خلف ستار الصمت: توثيق حالات خطف نساء علويات في سوريا

بالنظر إلى تعقيدات المشهد السوري اليوم، لا يبدو الحديث عن خطف النساء مجرّد حادث فردي أو ظرف استثنائي، بل يتجاوز ذلك إلى نمطٍ ممنهجٍ من الانتهاكات التي تُرتكب في العلن والظل، ويغلفها الصمت، والتشكيك، والنفي الرسمي.

فبينما كانت السلطات منهمكة بإطلاق “هويات بصرية” للدولة، كانت النساء تُخطف من الشوارع، وتُخفى قسرًا، وتُعاد أحيانًا في ظروف مشبوهة، دون أي توضيح من الجهات المعنية. بل غالبًا ما يُواجه الأهالي بالاستخفاف، أو بعبارات جاهزة عن “هروب طوعي” أو “روايات كاذبة”.

وفي ظل التعتيم الإعلامي والتهديدات المجتمعية، تغيب عشرات النساء دون أن يُذكرن، ولا يُبلّغ عن اختفائهن خوفًا من الوصمة، أو انتقام الأجهزة، أو ببساطة… لأنهن نساء.

هذه المادة هي تتمة لتحقيق: “والله أختي مخطوفة”.. خطف النساء العلويات بين الإنكار والتواطؤ.

كم سلوى في سوريا؟

مؤخرًا، نشرت ناشطة سورية عن حالة خطف سلوى ابراهيم غزول (38 عامًا) وهي امرأة متزوجة تنتمي للطائفة العلوية، وتسكن في قرية المختارية مع زوجها وعائلتها.

نقلت الناشطة عن أحد معارف سلوى أنّ زوجها قُتل في مجزرة المختارية في آذار ولديها خمس أطفال، لينتشر الخبر على وسائل التواصل الاجتماعي، ما دفع أهلها للتواصل، يطلبون حذف المنشور بسبب معلومات مغلوطة إذ أن زوجها على قيد الحياة ولديها أربع أطفال وليس خمسة، وهي ليست مخطوفة وإنما معتقلة وسيعينون لها محامي قريبًا.

بعدها تواصلت “شريكة ولكن” مع الناشطة التي أكدت بدورها أنها تواصلت مع أحد أقاربها بعد التأكد من قرابته بها. وقال أن الاتصال مع سلوى فُقد في حي المهاجرين قرب دوار العباسية في مدينة حمص، وآخر اتصال معها عندما كانت قرب مدرسة سيمون العيسى، ولولا معارف قريبها لكانوا فقدوا أثرها إلى الأبد. ولكن استطاعوا التوصّل إلى حقيقة أنها مسجونة، وأنها تعرضت للتعذيب في أول يوم من سجنها، وحالتها النفسية سيئة جدًّا، ومُنِعوا/ن من زيارتها، ومحاميها أخبرهم/ن أنها ستخرج بعد فترة، ولكن لا شيء مؤكّد بعد.

جديرٌ بالذكر أنّ زوجها اعتُقل لدى الأمن العام وخرج قبل اختطافها/ اعتقالها. علمًا أنه لا يمكن اعتبار سلوى معتقلة، إذ فُقدت من الشارع دون إبلاغ عائلتها بمكانها، دون مذكرة من النيابة، ودون تهمة واضحة، بالإضافة إلى منع أهلها من زيارتها.

والصادم أكثر أنّ تاريخ الاختطاف هو 13 آذار/ مارس 2025، ولم ينشر أحد عن فقدانها أبدًا حتى بداية الشهر السابع، أي بعد حوالي ثلاثة أشهر! ويفرض السؤال نفسه؛ كم من سلوى أخرى لا يجرؤ أهلها على القول أنها مفقودة؟

أم سنية تطالب بإعادة ابنتها العلوية

وسط الانشغال العام بالتحضير لاحتفالات إطلاق الهوية البصرية، خرجت بانا هشام خضور (16 عامًا) إلى بقالية قريبة من منزل عائلتها على أوتوستراد كرتو في ريف طرطوس، وذلك في 4 تموز عند الساعة الرابعة عصرًا.

عند الساعة الخامسة والنصف، تواصلت بانا مع والدتها وقالت: “لا تخافوا عليّ، رايحة عطرطوس لعند رفيقتي، يومين وبرجع”. إلا أن العائلة لم تصدق هذه الرواية، نظرًا لأن بانا لا تملك صداقات قريبة بهذا الشكل، ومن غير الممكن أن تسافر أو تبيت خارج المنزل دون إذن مسبق.

“أنا سنيّة متلكن، أنا عايشة بين العلويين/ات، والله بحياتي ما شفت منهم شي، ليه خطفتولي بنتي؟”

توجّه الأهل إلى براد عياش للخضار وراجعوا كاميرات المراقبة، حيث ظهر مقطع فيديو يُظهر اختطاف بانا من قِبل سيارة بداخلها أشخاص مسلحون، وقد تم توثيق رقم السيارة ونوعها وتقديم شكوى رسمية.

بعد بضع ساعات من اختفائها، تواصلت بانا مع عائلتها عبر مكالمة فيديو، وظهرت بجانبها فتاة قالت إن اسمها “مريم” وادّعت أنها صديقتها. غير أن والدة بانا أكدت للناشطة أن العائلة لا تعرف هذه الفتاة مطلقًا، ولم تسمع باسمها من قبل. ظهرت على بانا علامات الخوف والارتباك الشديد، وأكّدت والدتها أن ابنتها ليست بخير، علمًا أن بانا نزحت مؤخرًا من قرية المحروسة بريف حماة.

“ليزا كانت مخطوفة في إدلب، غالبًا من البدو… كان هناك مفاوضات طويلة مع الخاطفين”.

وفي اليوم ذاته، تعرضت الشابة ليزا محمد إبراهيم (19 عامًا) للاختطاف على يد عصابة مسلّحة مكوّنة من ثلاثة أشخاص، أحدهم مبتور اليد، وذلك أثناء زيارتها مع شقيقها لمقام ديني في قرية رأس العين بريف جبلة. حاول شقيقها الدفاع عنها، لكنهم اعتدوا عليه بوحشية وضربوه على رأسه حتى سالت دماؤه، ثم اختطفوا ليزا أمام ناظريه.

في نداء مؤلم، ناشدت ناريمان، والدة ليزا، في مقطع مصوّر قائلة: “أنا سنيّة متلكن، أنا عايشة بين العلويين/ات، والله بحياتي ما شفت منهم شي، ليه خطفتولي بنتي؟”. في مشهد يُظهر بوضوح الطابع الطائفي الخطير لهذه الجرائم.

من نصدق؟

يقرع خطف ليزا جرس الإنذار لحالات خطف فتيات ونساء علويات، وهو نقطة تحوّل فارقة في عمليات الخطف. عدا عن أنها خُطفت من داخل حرم مزار ديني، فقد تم اختطافها رغم مرافقة شقيقها لها. إذ أصبحت مرافقة الأخ أو الأب ضرورية بعد موجات الخطف، بسبب خشية الأهالي على بناتهم/ن. ولكن بعد خطف ليزا، ماذا على الأهل أن يفعلوا لحماية بناتهم/ن؟

وبما أنّ عملية الخطف هذه وقعت في وضح النهار وعلى مرأى من شهود عيان، وكان أحد الخاطفين مبتور اليد، فقد اشتُبه -بناءً على روايات الشهود- بمسؤولية أحد القياديين العسكريين في “الجيش السوري الجديد”. نامت ليزا ليلتها خارج منزلها، لتعود في اليوم التالي مرتديةً جلبابًا أسود وتبدو مرهقة، دون أي توضيح عن هوية الخاطفين أو كيفية تحريرها.

“والله والله والله لا يوجد أي حالة خطف للنساء”.

أنس عيروط، عضو لجنة السلم الأهلي.

جدّد السوريون/ات مطالبهم/ن بتحديد الجناة ومعاقبتهم وفق القانون، لأن بقاء الخاطف حرًا طليقًا لا يعني سوى استمرار الخطف، وربما التشجيع عليه. سوى القليل الذي أفصح عنه أحد الصحافيين: “ليزا كانت مخطوفة في إدلب، غالبًا من البدو… كان هناك مفاوضات طويلة مع الخاطفين”.

ثم عرض الصحافي شهادة أخرى لوالد طالبة بكالوريا في طرطوس، خرجت لتقديم امتحان الشهادة الثانوية، ثم خُطفت ونُقلت إلى جبلة. وهناك، على أحد الحواجز، كان هناك استنفار أمني وتشديد. استغلت الفتاة ارتباك الخاطفين وهربت إلى الناس والحاجز، وشكر والدها “أبو أنس والشباب”. لكن السؤال نفسه يعود من جديد: أين الخاطفون؟ أين الجناة؟ خصوصًا أن هروب الفتاة من خاطفيها حدث على مرأى حاجز الأمن العام، كما هو واضح في رواية الأب.

بعد كل ما سبق، خرج أنس عيروط، عضو لجنة السلم الأهلي التي عيّنها الرئيس أحمد الشرع، وهو من الساحل السوري، على شاشة الإخبارية الرسمية مساء الخامس من تموز، قائلاً:

“والله والله والله لا يوجد أي حالة خطف للنساء”.

انهيار عصبي لعائلات المخطوفات

بعد نفي المتحدث باسم وزارة الداخلية، أنور البابا، وجود أي حالات خطف للنساء العلويات، واصفًا ما يُنشر في هذا السياق بأنه “مجرد إشاعات وروايات كاذبة”، والشيخ أنس عيروط الذي قال: “والله لا يوجد خطف للنساء العلويات”، أكدت الصحافية هدى أبو نبوت أنها وثّقت خلال الشهر الماضي خمس حالات لنساء وفتيات عدن إلى ذويهن بعد نشر أخبار اختفائهن، دون تقديم أي تفاصيل حول أسباب اختفائهن أو ظروف عودتهن، وتلقّت من العائلات رسالة مقتضبة: “شكرًا لجهودكم، عادت بخير”، دون مزيد من المعلومات.

وخلال متابعتها لقضية المخطوفات، أكدت أن شهد موسى من طرطوس لا تزال مختفية، وأن والدها تعرّض لانهيار عصبي مع استخفاف من الأمن العام في متابعة القضية، وما زالت مختفية حتى الآن.

أما جهينة عبد الكريم، التي اختفت مع طفلتها سيلينا النقري في مدينة حمص، فقد أرسل زوجها إلى هدى آخر رسالة كتب فيها: “حسبي الله ونعم الوكيل”. لم تستجب أي جهة أمنية لمناشداته، ولا يزال مصيرهما مجهولًا.

وبالنسبة للسيدة زينب نصر دياب، التي اختفت منذ شباط/ فبراير الماضي في مدينة حماة، فقد أفاد زوجها بأنه تلقى اتصالًا أُبلِغ فيه بتزويجها قسرًا في إدلب، وهدّده المتصلون بأن أي محاولة للبحث عنها ستعرّض أولاده للأذى. وهي أم لثلاث بنات وصبي، وقد غادر الزوج القرية منذ ذلك الحين، ومنذ ذلك التاريخ فُقد الاتصال به. كما ظهرت والدتها في فيديو أوضحت فيه أن ابنتها اتصلت من رقم إماراتي وقالت إنها “لا تعرف أين هي”.

تتعالج خارج سوريا من إصابات تناسلية

في العاشر من تموز، نشرت “دويتشه فيله” تحقيقًا مرعبًا يثبت تعرّض نساء علويات للخطف والاغتصاب. إحدى الحالات كانت نورا، التي اعترض طريقها رجال ملثمون ومسلحون خرجوا من سيارة تحمل لوحة تسجيل تابعة لمحافظة إدلب. سألها الخاطفون عن خلفيتها الدينية، وعندما أجابت بأنها علوية، جروها بعنف إلى السيارة وعصبوا عينيها. وفق روايتها: “كنت أتعرض يوميًا للشتم والضرب المبرح حتى أفقد الوعي”.

انتُزع طفلها منها، وحاول الخاطفون إجبارها على توقيع أوراق تبيّن لاحقًا أنها عقد قران على شخص لا تعرفه. وتتابع نورا: “بالطبع رفضت، فأنا متزوجة، وعندما رفضت أمعنوا أكثر في تعذيبي”. وقد ظهرت في صورة بندوب على وجهها، وحواجبها محلوقة.

في الوقت نفسه، كان الخاطفون يرسلون صور نورا تحت التعذيب إلى عائلتها للضغط عليهم وإجبارهم على دفع فدية. وفي النهاية، دُفعت الفدية وخرجت نورا من الاحتجاز. وهي الآن تعيش خارج سوريا في أمان وتتلقى علاجًا طبيًا لإصابات والتهابات في أعضائها التناسلية. تتطابق قصة نورا (الاسم المستعار) بشكل كامل مع قصة المختطفة حلا نورس إبراهيم.

وورد في تحقيق “دويتشه فيله” شهادة شقيق المخطوفة إيمان (اسم مستعار)، حيث قال إنه عندما ذهب لإبلاغ الأمن العام باختفاء شقيقته في محافظة طرطوس، جاءه الجواب بأن المنطقة آمنة، وبالتالي “لا بدّ أنها هربت مع عشيقها”.

دورة “ميك اب”

بعد توثيق “رويترز” لاختطاف زينب غدير الذكرى (17 عامًا) من بلدة الهنادي في اللاذقية، وتهديدات الخاطفين، وسماع الأهل صراخ ابنتهم القاصر وقولها لهم إنها لا تعرف مكان تواجدها، عادت واستقبلها الأهل بحفاوة.

ثم ظهرت في مقطع فيديو نفت فيه تعرضها للاختطاف، وقالت إنها ذهبت لتسجيل “دورة ميك أب” دون علم أهلها، وبقيت على هذه الحال أربعة أشهر حتى قررت أخيرًا العودة لأهلها.

بغض النظر عن ارتباطها، وارتجاف صوتها، ونظراتها المتوترة يمينًا ويسارًا، وابتسامتها المصطنعة – إذ لم تشارك فيها الحواجب وبقية عضلات الوجه – فإنّ تناقض تصريحاتها مع إفادة والدها، الذي أشار إلى سماع أصوات صراخ خلال اتصال معها، إضافة إلى تلقيه اتصالًا من شخص وصفه بـ”الخاطف”، وأن ابنته طلبت المساعدة قائلة: “ساعدوني”، يطرح الكثير من الأسئلة، فإذا كانت زينب تملك هاتفها، فلماذا لم تتواصل مع أهلها؟ ومن هو الشخص الذي تواصل معهم وهددهم؟

الإمساك بخاطف بالجرم المشهود!

خرج أنس عيروط، عضو لجنة السلم الأهلي المنحدر من بانياس، مساءً على الإخبارية ليقسم أغلظ الأيمان بعدم وجود حالات خطف للنساء، وفي ظهر اليوم التالي وقعت محاولة خطف في حي العريض في مدينة طرطوس استهدفت فتاتين تبلغان من العمر ١٤ سنة. إذ رأى الأهالي شخصين على متن سيارة “سانتافيه” فضية تحمل لوحة إدلب. تمكنت الفتاتان من الفرار والاحتماء داخل متجر مجاور، حيث ساعد الأهالي في القبض على أحد الخاطفين الذي ينحدر من قرية البيضا بريف بانياس، بينما فر الآخر، واتصلوا بالأمن العام الذي حضر لاعتقاله.

لكن في اليوم نفسه، وبعد وقت قصير، شوهد الموقوف وهو يُطلق سراحه قرب دوار الساعة في مركز المدينة، قبل أن يُعاد اصطحابه في نفس السيارة التي تمت فيها محاولة الخطف. وتحدثت مصادر محلية أن الأمن العام طلب من الأهالي “التسويق” للقضية على أنها محاولة تحرش لاختطاف، لتجنب إثارة الذعر.

لا حساب، فلنحاول مرة أخرى!

وفي اليوم نفسه، حوالي الساعة السابعة والربع، وقعت محاولة خطف لامرأتين قرب مشفى الكندي في مدينة طرطوس، إذ اقتربت منهما سيارة من نوع “سانتافيه” فضية اللون، مفيمة، تحمل لوحة إدلب، وعليها عبارة “لا إله إلا الله” و”الشاهين”.

توقف السائق بجانب السيدتين، وقام أحد الركاب الأربعة الجالسين في المقعد الأمامي بمحاولة فتح باب السيارة باتجاه السيدتين، ما دفعهما للهروب بسرعة والدخول إلى مشفى الكندي للاحتماء.

وبحسب الشهادات، دخل أحد ركاب السيارة إلى المشفى بشكل طبيعي ليستقصي عن وجهة السيدتين، بينما بقيت السيارة متوقفة خارجاً. لذلك رافقهما أحد العاملين في المشفى لمسافة قصيرة نحو شارع المغسلة المقابل، حيث شوهدت السيارة مجدداً، لكنها لم تتحرك أثناء وجود الشاب.

لكن بعد مغادرة الأخير، عادت السيارة لتتبع السيدتين بسرعة، ما دفعهما للركض والدخول بين الأبنية، لتغادر بعدها السيارة المكان بسرعة.

 

كتابة: صحافي من سوريا (فضّل عدم ذكر اسمه)

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد