لأنني لم أجد أمًّا تحضن وجعي.. قررتُ أن أكونها

أتلقّى من أمي بين كل فترة وأخرى منشورات فيسبوك تُعبّر عن حب الابنة، وأخرى تُنادي بعدم ترك البنات/الأبناء لأمهاتهم/م لوحدهم/ن في الكِبَر، كردّ جميلٍ لمرافقة خطواتهم/ن المتعبة قبل الفرح. لكن واقع العلاقة التي أعيشها مع أمي يتناقض كليًّا مع مشاعر هذه المنشورات.

“أمي لا تحبني”.. الحب لا يؤذي

أشعر أن أمي لا تحبني، ولا أتقبّل وصف علاقتها بي بأنها “تحبك ولكن لا تعرف كيف تُعبّر”! فالمحب، مهما كانت لغة حبه، لن يدور حول الأذى.

استوعبت لاحقًا أن علاقة الآباء بالأبناء مؤطّرة بقوانين تقليدية وموروثات تُقدّس مفهوم العائلة، ومحدودة ببضعة مشاعر تتنافى، في بعض الأحيان، مع واقع هذه العلاقة. وتترسّخ تلك الصورة “النموذجية” من خلال ضغوط وسائل التواصل الاجتماعي، وتتعقّد الأمور أكثر حين نتناول قضية “الأم” في مجتمعاتنا العربية، التي تُقدّس تلك الشمعة التي “يجب أن تحترق في درب أبنائها”، وإلا فهي ليست أمًّا نموذجية. في حين أن أي نقدٍ لإعادة إنتاجها القمع الأبوي يُعدّ جريمة بحق “تضحياتها وذوبانها” في سبيل الأبناء “العاقين/ات”، وإنكارًا لـ”الوصايا الدينية” التي تعدها بأن الجنة تحت أقدامها.

أمومة تحت سلطة المجتمع

ترث الأم هذه التوصيات الأبوية، وتُنتزع عنها مجتمعيًّا “صفة الأمومة” إن لم تلتزم بها، لتصارع واجبات لا تقدر عليها كثيرٌ من النساء. لكني اليوم، وبعد 23 سنة من الحياة، أعلّق في هذا النص لأني بحاجة إلى أن أشكو المنظومة التي أنتجت أمي وجدتي وخالتي، وأشكو أمي التي استسلمت لمعايير هذه المنظومة، الظالمة بحقها وبحقي وبحق أختي معًا. ولم تكتفِ بالاستسلام والانصياع، بل أضافت “بهاراتها” الخاصة، لتتحوّل إلى أداة ضبط تمرّدٍ، لكسب ودّ المجتمع الذكوري على حسابي.

أكتب اليوم، دون أن أشعر بالذنب أو المسؤولية تجاه ظروفها التي لا يد لي فيها. أحتاج أن أستردّ حقي لأشعر بوجود أمٍّ حقيقية لي، مثل أي ابنة في هذا العالم القاسي: أمّ تؤدّي أولًا مسؤولية اتخاذ قرار الإنجاب، ولا تُغذّي ثانيًا دائرة العنف التي رَبَّت عليها بناتها، بكثيرٍ من الأذى.

لقد حطّمتُ آمال عائلتي في أن أكون ابنة صالحة ترضى بالقليل وتصمت على الظلم، وسط بيتٍ يحوي أخًا صعب المراس ويشكّل خطرًا عليّ وعلى أختي. فعائلاتنا غير معتادة على نموذج الابنة المتمردة، “الفاجرة”، التي ترفض ما هو “طبيعي” من وجهة نظر المحيط. عائلة ترى صراخ الأخ وتهديده وضربه لشقيقتَيه أمرًا طبيعيًّا. كما ترى سرقة أغراضنا طبيعية، وغيرته المؤذية من نجاحنا أمرًا طبيعيًّا، وتحكّمه بشبكة الإنترنت وساعات مشاهدة التلفاز والكمبيوتر طبيعيًّا.

“نبهت أبوكن وأخوكن إنو يحسّنوا استقبالك إنتِ وأختك؛ إنتوا ضيوف هالبيت وما بتطلّعوا منو زعلانين”.

كل هذه المواقف، رغم اختلاف شدّتها، كانت طبيعية في طفولتي، إذ إن جزءًا لا بأس به من ذكور الأقرباء والزملاء والجيران تمتعوا بحصانة مجتمعية تتيح لهم ضرب أخواتهم أمام الملأ، دون اكتراث من الأهالي، باعتبار ذلك أمرًا عاديًّا. والبنات كنّ خاضعات وجاهلات بحقوقهن، إلى درجة أن بعضهن كنّ يسردن مواقف العنف بطريقة تثير الضحك، مستمتعاتٍ بمغامراتهن العائلية. أنا واحدة من فتيات تلك المعمعة، لكنني كبرتُ رافضة، وغير قادرة على تجاوز لحظة من اللحظات التي طُرِدت فيها أو شُتِمت أو أُهِنت على يد أبي بسبب أخي ومشاكله، ووقوف أمي إلى جانبه بحجّة الحفاظ على راحته وخوفًا من عنفه.

“ضيوف هذا المنزل”: مشاعر الاغتراب في بيت العائلة

وضع الطبيب النفسي أمي في صورة حالتي، فردّت مدافعة: “اشكروا ربكن ما سمّحنالو يضربكن متل غير شباب حوالينا بيضربوا أخواتهن”، مبرّرة صدماتنا، ومضيفة أن “ضربات أبي لأخي” كانت أكثر من ضرباته لي ولأختي، وأن أمًّا عاملة لديها ثلاثة أبناء من غير المنطقي أن تستمع إليهن/م وتفرّق بين مخطئٍ أو مظلوم، فالمحاسبة للجميع، وتفتخر بحلّ كهذا!

علقت في ذهني منذ الصغر جملة منها: “نبهت أبوكن وأخوكن إنو يحسّنوا استقبالك إنتِ وأختك؛ إنتوا ضيوف هالبيت وما بتطلّعوا منو زعلانين”. أضحك ثم أبكي، أو العكس. اليوم لا مشكلة لديّ في أن أكون ضيفة ذلك المنزل بدلًا من ابنته. تضحكني الطريقة التي طبّقتها أمي في هذه النية. تختبر العديد من النساء شعور “الضيفة” في البيت الذي وُلدن فيه، عندما يُربّين على أن وجودهن فيه مؤقّت، وأن عليهنّ أن يتبعن المصير المرسوم لهن، ليصلن إلى بيت الزوج.

أمي نشأت كأصغر ابنة في منزلٍ ساحليٍّ مضياف، يستضيف الغرباء قبل الأقرباء في المناسبات الدينية وغيرها، وكانت النساء يقضين ساعات في الطبخ وإطعام الذكور الكثيرين، رغم الفقر الذي كان يضطرب في “زمنهم/ن الجميل”. تقبّلت أن الضيف أولى بالراحة من أفراد المنزل. لذا، كانت تعتقد أنها تُحسن الضيافة معنا، ابنتيها، قبل ذهابنا إلى “قبرنا الأبدي”، بيت الزوج.

تخطّت أمي رغبة عائلتها في دراستها الجامعية بدلًا من المعهد الذي مدته لا تتجاوز سنتين ولم يتجاوز حدود المحافظة. رفضوا بحجّة الفقر، لكنها أصرت. في زمن لم تكن فيه دراسة النساء رائجة، عملت أثناء الدراسة، وبدأت تُدخل المال بنفسها، وتُعطي نصف مرتبها لوالدها لتحسين الضيافة. ومع وفاة جدي وتوزيع الميراث، باتت أمي الملامة الأكبر، فوفقًا لعائلتها، “صرفوا على دراستها وحدها دون باقي إخوتها، فلا يحق لها أن ترث”، متذرعين بتفسيرات دينية استنسابية ذكورية حول ميراث البنات.

منحة مشروطة وحق مسلوب

في مجتمعٍ غارقٍ بازدواجية تتغيّر حسب المصالح، تزداد فرص تزويج الموظفة ذات الراتب، لمساعدة الزوج. غرقت أمي مجددًا في دوامة الانصياع تحت سلطة الذكر – أبيها – الذي تسلّم راتبها بإرادتها، ورفض أن يستمع لنصائحها المالية بحجة “أنه ليس ممن تسيرهم امرأة”، محوِّلًا وضع المنزل المادي إلى الحضيض.

لم أختبر من أمي عناقًا غير مشروطٍ أو شعورًا بأنها تسألني: “لماذا تبكين؟ هل أنتِ بخير؟”

واليوم، تطالبني أمي بالعودة إلى المنزل وترك الدراسة لتوفير المصاريف، بحجة الحرب السورية والأزمة الاقتصادية. وبما أنها عاجزة عن إلزامي ماديًّا – كوني لا أمتلك راتبًا وأدرس في فرعين جامعيين لا يتيحان لي العمل الثابت – تُحيط بي من كل جانب، محاولةً التحكم بأي مبلغٍ أربحه من عملي الحر، معتقدةً -بقناعة- أن لأبي ولها حقّ السيطرة عليّ: كيف أنفق، وما هي الأولويات، وكم عليّ أن أريحهما من مصروفي، وكم “واجب ردّ الجميل” ينتظرني بعد التخرّج. وهي لا تقتنع حتى أن هذه “هبة” تقتصر على مصاريف الطعام، متجاهلة أنني بحاجة إلى مشتريات وخدمات ليست الأكل فقط، كأي إنسان/ة. لذا، اضطررتُ إلى إخفاء أي مبلغ أربحه من عملي الحر، وأي فرصة تساعدني في مصروف الدراسة.

لم تحدثني أمي يومًا؛ كانت تُفسّر حواري معها حين أطلب وقتًا يخصني وحدي بأنه “رغبة في التميّز عن إخوتي”. لم أشهد يومًا سهرها على مرضي مثل إخوتي، ولم أختبر عناقًا غير مشروطٍ أو شعورًا بأنها تسألني: “لماذا تبكين؟ هل أنتِ بخير؟”، بل كان وجه البكاء يُقابَل دائمًا بالتّوبيخ.

“إجيتي بالغلط، ما كان بدنا نجيب ولد ثالث، بس إجيتي، شو نعمل؟”

اليوم أبلغ الثالثة والعشرين، ماضيةً بين فضاء الألم وبناء حياة جديدة. أجالس خوفي يوميًّا، أحتضنه وأشتمه أحيانًا. أتفكّر في كل ما مررتُ به، وأرى كم عزّزت البيئة إضعاف الاستحقاق الذاتي، وكيف زرعت أمي هذا الإضعاف، مقنعة إيّاي منذ الصغر أنني الطرف الملام في أي علاقة، مهما كان الطرف الآخر مخطئًا ومهما كان سيئًا بنظرها. هي اليوم ترى وجودي مشروطًا بقبولي، وقبولي مشروطًا بالموافقة على ما يفرضه المحيط، كي لا أُترك وحيدة. ومهما بلغت شدة الأذى، عليّ أن أضحّي بالكثير من الحدود التي أرغب في بنائها، كي لا يمتنعوا عني، فـ”الحدود معقّدة”، والرفض “قلّة أدب”. كما أن مشاركتي لأي مشكلة تعترضني باتت مستمسكًا تستخدمه لتشمت بي لاحقًا.

لا تعرف أمي أنني أسعى جاهدةً للتحرّر من الانتماء لأي جماعة تتصوّرها، وأنه لا مشكلة لديّ في خسارة أشخاص لا معنى لوجودهم/ن في حياتي، سوى تغذية الضغط والألم. لا تعلم أنني مستعدة لكل خطوة تساعدني على الابتعاد عنها وعن منزلها إلى أبعد نقطة في الكرة الأرضية.

سألتُ أمي أيام المراهقة: “لِمَ أنجبتِني؟” فردّت ساخرة: “شو؟ على كيفي! مفكرة الشغلة بس فيني أنا أو أبوكي؟ ما في أهل؟ ما في مجتمع بيجبرك تخلفي؟ لسا بدك كتير لتفهمي الحياة!” ينتهي الحوار باستنكاري لما تقول، فأتحمّس وأعلن أنني لن أنجب، فتزيد سخريتها لتعزّز قدرتها على إفشال ما لم تستطع هي إفساده.

عندما كبرت أختي، طرحت عليها السؤال نفسه بعد خذلانها من المنزل السام، فأجابتها فورًا: “إجيتي بالغلط، ما كان بدنا نجيب ولد ثالث، بس إجيتي، شو نعمل؟”

أنا اليوم أعيش ساخطة وسط منظومة غارقة بأحكام ذكورية ترى الأمهات وسيلةً لترسيخها عبر التربية. أُصارع وحدي حاجتي إلى أمٍّ حقيقية وبيئة داعمة، تتضمّن ذكورًا لا يشبهون النمط البشع الذي اختبرته. أحاول ترميم أخطاء أمي وكسر مساعيها في تنشئة فتاة راضخة مثلها. أتمسّك بقواي محاولةً الوقوف بجانب أختي المنهكة هي الأخرى، رغم إخفاقاتي أحيانًا. أعلم أنني لن أتزوّج هربًا من المنزل، وأني لن أنجب طفلًا/ة أقترض من أجل تربيته/ا – مشاعر ومصاريف – ثم أُطالبه/ا بردّها لاحقًا.

سأبتعد عن كل من وما يؤذيني، ولن أترك دراستي استسلامًا للظروف. لن أتردّد في قول “لا” لمن يعتدي على راحتي. لن أسمح بضربي مجددًا. سأكوّن صداقات، أُحب، وأعمل بشروطي. ولن أردّ على منشورات أمي التي ترسلها لي حرصًا على ردّ واجباتٍ والدية، تعتبره ووالدي “جميلًا”. أدرك الآن أن لا خيار لي سوى أن أكون أمًّا لنفسي اليتيمة، بكل طاقتي. طاقةٌ لا تقوى ولا تشتدّ دون أن تجرؤ على فعل “التخلّي”.

كتابة: حنين منصور

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد