النساء والصناعات الملوثة.. تحقيق حول تأثير المصانع والتلوث الصناعي على صحة اللبنانيات

مرام (اسم مستعار) فتاة جامعية، مسؤولة عن دراستها، عملها وتدبير المنزل معًا. فبعد رحيل والدتها العام الماضي بسرطان الكبد، أصبحت الأعمال الرعائية المنزلية على عاتق كتفيها النحيلتين. تروي الفتاة معاناتها بحسرة، والكلمات تكاد تختنق في فمها:

“شو بدي احكيلك؟ إمي توفّت السنة الماضية بسرطان الكبد، يمكن أصلًا كلنا نلحقها! ما نحنا ما منتنفس أوكسيجين، منتنفس دخان! المصانع بين البيوت.”

تجدر الإشارة إلى أن مرام تعيش قرب المنطقة الصناعية في صيدا، وقريبة من مصانع الغازية، حيث رَجّح الأطباء أن سبب تفاقم المرض يعود إلى مشكلة الملوثات المنتشرة في المنطقة التي كانت تسكن بها الضحية.

مرام ليست وحدها، فـحبيبة القرصيفي، ابنة حوش الرافقة البقاعية، واجهت أيضًا مصير والدة مرام منذ خمس سنوات: سرطان، رحلة عذاب، ومن ثم وفاة. فنهر الليطاني، نعمة الحياة، أصبح نقمة على أهالي تلك البلدة وجوارها. وفياتٌ سرطانية نتيجة التلوث بالمئات! كيف لا، والنهر أصبح مستوعبًا لنفايات المصانع المحيطة به!

يشكّل التلوث الصناعي في لبنان مصدر تلوث بيئي أساسي، حيث يُسهم في تدهور جودة الهواء والمياه والتربة معًا، ما يؤدي إلى آثار صحية سلبية على السكان، خصوصًا النساء. فكلما زادت نسبة المصانع المتواجدة في منطقة معيّنة، تزداد تلقائيًّا نسبة النساء اللواتي سيُصبن بأمراض صحية، لا سيما الأمراض السرطانية في تلك المناطق.

في مقالٍ نشرته جامعة ستانفورد “كلية الطب لصحة المرأة” في شباط/ فبراير عام 2005، وُجدت علاقة بين أمراض العقم والخصوبة، خصوصًا لدى النساء، وقائمة كبيرة من الملوثات البيئية، تقف في مقدمتها منظفات المنزل، المبيدات الحشرية، المعادن الثقيلة، وبعض أنواع الأعمال الصناعية.

وبحسب دراسات عدة، هناك ارتباط وثيق بين زيادة نسبة التلوث الصناعي وزيادة الأمراض التي قد تُصيب النساء والتي قد تكون قاتلة. فبحسب ورقة بحثية صدرت عن المعهد الوطني لعلوم الصحة البيئية في الولايات المتحدة الأميركية، تبيّن أن النساء اللواتي يعشن في مناطق ذات مستويات مرتفعة من الجسيمات الدقيقة في الهواء، والناتجة عن المصانع، يواجهن زيادة بنسبة 8% في خطر الإصابة بسرطان الثدي وسرطانات أخرى، مقارنة بباقي النساء.


Ambient fine particulate matter and breast cancer incidence | JNCI

رغم هول الكارثة البيئية التي تسببها المصانع المنتشرة في مناطق عدة في لبنان، تبقى الكارثة الأكبر في غياب المعالجة الجديّة لها، من غياب الإدارة السياسية الحقيقية، والتراخي في تطبيق القوانين البيئية إن وُجدت. ومع هذا الإهمال الحاصل في التعاطي الجدي مع هذا الموضوع، ستشهد الأيام المقبلة لا محال نساء سيواجهن مصير أم مرام وحبيبة… والآتي ليس بأعظم، بل بأسوأ.

أبرز المناطق الملوثة صناعيًا في لبنان

خلال استمارة خاصة “شريكة ولكن”، وشارك بها 73 شخص من مناطق تنتشر بها المصانع، تبيّن أن البقاع والجنوب يستحوذان على أعلى نسبة من المناطق الملوثة صناعيًا في لبنان.

وأظهرت النتائج أن أعلى نسبة ملوثات كانت مصادرها مصانع البلاستيك، ومصانع المواد الغذائية، وأن قرابة 70% من الأشخاص يعيشون بالقرب من مصدر مائي ملوّث (الجيّة، الليطاني، الأولي).

نتائج الاستمارة:

  • أكثر من 76% من النساء في المناطق الصناعية يعانين من مشاكل في الإنجاب.

  • أكثر من 60% من النساء في المناطق الصناعية يعانين من اضطرابات هرمونية.

 

  • أكثر من 61% من النساء في المناطق الصناعية أو إحدى معارفهن تم تشخيصهن بسرطانات نسائية.

بالإضافة إلى الأمراض التي قد تصيب النساء نتيجة التلوث الصناعي، لا بد من تسليط الضوء على النتائج الاجتماعية والاقتصادية السلبية التي ستواجهها النساء بسبب تلك الأمراض: بحيث تؤدي الأمراض الناتجة عن التلوث إلى انخفاض الإنتاجية وزيادة التغيب عن العمل، ما قد يؤدي إلى فقدان الوظائف أو تقليل الأجور.

بالإضافة إلى المشاكل الصحية التي تصيب النساء نتيجة تعرضهن للتلوث الصناعي، كالمشاكل في الإنجاب، وبعض أنواع السرطان، من المهم أيضًا معالجة التداعيات الاجتماعية والاقتصادية التي تصاحب هذه المشاكل الصحية.

فغالبًا ما تواجه النساء المصابات بأمراض ناجمة عن التلوث انخفاضًا في القدرة البدنية، ما يؤثر بشكلٍ مباشر على إنتاجيتهن في كل من العمل الرسمي وغير الرسمي. ما يزيد من احتمالية التغيّب عن العمل بسبب المواعيد الطبية أو المرض لفترات طويلة، الأمر الذي يعرّض وضعهن الوظيفي للخطر، ما قد يساهم في نهاية المطاف بفقدانهن لوظائفهن.

زيادة على ذلك، قد يؤدي الضعف الاقتصادي الناجم عن هذه الأمراض إلى تعميق أوجه عدم المساواة القائمة بين الجنسين. فالنساء، تحديدًا من بين المجتمعات المهمشة، هن الأقل فرصة في الحصول على عمل مستقر، ما يزيد من صعوبة التعافي وإعادة الاندماج في القوى العاملة.

أبرز الملوثات الصناعية في نهر الليطاني، شريان البقاع

كان لـ”شريكة ولكن” اتصال مع الناشط البيئي محمد يزبك، الذي واكب عدة جامعات أثناء زيارتها لإعداد أوراق بحثية عن نهر الليطاني. ومحمد من بلدة حوش الرافقة البقاعية، حيث أعداد الوفيات من النساء بتزايدٍ مستمر بسبب وجود هذا النهر في تلك المنطقة.

يُعتبر نهر الليطاني من أهم الموارد المائية في لبنان، والضحية التي تمتلك حصة الأسد من المخلفات الصناعية الناتجة عن المصانع في أقضية بعلبك وزحلة والبقاع الغربي (650 مصنعًا) والتي ترمي نفاياتها في النهر دون معالجة.

يقول محمد إن “الليطاني في الأعوام الأخيرة كان يُطلق عليه في ضيعتهم اسم نهر الموت”، ما دفعه لمواكبة الجامعات في أبحاثها لمعرفة الأسباب التي ساهمت في جعل هذا الشريان الحيوي قبرًا للضيعة ونسائها.

وعن معلوماته المتوافرة، “أكد محمد أن المعادن الثقيلة المتواجدة في النهر من رصاص، كادميوم، كروم، زئبق (مصدرها صناعي على الأغلب، وهي ناتجة عن ملوثات مصانع الدهانات والملابس التي تحيط بالنهر) والتي تعتبر أعلى بعشرات ومئات المرات من المعدلات الطبيعية”. بالإضافة إلى نمو الملوثات البيولوجية من بكتيريا (سيانوباكتيري مثلاً)، وطحالب سامة ناتجة عن مصانع الألبان والأجبان التي ترمي نفاياتها في النهر دون معالجة، وطبعًا ملوثات أخرى ناتجة عن مصانع البلاستيك في المنطقة عينها.

تأثير التلوث الصناعي على صحة النساء في لبنان

بعد المعلومات التي أدلى بها الناشط البيئي عن ملوثات المصانع، قامت “شريكة ولكن” بالتواصل مع الدكتورة النسائية نرمين أمين، لمعرفة كيف تؤثر ملوثات المصانع على صحة النساء.

وبتصريح لمنصتنا، أكدت الطبيبة أن “الفتالات مثلًا، والذي ينتج عن مصانع البلاستيك تحديدًا، مستحضرات التجميل والدهانات، يقلّل من مستويات هرمون الأستروجين، وقد يؤثر على الخصوبة، ويزيد من خطر الإجهاض، كونه يرتبط بزيادة خطر الأورام الليفية وسرطان بطانة الرحم. أما البيسفينول، الذي يُستخدم في إنتاج عبوات المياه البلاستيكية، قد يؤدي إلى خلل في الدورة الشهرية، وزيادة خطر الإصابة بسرطان الثدي”.

وأشارت الطبيبة إلى أن “كل اختلال هرموني يقابله تدهور نفسي ممكن أن يؤدي أحيانًا إلى موجات اكتئاب وأمراض عصبية”.

أكدت الدكتورة نرمين أيضًا، أن “خطر الملوثات الصناعية ليس محصورًا فقط بالأم، بل بطفلها المستقبلي، الذي قد يعاني من تشوهات خلقية نتيجة تعرض أمه في حملها لكميات مرتفعة من المعادن الثقيلة، مثل الرصاص، الزئبق، الكادميوم، الناتجة عن بعض الصناعات المعدنية، الطلاء، البطاريات…”

غياب الإصلاح السياسي وعلاقته المباشرة بتفاقم المشكلة

لفهم كيف تفاقمت المشكلة، كان لـ”شريكة ولكن” اتصال مع الدكتورة في الحقوق والقانون والناشطة الاجتماعية، نرجس نون، التي أكدت أن “في لبنان قوانين بيئية لتنظيم عمل المصانع، كالقانون البيئي رقم 444/2002، وقانون الحد من انبعاثات الهواء وحماية نوعية الهواء لعام 2018، وهناك أيضًا قانون خاص لإدارة النفايات الصلبة”.

وبحسب رأي القانونية، “المشكلة ليست في التشريع فالقوانين موجودة، ولكن هناك تحديات في التطبيق الفعلي لها، كغياب المراسيم التطبيقية والقرارات التنظيمية التي تحدد آليات التنفيذ، ما يحد من فعاليتها”.

أما عن تأثير الفساد والمحسوبيات في حماية المصانع الملوثة من المساءلة، أقرت الدكتورة نون أن “تأثيرهم مباشر وخطير. فالفساد السياسي والإداري يشكل حاجزًا لمحاسبة الملوثين، ما يسبب ضررًا صحيًا إضافيًا، خصوصًا على الفئات المهمشة مثل النساء. فالتحركات القضائية المحدودة بسبب المحسوبيات السياسية، جعلت من بعض المصانع المدانة مستمرة في عملها”.

وأضافت: “ليس هناك إرادة سياسية فعلية للتغيير والإصلاح، فالدولة مثلًا لا تعتمد مبدأ فرض الضرائب البيئية على المصانع الملوثة، أسوة بباقي الدول، وليس لديها أية استراتيجية أو خطة واضحة لتنظيم عمل المصانع بغية الحد من التلوث، كإصدار المراسيم لتطبيق القوانين ومحاسبة المصانع”.

الإصلاحات المطلوبة ودور المجتمع المدني للحد من التلوث البيئي على صحة النساء

إن التصدي لمشكلة التلوث البيئي الناتج عن المصانع، والحد من تأثيراته على النساء، يتطلب تنسيقًا متكاملاً بين السياسات الحكومية ومبادرات المجتمع المدني. وعليه، ومع الغياب شبه التام للإصلاح الحكومي، يبقى التعويل على المجتمع المدني.

هناك مبادرة باشرت بها نقابة الكيميائيين/ات العام الماضي، كنتُ قد شاركت بها شخصيًّا، تهدف لمراقبة عمل المصانع وإنشاء تقارير شهرية عنها، بغية إرسالها لوزارة الصناعة، ومراقبة آلية التنفيذ. ولكن، مع عدم تجاوب المصانع بشكلٍ كاف، بقي حضور هذه المبادرة خجولًا.

يؤثر التلوث الصناعي بشكلٍ سلبيٍّ مباشر على صحة النساء، لا سيما على صعيد صحتهن الجنسية والإنجابية، ما يقرع ناقوس الخطر للتحرك الفوري بإيجاد حلول بيئية فعالة، للحد من ملوثات المصانع، كتطبيق تقنيات التحويل البيولوجي أو الكيميائي للنفايات إلى مواد أقل ضررًا أو قابلة للاستخدام مرة أخرى.

ولكن الحل ليس بيئيًّا حصرًا، فلا حل شاملًا فعالًا دون الإصلاحات السياسية، بحيث تشكل الإصلاحات البيئية، الاجتماعية، والسياسية، حلقة متكاملة لا تتجزأ.

ومن منصتنا نطلق نداءً عاجلًا للاستفادة من دور وسائل الإعلام أيضًا، لكشف حالات التلوث، وحث الرأي العام، وبالتالي الضغط على الحكومة للتحرك. وندعو جمعيات المجتمع المدني لتنظيم حملات التوعية لمساعدة النساء على فهم حقوقهن الصحية والإنجابية.

كتابة: سالي جابر، باحثة وصحافية بيئية

 

أُنتِج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع “أصوات من الميدان”، لدعم الصحافة المستقلة في لبنان.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد