حين تُسلّم الدولة الأطفال للقتلة: جرائم مروّعة في العراق تُرتكب باسم التأديب ويباركها القانون

في العراق.. سيناريو العنف الأسري بحق الأطفال/ الطفلات مستمر

ضجت مواقع التواصل الاجتماعي العراقية بمقاطع فيديو لقاصرة تُدعى زهراء، تبلغ من العمر 16 عامًا، وهي تتحدث عن تفاصيل مقتل والدتها وشقيقتها على يد زوجة والدها.

في المقطع الذي نشرته صفحة وزارة الداخلية العراقية، ظهرت الفتاة المكلومة وعلى وجهها معاني الحزن والتعب، مطالبةً القضاء العراقي بإعدامه المجرمَين.

مقتل معصومة (15 عامًا) ووالدتها.. “إنت مو أب لماذا قتلتهما؟ لن أسامحك”

ونشرت الصفحة مقاطع فيديو تتضمن لقاء بين زهراء والأب وزوجته، وهي تعاتبهما بشدة في موقع مسرح الجريمة الذي قُتلت فيه شقيقتها معصومة، وهي تقول: “إنت مو أب لماذا قتلتهما؟ لن أسامحك.”

وتتوجه إلى زوجه والدها: “لماذا قتلتِ شقيقتي، كان من الممكن أن تتصلي بي، وأنا أحضر لاحتضانها”.


بعد التحقيق من قبل القوات الأمنية، تبيّن أن الطفلة الضحية معصومة هي من مواليد 2020. وأُثبت أن القاتلين هما الأب وزوجته، وأنّ الضحية سبق أن تعرضت لتعنيفٍ شديدٍ رسمت على جسدها كدمات التعنيف وآثار اسنان وقرص.ز

الجريمة وقعت في حي العامل بتاريخ 10 نيسان/ أبريل من العام الجاري، ونُشرت تفاصيل التحقيقات خلال اليومين الماضيين. ولكنّ الخبر الصادم ان والدة معصومة سبق أن قُتلت على يد الأب القاتل عام 2022، وكان لا يزال حرًّا طليقًا!

شقيقة معصومة: “قُتلت والدتي قبل 3 سنوات وكسب والدي حضانة شقيقتي، ليقتلها اليوم!”

تروي زهراء تفاصيل جريمة مقتل والدتها قبل 3 أعوام.

تقول: “كنت عائدة من المدرسة في عام 2022، حين تلقّيت أنباء خبر وفاة والدتي في الشارع، وساقني حينها خالي الى المستشفى”. متابعةً: “كانت الصدمة حسن وجدت والدتي في الثلاجة، وأثر طلقٍ ناريٍّ في رأسها”.

تضيف: “منذ البداية، كنت متأكدة أن أبي وزوجته مسؤولان عن مقتل والدتي. والسبب أنني على اطلاع على حياة والدتي اليومية، فهي جليسة المنزل لا تعرف أحد فمن يدخل ويقتلها؟”.

أُخلي سبيل والد زهراء وزوجته بعد ثمانية أشهر من الجريمة، وانتقلت زهراء للعيش مع عائلة جدها من طرف الأم، فيما كسب الأب حضانة شقيقتها معصومة!

عاشت الطفلة معصومة حياة قاسية مملوءة بالتعنيف، وفي النهاية، فضّل معنّفها -الوالد- قتلها على أن يسلمها لشقيقتها زهراء.

حاولت زهراء أن تحصل على حضانة شقيقتها بشتى الطرق إلا أن جميع المحاولات باءت بالفشل.

تضيف :”قبل مقتلها كنت أتوسّل مرات عدة أن يرسل لي صورًا لمعصومة من أجل الاطمئنان على صحتها، إلا أن والدي كان يماطل ويتحجج بعذر أن معصومة نائمة أو أنه خارج المنزل”.

عاشت الطفلة معصومة حياة قاسية مملوءة بالتعنيف، وفي النهاية، فضّل معنّفها -الوالد- قتلها على أن يسلمها لشقيقتها زهراء.

وبحسب اعترافات الأب، فإن معصومة كانت محبوسة في غرفة بمفردها في الطابق العلوي، ويتم ربطها بملابسها الداخلية (الكولون)، وفي اليوم الواحد يتم منحها وجبة غذائية واحدة، إلى أن ساءت حالتها الصحية وفارقت الحياة بسب التعنيف وسوء التغذية.

الأب المجرم كان يعنّف معصومة كلّما نشب خلاف مع زوجته ليشتري رضا الأخيرة، إذ يتذرّع في اعترافاته أثناء التحقيق بذلك قائلًا: “كنت أضرب معصومة من أجل إرضاء زوجتي”.

تختتم زهراء حديثها وقد تسلّقها التوتر وأخذت شفتها ترف، لتقول باللهجة العراقية: “الجميع يشعر بالحزن ولكن لا أحد يشعر بما في داخلي. عائلتي تشتت وفقدت والدتي وشقيقتي ولا أعرف مصير أخوتي”.

يُقتل الأطفال في بغداد باسم التأديب: نرجس، موسى، ومن بعدهما؟

معصومة، ليست الأولى، وللأسف لا تشير الوقائع إلى أنها ستكون الخيرة. وما يستدعي الغضب والقهر في آنٍ معًا، أن سيناريو معصومة نفسه يتكرّر، في ظلّ منظومة عنفٍ ممأسسٍ قانونيًّا ومباركٍ عرفيًّا.

فخلال الأسابيع لأخيرة، هزّت حادثة مقتل طفلة تُدعى نرجس (10 أعوام) على يد والدها أركان منطقة الكفاح في العاصمة بغداد، والعراق بأكمله، بعد أن عُنّفت حتى الموت، على يد والدها وزوجته أيضًا!

“كانت نرجس ترغب في بالعيش معي، لذا كان يعنفها. لم يسمح لي برؤيتها. لم أكفّ عن المطالبة بها، إلى أن أخفى الطفلة وغيّر مكان إقامته، وأنهى مشوارها الدراسي لغرض قطع زيارتي لها.. ثم قتلها”.

بحسب والدة نرجس، فقد تلقّت اتصالًا من المستشفى يُبلغها بمرض ابنتها، لكنها فوجئت بجثة هامدة عليها آثار تعذيب وحشي.

تقول الأم المفجوعة: “وجدت ابنتي جثة هامدة، وعلى جسدها آثار تعذيب بصورة وحشية، لو اطّلع أي أحدٍ عليها لفرً خوفًا من رهبة المشهد”.

وأضافت أن نرجس توفيت عطشى وجائعة، إذ كان والدها يسقيها رشفات ماء فقط، واحتجزها في غرفة معزولة لأربعة أشهر، مُمارسًا بحقها مختلف أشكال العنف، باستخدام أسلاك كهربائية، بمشاركة زوجته.

تتهم الأم الأب وزوجته بالمسؤولية، وتوضح أن “سبب التعنيف كان رغبة نرجس في العودة للعيش معها”.

وتضيف: “لم يسمح لي طليقي برؤيتها. لم أكفّ عن المطالبة بها، إلى أن أخفى الطفلة وغيّر مكان إقامته، وأنهى مشوارها الدراسي لغرض قطع زيارتي لها”.

وحتى لحظة إعداد هذا التقرير، تعيش الأم في صدمةٍ عصبيةٍ، تدفعها إلى الفرار بشكلٍ متكرّرٍ إلى أماكن مجهول. بينما يضطر الجيران، اللواتي/ الذين تأثرن/وا بشدة جرّاء الفاجعة، للبحث عنها باستمرار. في حين أن دور الدولة والجهات المعنية بحماية النساء غائبٌ تمامًا.

ارتفاع معدلات قتل الأطفال/ الطفلات.. ما علاقة تعديل المادة 57 من قانون الأحوال الشخصية؟

كشف “المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق” أن حالات العنف ضد الأطفال/الطفلات شهدت ارتفاعًا كبيرًا خلال عامي 2024–2025، حيث سجلت وزارة الداخلية 14 ألف دعوى عنف أسري، معظمها تتعلق بالعنف الجسدي.

ووفق المركز، بلغت نسبة الضحايا من الفتيات 73%، مقابل 27% من الفتيان. ونالت العاصمة بغداد وحدها 31% من نسبة هذه الجرائم.

الجهات المعنية المسؤولية تُعيد الضحية إلى المُعنِّف مقابل “تعهّد خطي”.

في هذا السياق، ترى الناشطة في مجال حقوق الإنسان وعضوة شبكة النساء العراقيات، سهيلة الأعسم، أن ارتفاع معدلات العنف ليس أمرًا جديدًا. ووفق ما تعاينه، نسبةً لعملها في هذا المجال، فـ “هناك حالات أكثر بشاعة، لكنها لا تظهر للإعلام”.

وإذ تُحمّل الجهات المعنية المسؤولية، وتنتقد القوانين وآليات تطبيقها التي تُعيد الضحية إلى المُعنِّف مقابل “تعهّد خطي”، تصف سهيلة الأعسم هذه الإجراءات بـ”البائسة”، مشددةً على أنه “لا بد من إجراءات حقيقية لمحاسبة المجرمين، وخطة قانونية وإجراءات وقائية لحماية الأطفال/الطفلات من العنف.”

كما ترى أن “تعديل قانون الأحوال الشخصية، المادة رقم 57، وعدم وجود محاسبة لمخالفة المعاهدات الدولية التي يعتبر العراق طرفًا فيها، ما يلزمه بالالتزام بمواثيقها”، يعتبر من بين العوامل الإضافية لتفشي هذه الجرائم. علمًا أن العراق من أوائل الدول التي صادقت على “اتفاقية حقوق الطفل” التي أقرّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1989.

وتضيف: “إن الوضع مقلق جدَّا خصوصًا بالنسبة للأطفال/الطفلات، إذ لا يستطيعون/ يستطعن تقديم شكاوي خوفًا من الانتقام والوصمة المجتمعية، أو قلقًا من تقديم الشكاوي دون جدوى إذ تتم إعادتهم/ن إلى معنّفيهم/ن في أغلب الأحيان”.

موسى أيضًا لم يُنقذ.. أعادوه إلى معنّفيه فقُتل

من بين الشواهد المؤلمة على تواطؤ ما تُعرف بالشرطة المجتمعية، تُشير سهيلة الأعسم إلى حالة الطفل موسى (8 أعوام)، الذي تعرّض للتعذيب والقتل من قِبل زوجة أبيه العام الماضي.

فرغم تقديم شكوى، أعادت وزارة الداخلية الطفل إلى عائلته، حيث لقي حتفه بعد أيام، في واقعة مشابهة لما جرى مع نرجس.

القانون يُجيز العنف بذريعة “التأديب” في “حدود ما هو مقرر شرعًا أو قانونًا أو عرفًا”.

في العراق، تُعالج قضايا العنف الأسري وفق المادة (41-1) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969، التي تُجيز العنف بذريعة “التأديب” في “حدود ما هو مقرر شرعًا أو قانونًا أو عرفًا”.

وتنص المادة في حرفيّتها على أنه: “لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالًا لحقٍ مقرر بمقتضى القانون، ويعتبر استعمالا للحق: تأديب الزوج لزوجته وتأديب الآباء والمعلمين ومن في حكمهم الأولاد القصر في حدود ما هو مقرر شرعًا أو قانونًا أو عُرفًا”.

في هذا السياق، يحذّر قانوني (فضّل عدم ذكر اسمه) من استخدام هذه المادة كذريعة للإفلات من العقاب، قائلًا: “تسمح هذه الثغرات في القانون العراقي لأولياء الأمور بتعنيف أطفالهم/ن -طفلاتهم/ن تحت ذريعة التأديب. وقد يخرج المعنِّف أو المجرم من القضية مثل الشعرة من العجين، بحجة القتل غير المتعمد.”

ناهيك عن عدم إقرار قانون العنف الأسري حتى اليوم، والذي تم تعطيله من قبل جهات سياسية وأحزاب دينية بذريعة المساس بـ”القيم الأسرية”.

جيل كامل في خطر

تحذّر الدكتورة إخلاص جبرين، أستاذة في علم النفس، من تداعيات هذا الإهمال المتعمّد على المجتمع العراقي، وحاضر ومستقبل الجيل الجديد على وجه التحديد.

“مستقبل العراق في خطر، لأن هذه حالات العنف الآخذة بالارتفاع ستُنتج جيلًا لا يؤمن بقدراته”، تقول د. إخلاص، مؤكدةّ “خطور تكرار مشاهد العنف على النمو النفسي والعاطفي والمعنوي للأطفال/الطفلات”.

وترى أن “الأوضاع الاقتصادية، وتفكك الأسرة، وانتشار المخدرات، تُسهم في تفشي العنف”، مشيرةً إلى “ظاهرة مروّعة تتمثل بتصوير الآباء لتعذيب أطفالهم، ونشر الفيديوهات على مواقع التواصل أو إرسالها للطرف الآخر من العلاقة كنوع من الانتقام”.

أمهات خائفات من تكرار سيناريو نرجس ومعصومة وموسى

“شهد” (اسم مستعار)، أم من بغداد تبلغ من العمر 33 عامًا، تحكي تجربتها المرعبة بصوت مرتجف:

“لم يغمض لي جفن لمدة ثلاثة أيام، بعد رؤيتي صورة نرجس وهي ميتة. تخيّلت أنها طفلتي، التي أخذها والدها مني منذ عامين، ولا أعرف عنوانها حتى الآن.”

وتُضيف: إن “الإجراءات القانونية معقدة، وتكاليف أجرة المحامين/ات مرتفعة جدًّا”، ما يزيد العبء على المعنّفات اللواتي يُجبرن على السكوت والخضوع، في ظلّ نظام اجتماعي يفرض عليهنّ التبعية بكل أشكالها، والاقتصادية ضمنًا.

وكتأكيدٍ على الخوف الذي يتربّص بالناجيات، اللواتي كسرن دائرة العنف عبر الطلاق، نشير شهد إلى أن طليقها ” كان عنيفًا معي ومع طفلتي أثناء زواجنا. هذا أسلوبه في الحياة”، معبّرة عن خشيتها من أن تتكرر مأساة نرجس معها.

من يحمي أطفال/طفلات العراق؟

بين معصومة ونرجس وموسى، وآلاف الأطفال/ الطفلات غير المرئيين/ات، هناك آلاف القصص المؤلمة التي لم تخرج إلى العلن، والتي تتستر عليها العشائر ويباركها القانون بذرائع أبوية.

واقعٌ مفجع تزداد معه الحاجة الملحة والعاجلة لقوانين رادعة، وآليات حماية فعّالة، ودعم حقيقي للأمهات. قوانين وآليات وخطوات صادقة، لحماية الطفولة والأمومة والإنسانية، لا لخدمة الأعراف والذهنية العشائرئة الكارهة للنساء، التي تضع الأطفال بين فكّي كماشة الانتقام الأبوي.

فالعنف المنزلي لم يعد قضية أسرية، بل بات أزمة مجتمعية تهدد مستقبل العراق بأكمله، وتستدعي دق نواقيس الخطر للحدد من تصاعد معدلات الجريمة، في وطنٍ تكافح النساء من أجل سلام وأمن أطفالها/ طفلاتها.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد