
حين يسكن القصف في الجسد: عن الشعر الذي يشيب قبل أوانه، والحيض الذي يضيع موعده
ليس القصف وحده ما يهدّد حياة النساء في زمن الحرب. هناك ما لا يُرى في عدسات الكاميرا، ولا يُذكر في تقارير الأخبار: جسدٌ يتفتّت بصمت، وهرمونات تضطرب، ونبضات قلب تختل.
الشعر الذي يتساقط فجأة، الشيب الذي يزحف مبكرًا، الدورة الشهرية التي تضيع، والبشرة التي تصرخ نيابة عن صاحبتها، كلها ليست أعراضًا هامشية أو عابرة، بل أرشيف حيّ لحرب تُشنّ على الداخل كما على الخارج.
في الحروب، لا تكون أجساد النساء مجرد “ناجية”، بل فضاءً سياسيًا، مُحمّلًا بالذاكرة، ومَوقعًا للمعاناة والمقاومة في آن.
هذه الأعراض “الصامتة” التي نادرًا ما تُدرج ضمن سرديات الحرب ليست ثانوية، بل تشكّل وجهًا أساسيًّا من وجوه العنف الممنهج الذي تتعرض له النساء. فالقلق المزمن والتوتر المتواصل ليسا مجرد حالات نفسية، بل عوامل تؤدي إلى اختلالات بيولوجية ملموسة، تطبع آثارها في الشعر، والبشرة، ومواعيد الحيض، والنوم، والمناعة.
ولا تقل هذه الأعراض خطورة عن الجروح الظاهرة، لكنها غالبًا تُهمل، أو تصنّف على أنها “هامشية”، لأن “الكاميرا لا تلتقطها”، ولأن أجساد النساء غالبًا ما تُختزل إلى رموز للضعف أو الحزن، لا كمواقع للنضال والتوثيق.
تساقط الشعر والشيب المبكر
رنا، التي نجت من غارة كادت تودي بحياتها في الجنوب، لم تتوقع أن تفقد جزءًا من ذاتها في كل خصلة تسقط من شعرها. “أنا اللي شعري جزء مني، فجأة صار يتساقط كأنو شي عم ينهار منّي”.
هذا الانهيار لم يكن ناتجًا فقط عن الضغط النفسي، بل أيضًا عن الإحساس المتواصل بانعدام الأمان، وهو ما ينعكس على مستوى الخلايا، ويعيد تشكيل الجسد من الداخل.
بينما كانت أماني، في الثلاثينيات من عمرها، تبحث عن تفسير للشيب المبكر، للأرق، للاضطرابات الهرمونية. تقول إن “الخوف لم يعد من الموت، بل من كل صوت يشبهه”. ليترك الشيب في ذاكرته علامةً حيّة على أن الجسد لا يريد أن ينسى، بل يختار أن يصمد ويتحدى ويتجاوز ويقاوم بطريقته.
أما زينة، الصحافية، فكانت تعتقد أن الخبرة والمهنية ستمنحانها حصانة ضد الصدمة. حتى وجدت قلبها يتقلّب كلّما سمعت صوت طائرة، وشعرت أن وزن الأحداث بدأ يُثقل نبضها.
“طلعلي شيبة بساعة”، تقول، جملة تكاد تكون مجازًا شاعريًا، لكنها هنا توصيف بيولوجي دقيق لأثر الصدمة.
الأثر النفسي والجسدي: تداخل لا ينفصل
إن الضغط النفسي الناتج عن الحرب لا يظهر فقط كألمٍ داخلي، بل ينعكس بشكلٍ مباشرٍ على الأجساد، خصوصًا لدى النساء والفتيات اللواتي يعشن في قلب الأزمات.
أما ريان، التي لم تكن جسديًا في الجنوب، فقد عاشت الحرب على شاشات الهواتف والتلفاز، عبر أخبار محاصرة لأهلها، لكنها وجدت أن جسدها لم ينجُ من آثار الحرب. “وجهي تغيّر، بشرتي تحوّلت، وكأن جلدي قرر أن يشهد على الحرب بدلًا عني.”
الدورة الشهرية لدى النساء قد تتأثر بشكلٍ واضح من الضغط النفسي المستمر. اضطراب المواعيد، تأخر الدورة، أو انقطاعها تمامًا، قد يكون من النتائج المباشرة لتراكم التوتر والمشاعر المكبوتة.
والتغيرات الهرمونية تتعدى مجرد الاضطرابات الشهرية لتشمل تغيّرات في البشرة، الوزن، والشعور العام بالجسد. كما تعاني بعض النساء من تفشي حب الشباب، أو تغيرات غير مفهومة في شكل أجسادهن، ما يثير الكثير من القلق.
غياب الرعاية الصحية الخاصة بالنساء
في ظل غياب خطة طوارئ صحية تراعي احتياجات النساء في أوقات الحرب، تدفع أجساد النساء أثمانًا باهظة.
من تملك رفاهية الذهاب إلى الطبيبـ/ة؟ من تستطيع تحمّل كلفة العلاج أو حتى مجرد البوح بالألم؟ في صميم هذه الأسئلة يتجلّى التقاطع الطبقي بين أشكال القمع والتهميش والإقصاء، حاضرًا في كل تفصيل.
فبين نساءٍ تمكنّ من مغادرة الجنوب إلى مناطق أكثر أمانًا، وأخريات عالقات بلا كهرباء، ولا ماء، ولا دواء، تتّسع الفجوة. ومن دون تفكيك هذا الواقع بعدسةٍ نسويّةٍ شاملة تراعي الفروقات الطبقية والمكانية والجندرية، تبقى معاناة النساء غير مرئية، رغم عمق أثرها على الصحة النفسية والجسدية.
View this post on Instagram
الرأي الطبي..
اضطرابات هورمونية وغيرها من الآثار البيولوجية الحادّة
“في لحظات القلق المزمن والتوتر، يختلّ النظام البيولوجي، وتضطرب الهورمونات”، كما تقول الدكتورة غاييل أبو غنّام، اختصاصية في الطب النسائي، التي تؤكّد أن “التوتر المزمن الناتج عن الحروب لا ينعكس فقط على الصحة النفسية، بل يترك آثارًا بيولوجية حادة”. فالجسد يُصبح في حالة تأهّب دائم، يفرز خلالها هرمونات بطريقةٍ ترهق الأعضاء الداخلية وتُضعف قدرة الجسم على الترميم الذاتي.
وتوضّح أن “الاضطرابات الهرمونية تؤثر مباشرة على الدورة الشهرية، خصوبة النساء، وحتى صحة الجلد والشعر”. وتشير إلى أن “أجساد النساء، لا سيما الشابات، تستجيب بشكلٍ حساس جدًّا لبيئات العنف، ما يُترجم أحيانًا بتساقط الشعر، اضطرابات في الهرمونات الجنسية، تكيًس في المبيض، أو حتى انقطاع مفاجئ للطمث”.
وتلفت إلى أن “هذه الأعراض الجسدية هي بمثابة مؤشر للجسم على التغيرات النفسية الحادة التي لا يمكن تجاهلها”.
ناهيك عن تأخّر الإنجاب، اضطرابات النوم، زيادة الوزن أو فقدانه المفاجئ، آلام مزمنة غير مبررة عضويًا، ومشكلات في الجهاز الهضمي، وغيرها من الأعراض الخطيرة التي شُخّصت عياديًّا على نساء اختبرن الأزمات. تبعاتٌ خطيرة لا يمكن التعامل معها على أنها مجرّد أعراض ثانوية، بل هي بمثابة رسائل واضحة من أجساد تختبر العنف بكل أشكاله. إذ ان الجسد، في النهاية، يحتفظ في خلاياه بآثار ما لا يُقال.
هناك ضرورة ملحّة لتدريب الطواقم الطبية على تقديم رعاية نفسية وجسدية متكاملة، تراعي السياق الحربي والنسوي.
من ناحيته، يوضح الطبيب النفسي فضل شحيمي أن “الجسد يتكلم حين تعجز النفس عن التعبير”، ويضيف أن العديد من النساء اللواتي عايشن القصف أو النزوح يعانين من أعراض جسدية واضحة لكنها تُشخّص أحيانًا بطريقةٍ خاطئة كحالات عضوية منفصلة عن السياق النفسي أو السياسي.
ويشدد على ضرورة تدريب الطواقم الطبية على تقديم رعاية نفسية وجسدية متكاملة، تراعي السياق الحربي والنسوي للحالة، بعيدًا عن التشخيصات المجزأة أو المبسّطة.
الرأي الطبي، إذًا، لا ينفصل عن السياق الاجتماعي والسياسي. فالصحة الجسدية ليست مجرد مسألة بيولوجية، بل انعكاسٌ مباشر للبيئة، وللموقع الطبقي والاجتماعي، وللأزمات التي تُعاش. وعندما لا نأخذ في الاعتبار تأثير السلطة، والتمييز، وأشكال العنف البنيوي على الأجساد -تحديدًا أجساد النساء-، يُختزل الألم في أعراض تُعالَج بمعزل عن جذورها.
الحديث عن الأجساد.. مقاومة
الحديث عن هذه الأعراض ليس ترفًا، بل ضرورة.
ولأن الجسد ليس حياديًا، فكل ارتعاشةٍ فيه، وكل ألمٍ مهما كان “صغيرًا”، هو شهادة على منظومة لا ترى النساء إلا كأدوات أو كضحايا صامتات.
فعندما تُحصر الحرب في الموت والخراب الخارجي، تُمحى حكايات ومعاناة آلاف النساء من الذاكرة الجماعية. بينما تحوّلت أجسادهن -بفعل الحروب والأزمات- من مساحاتٍ “خاصة” إلى ساحات صراعٍ عام.
View this post on Instagram
حين ترتجف أجسادنا، حين تنهار، حين تصمت، فهي تدوّن ما لا لم تستطع قوله. هذه التسجيلات الصامتة، من الأرق إلى اضطرابات الدورة، من الشيب إلى تساقط الشعر، هي وثائق سياسية بامتياز. إنها احتجاجات الخلايا على الإهمال، على العنف، على غياب الرعاية. إنها الطريقة التي تختار من خلالها أجسادنا أن تقاوم.
والمقاومة، كممارسةٍ يومية في رعاية الذات، هي نهجٌ نسويٌّ يفرض الاعتراف بأن آلام النساء ليست هامشية، بل جوهرية لفهم العنف في سياق الحروب. إنها مقاومةٌ لا تقتصر على النضال من أجل البقاء أو النجاة، بل تمتد إلى الأرشفة، والبوح، والكلام عن الجسد بوصفه سجلًّا حيًّا لما لا يُقال.
ولأن الحرب لا تدور فقط في ساحات المعارك، تروي النساء حكايات أجسادهن، ويتحدّثن عن آثارها العميقة، فيرفعن الصوت في وجه نظامٍ يسعى لإبقائهن في الظل.
الكتابة عن الجسد، وتوثيق الأعراض التي يُصرّ على تصنيفها كهامشية، هو فعل مقاومة بامتياز.
فالصمت فُرض عليهن، أما الكلام والتمرّد، فهو خيارهن الواعي.
عن مساحات الشفاء المفقودة
في المقابل، لا مساحة واضحة للشفاء. فمنظمات الإغاثة نادرًا ما تضع بندًا خاصًا لدعم الصحة النفسية والجسدية للنساء في حالات الحرب.
المؤسسات الطبية كثيرًا ما تُعيد تفسير الأعراض الجسدية خارج سياقها السياسي، أو تُفرّغها من بعدها الجماعي. وحتى المنظومة الثقافية تُصرّ على التعامل مع الشيب كعلامة انهيار، لا كندبة تروي تاريخًا ما. الشفاء، هنا، يجب أن يُفهم كحق، كأولوية، كجزء من العدالة الاجتماعية، لا كمجرد خيار فردي.
من الضروري إذًا أن لا نقرأ هذه الشهادات كقصص معزولة، بل كمدخل لفتح نقاش أوسع حول علاقة الجسد بالحرب، حول تكلفة الصمت، وحول ضرورة بناء مساحات نسوية آمنة للبوح، للشفاء، وللمطالبة.
فحين يتكلم الجسد، لا يجب أن نُسكت صوته أو نعتبره هامشيًّا.
بل يجب أن نُصغي إليه كوثيقةٍ سياسية بوجه ماكينات الحروب الاستعمارية، أو كسؤالٍ مفتوح في وجه مجتمعٍ لم يتعلّم بعد الاعتراف بمعاناة النساء، ولا كيف يُعيد إليهن ما سُلب منهن:
الأمان، الصوت، والحق في الحياة، بلا خوفٍ، بلا استغلالٍ، وبلا تهميش.