في العراق.. كابوس الحضانة يفتك بصحة النساء النفسية والجنسية

استفاقت شيماء (اسم مستعار، 30 عامًا- بغداد) ذات صباح على ألمٍ حادٍّ في أسفل بطنها. تقول بصوتٍ حزينٍ عبر اتصالٍ هاتفي في تطبيق واتساب:

“العيادة النسائية لا تفتح إلا مساءً، لم أترك مسكن ألم أو عشبة طبية إلا وجربتها”.

“ناقشت الأمر مع طبيبتي النسائية، وأخبرتني أن الالتهاب يرتبط أحيانًا بالحالة النفسية السيئة”.

حين وصلت أخيرًا إلى العيادة، استأذنت المراجعات لتدخل إلى الطبيبة قبل الجميع. تفاجأت بتشخيص إصابتها بالتهاب في بطانة الرحم.

تقول: “ناقشت الأمر مع طبيبتي النسائية، وأخبرتني أن الالتهاب يرتبط أحيانًا بالحالة النفسية السيئة”.

تشير شيماء إلى أنها مطلّقة منذ عامين، ولديها طفلتان من زواجها السابق، وتعيش خوفًا مستمرًا من فقدان حضانتهما بسبب القوانين الجديدة.

تضيف: “أنا مرعوبة، أتابع الأخبار طوال الوقت بخوفٍ وترقب، وأفكّر ماذا سيحدث لو خسرتهما”.

بين نوبات الألم الجسدي والقلق النفسي، تجد شيماء نفسها عالقة في دائرة من الخوف الذي ينعكس على صحتها، في وقت تفتقر فيه العديد من النساء المطلقات إلى دعم ٍنفسي وطبي كافٍ لمواجهة هذه التهديدات القانونية والاجتماعية.

“أنا مرعوبة، أتابع الأخبار طوال الوقت بخوفٍ وترقب، وأفكّر ماذا سيحدث لو خسرتهما”.

تعيش معظم النساء المطلقات في العراق تحت ضغطٍ نفسيٍّ وأزماتٍ متواصلة منذ عام 2021، أي منذ طرح تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 في البرلمان العراقي.

وبحسب إحصاءات المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان، سُجلت 357,887 حالة طلاق خلال أربعة أعوام في البلاد، ما يكشف حجم الشريحة المتأثرة بهذه التعديلات والقوانين المقترحة.

في هذا التحقيق، نسلط الضوء على أوضاع النساء النفسية والصحية والجنسية، لنكشف التأثيرات السلبية العميقة التي خلّفها الجدل القانوني والخوف من سحب حضانة الأطفال، وكيف انعكس ذلك على صحتهن الجسدية والنفسية.

“أنا أُذبح كل يوم”: الأمهات بين تهديدات الآباء ومجتمعٍ لا يرحم

بين نقاشات البرلمان، المسودّات القانونية، والمدوّنات الإلكترونية التي تتداول خبر التعديل المقترح، تقول ديما (33 عامًا- بغداد) إنها تعيش أصعب أيام حياتها. تصف روتينها اليومي بهذه الكلمات:

“لا أستطيع الذهاب إلى العمل، أقضي اليوم كله في الفراش أتصفح الأخبار وأشارك المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي وأترقب الجديد. هذا حالي منذ عامين”.

“ابنتي الصغيرة ذات العشر أعوام تسألني باستمرار: أمي، هل سوف تتركيني؟ أخبرني أبي في آخر مشاهدة أنه سوف يأخذني منك بالقانون”.

تضيف وهي تتحدث عن حياتها العاطفية:

“الوضع النفسي والخوف المستمر يرافقني منذ شهور. حتى أنني انفصلت عن خطيبي بعد علاقة حب استمرت سنة، لأن هناك احتمال أن الأم تُسحب منها حضانة أطفالها بعد زواجها”.

أما صحيًا، فتشير ديما إلى “أنها بدأت تعاني من اضطرابات جسدية واضحة، قائلة: من انقطاع الطمث، وخلل في الهرمونات وسمنة مفرطة بوزن ثابت”.

“طليقي يهدد ابنتي: سوف أربيكِ أنتِ وأمكِ بالقانون، أو أدعس على رأسكما”.

ثم تجهش بالبكاء فجأة، وتقول بصوتٍ مخنوق: “أنا أُذبح كل يوم، أتخيل أبنائي بأيادٍ غير أمينة، أو يتصور عقلي لحظة سلب أطفالي، وابنتي الصغيرة ذات العشر أعوام تسألني باستمرار: أمي، هل سوف تتركيني؟ أخبرني أبي في آخر مشاهدة أنه سوف يأخذني منك بالقانون”.

وتعيش رونق مأساة مشابهة لمآسي الأمهات اللواتي سبق ذكر قصصهن، إذ أوضحت أن طليقها يتصل بأطفالهما الثلاثة بحجة الاطمئنان عليهم/ن، لكنه في الحقيقة يهددها بسحبهم/ن منها بأسلوبٍ استفزازي ومهين. تقول: “في كل مرة يتصل، يلوّح لي بأخذهم/ن، ويستفزني عمدًا كي أخطئ وأخسرهم/ن أمام القانون”.

وتابعت ناقلةً بعض كلماته الجارحة لابنتها الكبرى. يقول لها: “سوف أربيكِ أنتِ وأمكِ بالقانون، أو أدعس على رأسكما”.

وقالت بأسى: “أشعر أنني أعيش وفي عنقي حبل يشده متى شاء، حتى الإهانات لا أستطيع ردها خوفًا أن يعود ذلك بضرر على أطفالي. نعيش هذا الحال منذ خمس أعوام وسننتظر إلى أن يكملوا أولادي سن البلوغ”.

تختتم: “أدفع هذا التحمّل من نفسيتي وشعري المتساقط والتجاعيد التي ملأت وجهي بعمر الشباب”.

أمهات العراق بين فقدان الحضانة والعنف الأسري

ترصد المدافعة عن حقوق المرأة والقانونية، إسراء سلمان، العديد من الحالات لنساء يلجأن إليها بسبب ما يتعرضن له من أزمات نفسية وضغوط متراكمة. وأوضحت أن كثيرًا منهن يرسلن لها رسائل يومية مليئة بالبكاء والانهيار، مؤكدات أنهن في حالةٍ نفسيةٍ سيئة للغاية.

وأضافت سلمان: “القانون الحالي لا يضمن سلامة النساء، بل يهددهن، ويجعلهن في حالة قلقٍ دائم، خاصة مع ازدياد حالات العنف الأسري في السنوات الأخيرة، حيث شهدنا رجالًا قتلوا أبناءهم/بناتهم بعد أن سُلبت الحضانة من أمهاتهم/ن”.

وأكّدت أن النساء اليوم يواجهن أزمتين متداخلتين؛ الأولى هي الخوف من فقدان أطفالهن، والثانية هي التعرّض للتعنيف، لا سيما أن بعض الأطفال حين يذهبون لمقابلة آبائهم ضمن نظام المشاهدة، يعودون إلى أمهاتهم بحالةٍ نفسيةٍ سيئة، بسبب ما يتعرضون له من انتقامٍ عاطفيٍّ من الآباء، الذي يستخدم الطفل/ة وسيلة للضغط على الأمهات.

واستطردت: “الخوف الحالي لدى الأمهات لا يقتصر على فقدان الحضانة فقط، بل تطور ليصل إلى الخشية من أن يُقتل الطفل/ة، أو يُهمل، خصوصًا أن كثيرًا من الآباء لا يتفرغون لأطفالهم لانشغالهم بالعمل. وعلى العكس، نجد أن الأمهات –حتى وإن كنّ عاملات– يحرصن على توفير الحماية والرعاية الكاملة لأطفالهن، وهذه سجية الطبيعة”.

وأشارت سلمان إلى أن الأصوات التي تطالب بتعديل المادة (57) من قانون الأحوال الشخصية لا تمثل الأمهات، بل كثير منها مدعوم من صفحات ومنصات تابعة لأحزاب سياسية، تنشر بشكلٍ متكررٍ منشورات تهدد بسلب الحضانة من الأمهات، دون الحديث عن توفير أي حماية أو دعم لهن.

وتابعت: “هذا التهديد لا يُشكّل مجرد جدلٍ قانوني، بل هو ضغط نفسي واجتماعي هائل على النساء. اليوم، النساء يعملن، ويُعلن أبناءهن/بناتهن، وفي كثيرٍ من الأحيان لا يحصلن حتى على نفقة عادلة من الأب، أو لا يحصلن عليها أصلًا، ما يجعل العبء مضاعفًا عليها”.

واختتمت بالقول: “بدلًا من أن يوفر القانون حماية حقيقية للمطلقات، أصبح يضعهن في دوامة قلقٍ دائم. بعض النساء بدأن يتقبلن العنف، ويتعايشن معه فقط من أجل الحفاظ على أطفالهن. وهذا خطر كبير، لأنه يطبع العنف داخل البيوت ويجعل من الصعب كسره لاحقًا”.

وفي الشأن ذاته، تقول القانونية إسراء الخفاجي موضحة، بحسب ما ورد من المجلس العلمي، فإن “الإجابة قد وصلت بالفعل أن الحضانة للآباء، غير أن المدونة القانونية لم تنشر حتى الآن”. ووفقًا لما أوضحته القانونية، فإن “المحاكم العراقية في الوقت الحالي تعتمد على الاجتهادات القضائية وتقدير القضاء في تفسير المواد لحين صدور التعديلات بشكلٍ رسمي. ومن المتوقع أن يتم نشر المدونة بعد انعقاد البرلمان العراقي من جديد، وذلك عقب الانتهاء من الانتخابات المقبلة، حيث يتطلب الأمر تصويتًا برلمانيًا لإقرارها واعتمادها بشكلٍ رسمي”.

وأضافت أن “بعض الأزواج يحق لهم أن يتم تغيير عقد الزواج من المذهب الجعفري أو إلى المذاهب الجعفرية الأخرى، وقد استلمت بعض النساء مذكرات من المحكمة بذلك، ويبقى الأمر اجتهادات قاضي”.

وتؤكد القانونية أن “الأمهات في الوقت الحالي يعشن فترة قلق وتعقب للأخبار لم يشهدنها من قبل”.

الأمومة تحت القلق: الصحة على المحك

من ناحيتها، قالت الدكتورة نور علي إن “عدم استقرار الحالة النفسية لدى النساء قد يؤدي إلى اضطراباتٍ هرمونية خطيرة”، موضحة أن “التوتر المزمن والحزن الشديد يرفعان مستويات هرمون الكورتيزول في الجسم، ما يؤدي إلى خلل في توازن الهرمونات الجنسية مثل الإستروجين والبروجستيرون”.

وتابعت: “الضغط النفسي لا يقتصر تأثيره على الهرمونات فقط، بل يمتد إلى الغدة الدرقية أيضًا، حيث يمكن أن يسهم في الإصابة بقصور الغدة الدرقية أو فرط نشاطها، وهما حالتان تسببان أعراضًا مثل التعب، الاكتئاب، القلق، اضطراب الوزن، واضطرابات الدورة الشهرية”.

وأكدت أن “صحة النساء النفسية والجسدية مترابطة بشكلٍ وثيق، وأن ضعف الحالة النفسية يضعف جهاز المناعة، ما يجعلها أكثر عرضة للالتهابات المهبلية والفطرية والفيروسية، مثل الهربس التناسلي”، مشددة على أن “هذه الالتهابات قد تتكرر أو تزداد سوءًا مع استمرار التوتر”.

وتابعت نور علي إن “الضغط النفسي المزمن والحالة النفسية السيئة يؤثران بشكلٍ ملحوظ في صحة النساء الإنجابية، خصوصًا في ما يتعلق بحجم الألياف الرحمية والدورة الشهرية”. وأوضحت أن “الألياف الرحمية هي أورام حميدة تنمو في عضلة الرحم، وتعتمد بشكلٍ كبيرٍ على الهرمونات الأنثوية، مثل الإستروجين، في نموها وزيادة حجمها”.

وأضافت أن “التوتر الشديد يرفع مستوى هرمون الكورتيزول في الجسم، ما يؤدي إلى خللٍ في التوازن الهرموني العام”. وبينت أن “هذا الخلل قد يحفّز نمو الألياف لدى النساء اللواتي لديهن استعداد مسبق، أو يؤدي إلى زيادة حجمها بمرور الوقت”، لافتة إلى أن “التوتر لا يسبب ظهور الألياف من العدم، لكنه قد يزيد نموها أو يزيد أعراضها سوءًا”.

وتابعت: “الحالة النفسية المضطربة لا تؤثر فقط على حجم الألياف، بل تنعكس أيضًا بشكلٍ مباشر على انتظام الدورة الشهرية. فالضغط النفسي قد يسبب تأخر الدورة أو انقطاعها، ويزيد من غزارة النزيف عند النساء المصابات بالألياف، كما قد يؤدي إلى آلام شديدة أثناء الطمث نتيجة التشنجات العضلية وتغيرات الهرمونات”.

وأكدت الطبيبة أهمية العناية بالصحة النفسية للنساء كجزء أساسي من الرعاية الصحية العامة، مشيرة إلى أن السيطرة على التوتر والحصول على دعم نفسي مناسب يساهم في استقرار الهرمونات، ويخفف من مشكلات مثل اضطراب الدورة الشهرية أو زيادة أعراض الألياف الرحمية، وهو ما ينعكس في النهاية على صحة المرأة وجودة حياتها.

زواج الأم كابوس قانوني يهدد حضانة أطفالها

أشارت الناشطة في مجال حقوق الإنسان، إنسام سلمان، إلى “معاناة عددٍ كبير من الأمهات المطلقات اللواتي تزوجن مرة أخرى، حيث يواجهن تهديدًا حقيقيًا بفقدان حضانة أطفالهن في حال قيامهن بتوثيق الزواج الجديد رسميًا في المحكمة”.

وأضافت أن “هذا الوضع القانوني يدفع الأمهات إلى العيش في حالةٍ من القلق الدائم والضغط النفسي، حيث لا يستطعن ممارسة حياتهن الزوجية بشكلٍ طبيعي، كما يُصبحن عرضة للابتزاز أو المساومة من بعض الآباء، سواء بتهديدهن بالحضانة أو التشهير بهن”.

واستطردت سلمان: “وصلتنا الكثير من الحالات التي عبّرت فيها الأمهات عن شعورهن بأن الحضانة لم تعد حقًا، بل أصبحت كابوسًا يرافقهن ليلًا ونهارًا. النساء اليوم، وبدل أن يعشن الاستقرار، أصبحن يعشن صراعًا يوميًا بين الأمومة والحق في الحب والحياة”.

وأشارت إلى أن “هذه المعاناة تؤثر أيضًا على الجوانب النفسية والعاطفية للنساء”، وتابعت قائلة: “بعض النساء يفقدن القدرة على الاستمتاع بالحياة، سواء من الناحية العاطفية أو الجنسية. كما أن الإهمال الذاتي بدأ يزداد، فتركيزهن ينصب فقط على الحضانة، ما ينعكس سلبًا على علاقاتهن مع أزواجهن أو عائلاتهن أو حتى في محيط العمل”.

وأكدت سلمان أن “حل هذه الأزمة لا يقتصر على تعديل القوانين فقط، بل يحتاج إلى دعم نفسي ومجتمعي حقيقي، داعية إلى ضرورة توفير استشارات متخصصة للنساء المتضررات”.

وفي الشأن ذاته تقول رينا علي، أم لثلاثة أطفال: “حتى رفاهية العلاج النفسي غير متوفرة في العراق لأسباب عدة، أولها وصمة مجتمعية أو يُنعتن بالمجنونات”.

وتضيف أنها “عالجت نفسها في تركيا وخضعت لجلساتٍ عدة لتتخلص من التوتر النفسي الذي رافقها، وقطع دورتها الشهرية”، مؤكدةً “عودة الكابوس فور انتهاء الجلسات النفسية التي تلقتها العام الماضي”.

يزورها الكابوس كلما غفت أجفانها: “طليقي يأخذ أطفالي مني ويقتلهم/ن”!

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد