«جهنمية»… نساء يصنعن الحرية من قلب الزنزانة في السودان

رؤية نسوية حادة عن الصمود في وجه آلة القمع

من زنزانة ضيقة في أحد سجون السودان، تنبثق حكاية ست نساء جمعتهن المصادفة، وفرّقتهن التجربة القاسية، ليقدّم فيلم «جهنمية» رؤية نسوية حادة عن الصمود في وجه آلة القمع.
تبدأ القصة باعتقال شابة تُدعى شامة في الأيام الأخيرة من نظام عمر البشير، لتُلقى في عتمة زنزانة إلى جانب أربع نساء أنهكتهن شهور طويلة من الاعتقال.
وسط الجدران الخشنة والرطوبة الخانقة، تتقاطع حكاياتهن عن الألم والانتظار، ويولد من هذا الفضاء المغلق شكل جديد من المقاومة: مقاومة بالتواصل، بالحلم، بالضحك، وبالقدرة على البقاء.

الفيلم لا يعرض النساء كناجيات فقط، بل كفاعلات يبتكرن وسائل للنجاة. من تفاصيل يومية صغيرة — قطعة خبز، أو نظرة تضامن — ينسجن خيوط الأمل ويواجهن السجن كمنظومة قمع لا تستهدف أجسادهن فحسب، بل كرامتهن وإرادتهن في الحياة.

 

يستند الفيلم إلى مقابلات أجراها فريق العمل مع نساء خضن تجربة الاعتقال

عدسة جندرية على تجربة الاعتقال

في «جهنمية»، يتحول السجن إلى مرآة تكشف تداخل السياسة بالجندر، إذ يتضاعف وقع القمع حين يُمارس على أجساد النساء.
المخرج ياسر فائز اختار أن يروي من الداخل، من زاوية صوت النساء، حيث يتقاطع السرد بين الحكاية الفردية والذاكرة الجماعية للمعتقلات.
استند الفيلم إلى مقابلات أجراها فريق العمل مع نساء خضن تجربة الاعتقال خلال ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، فجاءت الشهادات نابضة بالتفاصيل الإنسانية: الخوف، الصمود، الغضب، والقدرة على تحويل الوجع إلى طاقة حياة.

بهذا المعنى، يصبح «جهنمية» أكثر من عمل سينمائي، إنه وثيقة نسوية تُعيد للنساء موقعهن في سرد الثورة، لا كرموز بل كأجساد حقيقية واجهت العنف وبقيت حيّة رغم القيد.

من الفكرة إلى الشاشة

انطلقت فكرة الفيلم بعد الثورة السودانية مباشرة. يروي فائز أنه أجرى ثماني مقابلات مع معتقلات سابقات، ومن أصواتهن استوحى السيناريو وكتب النص النهائي.
بدأ التصوير بعد انقلاب أكتوبر 2021، في ظروف سياسية وأمنية صعبة، مما اضطر الفريق إلى بناء نموذج كامل لزنزانة داخل مستودع تصوير.
ومع اندلاع الحرب في السودان في أبريل/نيسان 2023، فُقدت بعض مواد الفيلم الأصلية، فانتقل المخرج إلى القاهرة لاستكمال المونتاج، مصمّمًا على إتمام العمل رغم الخسائر.

وجوه جديدة تؤدي الذاكرة

اختار فريق الإنتاج ممثلات في أولى تجاربهن السينمائية، معظمهن وجوه شابة لم يسبق لهن الظهور على الشاشة.
تكوّن طاقم التمثيل من سبع ممثلات إلى جانب النجمة إسلام مبارك، وهن: ليندا عمر، سوهندا أبو بكر، شمس مبارك، ميسون مساعد، منى أسامة، ليا، ولوران النو.
كان الهدف بحسب المخرج كان “الاقتراب من الصدق أكثر من الأداء، وإعطاء النساء فرصة ليجسّدن واقعهن لا أن يمثلنه فقط”.

 

قدّم «جهنمية» السجن ليس كرمز للعزلة، بل كمختبر لإعادة بناء الذات الأنثوية في مواجهة القمع

الإنتاج بموارد محدودة وإرادة كبيرة

صُوّر الفيلم بميزانية تقارب 40 ألف دولار، نصفها فقط جرى تأمينه فعليًا. عملت أغلبية الفريق دون أجر، بدافع الإيمان برسالة الفيلم.
تم تنفيذ العمل عبر شركة الإنتاج الخاصة بالمخرج «إن ديب فيجن»، إلى جانب دعم محدود من القطاع الخاص ومن مبادرة «سودان فيلم فاكتوري».
واجه الفريق تحديات لوجستية قاسية، منها انقطاع الكهرباء وحرارة المكان، فاستعانوا بمولد كهربائي وعوازل صوت لضمان جودة التسجيل داخل المستودع.

 

السينما كأرشيف نسوي للثورة

يقدّم «جهنمية» السجن ليس كرمز للعزلة، بل كمختبر لإعادة بناء الذات الأنثوية في مواجهة القمع.
الزنزانة تتحول إلى فضاء لإعادة تعريف الحرية من داخل القيد، إذ تكتشف النساء معنى جديدًا للعلاقة مع أجسادهن ومع بعضهن البعض.
من خلال هذا التناول، يفتح الفيلم سؤالًا أوسع عن مكانة النساء في الذاكرة الثورية: لماذا تُنسى تضحياتهن حين يُكتب التاريخ، وكيف يمكن للفن أن يعيد إليهن حقّ السرد؟

 

من الصحافة إلى السينما

بدأ مشوار ياسر فائز في الصحافة الثقافية عام 2007، وتنقل بين صحف سودانية حتى عام 2013 حين فُصل بسبب مواقفه السياسية. عندها انتقل إلى العمل السينمائي.

قبل «جهنمية»، أخرج فائز فيلمًا وثائقيًا تجريبيًا عام 2011 بتمويل من معهد جوته وسودان فيلم فاكتوري، وشارك لاحقًا في أعمال حصدت جوائز بمهرجانات سودانية ودولية، منها فيلم «حاحاي الكلاب» و**«رحلة إلى كينيا»

جوائز ومشاركات دولية

نال فيلم «جهنمية» جائزة ما بعد الإنتاج من مبادرة الفيلم والإعلام العالمية (GFMI)، واختير ضمن برنامج «أبواب مفتوحة» في مهرجان لوكارنو الدولي (خارج المسابقة الرسمية).
كما ينافس في الدورة السادسة من مهرجان مينا السينمائي في كندا ضمن مسابقة الأفلام القصيرة، ويُعرض في برنامج «ريفليوشن» يوم 29 يناير/كانون الثاني.
كذلك رُشّح للمشاركة في مهرجانات مالمو، تورنتو، عمّان، وغيرها من المنصات التي تحتفي بالسينما العربية المستقلة.

الحرية تبدأ من الداخل

يذكّرنا «جهنمية» بأن الثورة لا تنتهي عند سقوط النظام، بل تبدأ حين تستعيد النساء أصواتهن المسلوبة.
الزنزانة، التي أرادها الجلاد رمزًا للخضوع، تتحول هنا إلى مسرح للوعي، ومساحة يكتبن فيها نسختهن الخاصة من التاريخ.
إنه فيلم عن النساء، عن الثورة، وعن كيف يمكن للألم أن يصبح طريقًا للحرية.

(المصدر: الجزيرة)

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد