في البقاع الشمالي.. رائدات يتحدَّين الظروف ويخضن الانتخابات البلدية

بالرغم من التقدّم النسبي الذي عرفه لبنان في السنوات الأخيرة، على صعيد تمثيل النساء في مواقع السلطة، ومراكز القرار، لا يزال واقع محافظة بعلبك – الهرمل مختلفًا، حيث يتم تغييب النساء عن المشهد البلدي والسياسي بشكلٍ شبه تام.

أسباب التغييب هذا كثيرة ومتداخلة، نتيجتها واحدة، إقصاء النساء، ومنعهن من ممارسة دورهن الطبيعي بالمشاركة في إدارة التنمية وصناعة القرار.

واقع هش وتمثيل شبه معدوم

تواجه النساء في المحافظة النائية، تحديات معقدة، تبدأ من المنزل العائلي ولا تنتهي في صندوق الاقتراع. مشاركتها في الشأن العام، لا سيما في الاستحقاق الحالي تبقى محصورة بحدودٍ ضيقة، وغالبًا شكلية. إذ لا تزال النظرة التقليدية تهيمن على الوعي العام، وتعتبر أن الشأن السياسي أو الإداري ليس من مهام النساء.

هذه الصورة النمطية سعت الكثير من النساء إلى كسرها، من بينهنّ الناشطة السياسية والاجتماعية إلسي مهنا التي بادرت بالترشّح إلى عضوية بلدية رأس بعلبك. إلسي، أم لثلاثة أطفال، تعمل منذ مدّة على التوأمة مع بلدية Camaret sur aiguës في فرنسا.

حول هدفها من الترشّح قالت في حديث مع منصة “شريكة ولكن”: “من المهم رفع صوت النساء في منطقتي، وتفعيل أدوارهن في العمل البلدي بعد تهميشهن لسنين طويلة. طموحنا المساواة الكاملة بين الجنسين، إذ أنّه في العمل والانتاج والكفاءة لا تمييز بينهما”.

وناشدت، كمرشّحة ضمن لائحة “نبض رأس بعلبك”، جميع نساء بلدتها لـ”المشاركة في القرار والإدارة، فصوتنا ليس تفصيلًا بل يصنع التغيير، علينا إعلاؤه حتى يصل وتصل معه النساء”، معتبرةً أن “السكوت ليس قدرًا بل أحيانًا خيار، ولكنه لن يكون خيارنا الآن ولا غدًا”.

ضعف التمثيل هذا تظهره الأرقام بلغةٍ صريحة. ففي عام 2016  كان عدد المرشحات في قضاء بعلبك 53 مرشحة من أصل 1882 بنسبة 2,8% بلديًّا، و6 مرشحات من أصل 603 مرشحًا/ة بسبة 1,03% لمنصب المختار، وفي قضاء الهرمل ترشحت 9 نساء من أصل 242 مرشحًا/ة بنسبة 3,7% للبلدية وسيدتان من أصل 135 مرشحًا بنسبة 1,5% للانتخابات الاختيارية.

تشير مصادر محافظة بعلبك الهرمل إلى ارتفاع النِسَب هذا العام، على أن يتم إصدارها لاحقًا بشكلٍ مُفصّل.

العقبات: قيود مجتمعية وأدوار مفروضة

تتراكم التحديات أمام النساء، وتتخذ أشكالًا متعددة. من الدين حيث تُستخدم بعض قراءاته أداةً لتبرير إقصاء النساء، إلى الأعراف العشائرية، حيث تُحصر أدوارهن داخل العائلة فقط.

والعشائر، سلطةٌ موازية للدولة في العديد من القرى والبلدات، ترفض بشكلٍ قاطع ترشّح النساء للبلديات، باعتباره “عيبًا” أو كسرًا لتوازنات السلطة التقليدية. في حين تهيمن الذكورية النمطية على القرار العام، وسط نظرةٍ دونية لقدرات النساء في القيادة والقرار، وتجاهل أدوارهن حتى لو أثبتن كفاءة وخبرة.

الأحزاب السياسية والدينية تقصي النساء أو تستخدمهن كديكور ديمقراطي

كذلك الأحزاب السياسية والدينية لم تبارح مربّع السلبية في هذا المجال. فبحسب الباحثة الاجتماعية ديما صلح، فإنّ “إقصاء الأحزاب للنساء عن العمل السياسي ناتج عن عقلية ذكورية متجذّرة في بنية تلك الأحزاب، حيث تُبنى هياكلها التنظيمية على الولاءات الذكورية والعائلية والطائفية وليس على الكفاءة أو التمثيل العادل”.

وأكّدت صلح استخدام “وجود النساء في اللوائح أو الصور كديكور ديمقراطي دون تمكين حقيقي لهن من مراكز القرار أو منحهن المساحة للتأثير كما أن غياب آليات واضحة لدعم مشاركة النساء مثل الكوتا أو تمويل الحملات أو التدريب السياسي يُكرّس هذا الإقصاء بشكل ممنهج”.

الكوتا إصلاح أم حل مؤقت؟

في هذا السياق، تُطرح الكوتا كخيار إصلاحي لضمان تمثيل النساء في مجلس النواب والمجالس البلدية والاختيارية. فرغم الجدل حولها، إلا أن الكوتا تُعتبر أداةً مرحلية ضرورية لتثبيت وجود النساء في مراكز القرار لإثبات كفاءتهن.

حول جدوى الكوتا النسائية وأهميتها كان لـ “شريكة ولكن” حوارًا مع المرشحة السابقة للانتخابات النيابية ماري روز رحمة، وهي مرشحة حالية للانتخابات البلدية في بلدة عيناتا البقاعية. فقالت: “صحيح أنّ الكوتا بشكلٍ عام تَحصُر وجود النساء بعددٍ معيّن من المقاعد، إلا أن العوامل المتراكمة في مجتمعنا على المستويين الثقافي والسياسي قد أثّرت على مشاركة النساء في الاستحقاقات الإنتخابية. ففي كثير من الحالات يتم تزكية الرجال على حساب النساء لأسباب عائلية وذكورية وغيرها. أمام كل هذه العوامل وفي مراحل أولى يمكن للكوتا أن تشكّل مدخلاً، لو بشكل ’الفرض’ القانوني، يُجبِر المجتمع الذكوري على ’حجز’ مواقع للنساء”.

رحمة اعتبرت أنّ هذا الإجراء: “سيشجّع النساء على كسر الحواجز المختلفة وفرض وجودهن في المعارك الإنتخابية”.


بسؤالنا إذا ما قامت النساء بما يلزم لتثبيت حضورهن السياسي اعتبرت أنه “عددًا لا يستهان به بادرن بشجاعة لتثبيت حضورهن في مواقع القرار رغم كل الصعوبات، ومبادّرتهن قد تشكّل حافزًا لغيرهن. إذ أن البعض يتردّدن عن خوض المواجهة لأسباب شخصية وثقافية. فمنهنّ من تخضع للضغوطات العائلية، لناحية حصر أدوارها بالأمومة أو بالعمل الرعائي، ما يمنعهن في بعض الحالات من تخصيص وقت كبير للانخراط في الحياة السياسية. وللأسف لا يتشارك الكثير من الرجال في هذه الأدوار والمسؤوليات أو يتحملّونها بنفس القدر، ما يزيد من الضغط عليهن”.

وإذ أكّدت أنّ “مشاركة النساء في الحياة السياسية، بلديًّا ونيابيًّا ضرورة لا ترفًا”، توجّهت بالدعوة لـ “كسر حواجز الصمت واللامبالاة، ومنح النساء الثقة وإتاحة الفرص أمامهن. فالتجارب النسائية الناجحة في بعلبك-الهرمل، وإن كانت قليلة، وفي بداياتها إلا أنّها تُؤكد أن الوقت قد حان لإعادة النظر في النظام الأهلي المحلي والقانوني، ليصبح أكثر شموليةً وعدالة ومساواة”.

من جهته رأى النائب بلال الحشيمي أن الكوتا النسائية “موضوع خلافي شائك، ويمكن أن تُسيء بدل أن تُشكل حافزًا، من خلال وصول ’المدعومة’ على حساب الكفوءة”، داعيًا إلى إحداث “ثورة ثقافية مجتمعية تواكب التطور العلمي الحاصل، وليكن الباب متاحًا أمام أكبر عدد من النساء”. ومع أهمية هذه النقطة، إلا أن وصول “المدعومين/ات” تعكس الفساد السياسي الراسخ في لبنان، ما يستدعي مكافحة جذور المحسوبية والزبائنية الراسخة في المجالات العامة، لا ربطها حصرًا بنظام الكوتا.

 تجارب نسائية ناجحة

بالرغم من كلّ المعوقات، بادرت بعض النساء إلى خوض تجارب سياسية وبلدية، أثبتن فيها حضورًا وتميزًا، واستطعن إحداث الفارق في العمل التنموي داخل البلديات.

ريما كرنبي، نائبة رئيس بلدية عرسال السابقة، حصدت في انتخابات عام 2016 الرقم الأعلى بين الفائزين، شكّل فوزها “صدمة إيجابية” في ظل ما كانت تعيشه بلدتها آنذاك.

في حديثٍ مع “شريكة ولكن”، أشارت ريما كرنبي إلى أن “عضوية البلدية ساعدتني كثيرًا في الحركة والنشاط، وباتت قدرتي على العمل العام أكبر وأسهل”، مؤكدةً الحصول على “دعم الجميع وتشجعيهم/ن دون تردد أو تباطؤ”. أمّا حول حصول معوّقات داخل البلدية، خصوصًا بصفتها نائبة رئيس، أرجعت ريما سببها إلى “نظرة الرجال للنساء على أنها أقل خبرة وبحاجة لتثبت ذلك، ومحاولة مصادرة دورها، بالإضافة إلى الأنانية والغيرة. ناهيك المعوقات الاقتصادية التي بدت واضحة بأكثر من مكان وقرار”.

من جهتها الطبيبة ليندا عبدو، الناشطة سياسيًّا واجتماعيًّا، ابنة بلدة اللبوة ومتزوجة في عرسال، والتي شكّلت أحد أبرز الوجوه النسائية في حراك 17 تشرين، تُعرف في منطقتها بأنّها الخزان البشري لـ”الثنائي الشيعي”، في دلالة للأحزاب الشيعية المتمثلة في المنطقة. بصوتٍ جريءٍ وحضورٍ ثابت، اختارت أن تواجه الطائفية والتبعية السياسية بوعيٍ مدنيٍّ وإنساني، مدفوعة بإيمانها العميق بقدرة النساء على كسر الحواجز وإعادة تشكيل المشهد. فالتغيير يبدأ من الداخل، رغم أنها اختارت التغيير في واحدة من بيئةٍ حزبيّةٍ ومتديّنة، تتمسّك بعنادٍ أبويّ أمام النهضة النسوية.

في حديث لـ “شريكة ولكن”، تقول ليندا عبدو إن مشاركتها في الثورة اللبنانية “نابعة من تجربتي الشخصية وامتدادًا لها. فوعيي التراكمي تَشكَّل عبر سنوات من القهر والخذلان، من الحرب والتهجير، من التمييز الطائفي والتهميش الاجتماعي، ومن المحسوبيات والمحاصصات الحزبية. لم تكن مشاركتي مجرّد ردة فعل، بل فعل إيمان بوطن يستحقّ أن نحلم به، وأن نناضل لأجله”.

ورغم كل حملات التشويه والتضليل التي طالتها عقب مشاركتها في الحراك المدني، تؤكد أنها “ما زلت مؤمنة بأن التغيير يبدأ من الداخل، من الوعي، من الموقف، من الكلمة”، مشددةً أنها “لا أنتمي إلى حزب، بل إلى فكرة. فكرة العدالة والحرية والمواطنة، وهذه الفكرة أقوى من كل جدران النظام الطائفي، أنا مستمرة، لأن التراجع خيانة، ولأن هذا الوطن لا يستحق إلا من يدافع عنه حتى الرمق الأخير”.


أما بالنسبة إلى التمثيل السياسي  للنساء بلديًّا ونيابيًّا، فترى أنّه ما زال هامشيًا. “ففي الانتخابات البلدية الماضية، لم تحصل النساء سوى على 5% من المقاعد رغم أنهن يشكلن أكثر من نصف الناخبين/ات. وفي الانتخابات النيابية الأخيرة لم تصل نسبة النساء الفائزات إلى 7%. هي أرقام مخجلة لدولة تُنجب كل عام دفعات من الفتيات المتفوقات”، بحسب عبدو.

لذا فإن مشاركة النساء اليوم في الانتخابات البلدية، في مجتمع لا يرى فيهن شريكات حقيقيّات، هو واجبٌ وطنيٌّ لكسر الحلقة المفرغة من الفشل الإداري والتنموي، خاصة في مناطق عانت طويلًا من التهميش وسوء الإدارة”. وشددت على أن “الثورة لا تكتمل بمجرد تحصيل الشهادات والبقاء خلف الكواليس، بل بترجمة هذا العلم عبر المشاركة بموقع القرار وإحداث الفرق. والانتخابات القادمة – بلدية ونيابية – يجب أن تكون منبرًا للنساء القادرات على القيادة، لا صورة رمزية لترضية المجتمع. فالمجتمع الذي لا يمنح نصفه الفاعل حق القيادة، سيبقى يدور في حلقة عجز لا تنتهي”.

صناعة القرار من منظور نسائي

مشاركة النساء في الحكم المحلي ودوائر القرار لم تعد مطلبًا نسويًا فقط، بل هي عنصر أساسي في تحقيق التنمية المتوازنة المستدامة. فللنساء نظرتهن الشاملة للحاجات المجتمعية، ومساهمتهن في التخطيط لبرامج تراعي الفئات الأكثر تهميشًا، كالنساء والأطفال/الطفلات وكبار/كبيرات السن، ضرورة لا ترف.

من ناحيتها، تؤكد الناشطة والباحثة الاجتماعية ديما صلح “أن مشاركة النساء في صناعة القرار ليست مجرد حق، بل هي ركيزة أساسية لأي نظام ديمقراطي عادل. وفي زمن الأزمات والتحوّلات، لا نملك ترف تهميش مكوّن أساسي في المجتمع، ولا يجوز بعد اليوم أن تُختصر أدوار النساء أو تُختزل مشاركتهن. المطلوب شراكة حقيقية تُبنى على الكفاءة، والنساء جزء لا يتجزأ من هذه المعادلة الوطنية”.

أمّا الآلية التي تُمَّكِن المجتمعات في مناطق الأطراف، كبعلبك والبقاع الشمالي، من إعادة صياغة دور النساء في الشأن العام بما يتجاوز الأطر التقليدية رأت صلح أن “المجتمعات الطرَفية تملك عناصر القوة الكامنة، لكنّها بحاجة إلى خرق الوعي الجماعي المحلي وخلق إرادة تغيير جذرية وكسر جدار الصمت الذكوري السائد. المطلوب هو الاستثمار في التعليم، وبناء منصات نسوية محلية فاعلة، وتحفيز النساء على تولّي أدوار قيادية في البلديات، الجمعيات، والمؤسسات التربوية”.

كما أكّدت أهمية “دعم المبادرات الريادية للنساء في التنمية والثقافة والبيئة، بما يُمّكنهن من فتح الأبواب لإعادة صياغة أدوارهن بما يتجاوز القوالب النمطية”.

تاريخ واستمرار

النشاط النسوي ليس جديدًا أو طارئًا في بعلبك. فبحسب الباحثة الدكتورة بتول يحفوفي “انطلق في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، بتأثير الحركات القومية واليسارية، عبر لجان فرعية لجمعيات حقوقية في بيروت، كلجنة حقوق المرأة والتّجمع النسائي الديمقراطي، في ظل تنامي الوعي الاجتماعي والسياسي في المنطقة”.

كما لعبت النساء دورًا مهمًا في النضالات الاجتماعية والتعليمية، خصوصًا في ظل الإهمال التنموي المزمن الذي عانته المنطقة. تشير يحفوفي إلى “تأسيس العديد من الجمعيات النسائية المحلية بعد الحرب الأهلية، هدفها تمكين النساء اقتصاديًا واجتماعيًا، عمل بعضها على التدريب المهني، محو الأمية، والدعم القانوني. تنامى دور العديد منها مثل ’جمعية النساء الريفيات’ و’جمعية شبكة معًا’، التي تسعى إلى تعزيز حقوق النساء، ومواجهة العنف القائم على النوع الاجتماعي، وتفعيل التمثيل السياسي”.

بالمحصلة، إنّ النضال الحقوقي النسوي أثبت أنّ مشاركة النساء في الحياة السياسية واسترجاع حقّهن في صناعة القرار، يضيف بعدًا إنسانيًّا ملموسًا، وإبقاؤهن خارج دائرة القرار -في منطقة المحظورات “التابو”- هو خيانة للمجتمع ككل.

 

كتابة: طارق الحجيري

أُنتِج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع “أصوات من الميدان”، لدعم الصحافة المستقلة في لبنان.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد