلاء النساء، رغم امتلاكهن جنسية أجنبية، ما زلن يعاملن كـ”بدون” عند التقديم لوظائف حكومية أو خاصة، إذ تُنبذ جنسياتهن لصالح نظرة تمييزية تتركز على أسمائهن، في مخالفةٍ صريحة للقانون، لكنها تمرّ لأن الكلمة الأخيرة تبقى بيد من يملك السلطة.

أما الفئة الثالثة، أي من هاجرن بمفردهن ضمن برامج الابتعاث، فغالبًا ما يكنّ قد غادرن لفرصة قد لا تتكرر، أو هربًا من واقعٍ مسدود الأفق. وفي كلتا الحالتين، يواجهن ضغوطًا شديدة: من جهة، الغربة والانتظار الطويل لاستحقاق الجنسية، ومن جهة أخرى، مطالبات الأسرة بالعودة إلى الكويت، ولو على حساب مستقبلهن، بدافع من قناعةٍ سائدة مفادها أن “هجرة المرأة ليست كهجرة الرجل القادر على إعالة الأسرة”، متجاهلين واقع القوانين الغربية التي تكفل المساواة.

المرأة البدون المهاجرة، حتى حين تحظى بفرصة تفتقدها معظم نظيراتها، لا تُعفى من المعاناة، ولا تنجو من التمييز؛ فالغربة لا تمحو الظلم، والوطن يحرمها أبسط الحقوق.

عزلة أبدية

بحكم أن الغالبية العظمى من نساء البدون ينتمين إلى أسر قبلية منغلقة وذكورية بطبيعتها، ولأن القمع في المجتمعات الأبوية التقليدية يتخذ شكلًا هرميًا يبدأ من الأعلى نزولًا إلى القاع، فإن كثيرًا من المقموعين يلجؤون بدورهم إلى اضطهاد من هم دونهم. ومجتمع البدون ليس بمنأى عن هذه الدينامية؛ إذ يمارس الرجل البدون القمع على المرأة البدون كآلية للتنفيس عن غضبه أو لتعويض حرمانه، ففتات الحقوق الذي لا تسلبه الدولة منها، يُسلب في الغالب من قبل أسرتها.

أغلب هؤلاء النساء لا يُسمح لهن بالعمل، ولا بقيادة السيارة، ولا حتى بالعمل من المنزل. بل ويتعدى الأمر ذلك إلى تغييبٍ تامٍ لهن عند طرح قضيّة البدون سياسيًّا واجتماعيًّا، إذ يُعتبر ذلك شأنًا “رجاليًا” في الثقافة السائدة. إن تغييب المرأة البدون عن الساحة والحياة العامة هو نتاج تواطؤ مشترك بين المجتمع البدوني والدولة على حدّ سواء.

غالبًا ما تنتهي حياة البدونيات الاجتماعية والصداقات القليلة التي قد كوّنّها مع انتهاء فترة الدراسة. فلا يُسمح لهن بزيارة صديقاتهن أو الخروج معهن، بل وفي حالات كثيرة يُمنعن من مجرد التواصل عبر الهاتف.

تقول إحداهن: “تخيّلي عندما تخرجت من الجامعة، لم يُسمح لي بالتواصل مع صديقاتي – وهنّ أيضًا من البدون. كان والدي ووالدتي يراقبان هاتفي ويفتشان محادثاتي، فتوقفت عن مراسلتهن، وكذلك هنّ، أعتقد لنفس السبب”.

أما من تحاول تكوين صداقات خارج إطار الأقارب والمعارف، فتُواجَه بالعنصرية والتمييز في بيئتي الدراسة والعمل، ما يكرّس عزلتها النفسية والاجتماعية. تعاني غالبية هؤلاء النساء – إن لم يكن جميعهن – من أعراض الاكتئاب، ويحتجن إلى دعم نفسي ملحّ، لكنه يبدو بلا جدوى في ظل ظروفهن القاسية. بعضهن لا يجدن مخرجًا إلا بالموت، فيلجأن إلى الانتحار كخيار أخير للهروب من بؤرة التعاسة التي وُلدن فيها ولم يُسمح لهن بمغادرتها.

الزواج طوق نجاة أم حبل إعدام

بما أن المرأة البدون مسلوبة الخيارات منذ لحظة ولادتها، فمن البديهي أن يُسلب منها أيضًا حق الاختيار في الزواج. فالزواج، وإن بدا الطريق “الوحيد” المتاح لها، إلا أنه غالبًا ما يكون الأسوأ. فحياتها بعد الزواج لا تختلف كثيرًا عمّا كانت عليه قبله، سوى بزيادة وتيرة القمع والظلم. ما كانت تشهده على والدتها وأخواتها، تعيشه اليوم على نفسها وأطفالها.

ورغم أن الزواج يُعد النهاية الحتمية لمسارها الاجتماعي، إلا أن تحقيقه ليس سهلاً كما يبدو، إذ يُعرقل كثيرًا بسبب انتهاء صلاحية البطاقة المدنية، وعدم القدرة على تجديدها – نتيجة تعمّد الجهاز المركزي اللعب في ملفات العديد من أسر البدون كوسيلة للتضييق والضغط.

أما في حالات الحمل والولادة، فتُجبر المرأة البدون على التوجه إلى المخفر لإبراز عقد الزواج، أو إلى المحكمة لإثبات نسب طفلها. وهي إجراءات غالبًا ما تُفرض على من مارس الجنس خارج إطار الزواج، لا على من دخلت علاقة موثقة. لكن البدونيات يُعاملن في هذه اللحظات الحساسة وكأنهن “مذنبات”. تُطرح عليهن أسئلة تمس كرامتهن، وتُمارس بحقهن أشكال من الإهانة لا تُحتمل. بل وقد يتم استدعاء الأطفال/الطفلات أحيانًا لاستجوابهم/ن عن والديهم/ن، وإن كن/كانوا يعشن/يعيشيون في بيتٍ واحد، في مشهد يجمع بين التعسف والعبث القانوني.

والجدير بالذكر أن كثيرًا من نساء البدون يُعتبرن ضحايا للعنف، سواء كنّ متزوجات من رجال بدون أو من كويتيين. ولصعوبة الحياة وتعقيدات إجراءات الطلاق، تُجبر كثيرات منهن على القبول بوضعهن حفاظًا على أطفالهن، وأحيانًا خوفًا من العودة إلى منازل أسرهن، التي غالبًا ما تكون شققًا صغيرة أو بيوتًا ضيقة من الصفيح. هذا السكوت القسري على العنف كانت له نتائج مأساوية، كان آخرها جريمة قتل مروعة راحت ضحيتها امرأة من البدون، قتلت على يد زوجها الكويتي في البر ثم تم دهسها.

هذا فضلًا عن المغيّبات ومعتقلات المنازل من نساء البدون، اللواتي لم تُكلّف أي من المنظمات النسوية الكويتية نفسها عناء السؤال عن مصيرهن أو أوضاعهن، وكأن صوتهن غير مسموع، ووجودهن غير مُعترف به.

في النهاية، قضية المرأة البدون ليست شائكة كما يدّعي البعض، بل واضحة المعالم، وأطراف الظلم فيها معروفة. لكن التكاسل والتجاهل الذي تمارسه المنظمات الحقوقية المحلية إزاء معاناتهن أمر مخزٍ، كما أن المجتمع يلعب دورًا كبيرًا في تهميشهن، وتجنبهن، وإلصاق صفات بهن لا تنطبق عليهن.

يمارس المجتمع أشكالًا من المحاسبة واللوم على خيارات فُرضت عليهن قسرًا كوسيلة للبقاء، في حين أن الطريق أمام المرأة البدون مسدود من جميع الاتجاهات. إنها تواجه حياة تتكالب ضدها بكل تفاصيلها: لا مجتمع ينصرها، لا دولة تنصفها، ولا منظمة تطالب بحقوقها. إنها المنسية في دائرة الظلم، وضحيته في آنٍ واحد.

كتابة: شهد الجميلي

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد