الفوسفوجيبس: سلاح صُوّب على الأمومة في قابس

في صباحٍ خانقٍ من خريف هذا العام، دوّى صراخ الأمهات في شوارع قابس التونسية عوض صفّارات سيارات الإسعاف. أطفالٌ وطفلات في المدارس بدأن/وا يتساقطون واحدًا تلو الآخر، يشكون ضيقًا في التنفس وحرقة في الحلق، فيما علت في الجوّ رائحة نفّاذة تشبه السموم. لم تكن تلك الحادثة الأولى، لكنّها كانت الشرارة التي أعادت الغضب الشعبي إلى الشارع، وأطلقت موجة احتجاجات جديدة قادتها نساءٌ فقدن صبرهنّ وخفن على بناتهن وأبنائهنّ من هواءٍ صار قاتلًا.

منذ سنوات، يعيش سكّان قابس تحت ظلّ مداخن المجمع الكيميائي الذي يُعدّ أكبر مصدر لانبعاثات الفوسفوجيبس في البلاد. رائحة الكبريت صارت جزءًا من يومهم/ن، والبحر الذي كان يفيض بالحياة صار مصبًّا للنفايات الصناعية. ومع كلّ حادثة اختناق جماعية، تتّسع الهوّة بين الرواية الرسمية التي تقلّل من حجم الخطر، وشهادات الأهالي الذين/اللواتي يرون/ين في كلّ سحابةٍ رماديةٍ تهديدًا لحيواتهم/ن.

تقول إحدى الأمهات المحتجات: “لم نعد نريد تعويضات ولا وعودًا، نريد فقط أن يتنفس أولادنا هواءً نظيفًا.”

عبارةٌ تختصر ما تعيشه قابس اليوم: مدينة محاصَرة بين مصنعٍ لا يتوقّف، وسكّانٍ تتآكل صحتهم/ن بصمت. فالفوسفوجيبس، وهو النفايات الثانوية الناتجة عن صناعة الأسمدة الفوسفاتية، صار في المخيال الشعبي مرادفًا للسرطان والموت البطيء. ومع تزايد الشهادات عن حالات اختناق متكرّرة وأمراض سرطانية لم ينج منها سوى القليل، بات السؤال ملحًّا: كم من الوقت ستبقى قابس تدفع ثمن التنمية السامّة؟

النساء بين صرخة الأمومة وجدار الصمت العلمي

في قلب هذا الغبار الأبيض تختبئ مأساة أخرى أقلّ ظهورًا وأكثر وجعًا: أجساد النساء التي تتحمّل بصمت آثار ما يتنفّسه الجميع. فمنذ سنوات، تتناقل الجمعيات الصحية في الجنوب أرقامًا غير رسمية عن تزايد حالات الإجهاض المبكّر، واضطرابات الدورة الشهرية، وصعوبة الإنجاب بين النساء القاطنات قرب المجمع الكيميائي. ليست هذه البيانات مؤكّدة بالكامل، لكنّها تتكرّر بالقدر الكافي لتدقّ ناقوس الخطر.

تروي رحاب إحدى النساء اللواتي فقدن أطفالهن، قصّة تشوّه جنينها منذ الشهر السادس جرّاء التلوّث، ورغم إصرارها على الإنجاب الاّ أنّها فقدت طفلها بعد إصابته بمرض نادر يُدعى syndrome d’abernethy متلازمة ابرنيثي والذي جعله فيما بعد لا يحتمل الانبعاثات السامّة من المجمع ما أدّى إلى وفاته في الرابعة من عمره.

تقول: “وقت قالولي إنّ من الأسباب اللي تنجم تكون وراء الحالة التلوث، حسّيت كيما إذا بلادي قتلت صغيري بيديها. قتلت أحلامي وفرحتي، وأنا مازلت نحاول نصدق إلي يمكن ربّي يبدّل القدر.”

وتتابع: “ولدي كان أضعف من أن يواجه هواء قابس الملوّث. كل نفس يتعب فيه، كل موجة حرّ ولا ريح تولي خطر عليه (..) خلّيت مكينة الأكسجين جزء من حياتنا اليومية (..) وصل عمره 3 سنين ونصف، ما خرجش من الدار إلا للطبيب (..) لكن في النهاية، ولدي ما استحملش…”

الفوسفوجيبس ليس مجرّد غبار عابر كما تصفه البيانات الرسمية. إنّه خليط معقّد من الفلور والرصاص والكادميوم ومعادن ثقيلة أخرى، إلى جانب آثار مشعّة تبقى نشطة في البيئة لعقود. وعندما تُلقى ملايين الأطنان منه على شواطئ قابس أو في البحر، تتحوّل الرمال والمياه إلى مستودع خفيّ لهذه السموم التي تجد طريقها إلى أجساد السكان عبر الهواء والطعام والماء.

تقول إختصاصية في أمراض النساء والتوليد -فضّلت عدم الكشف عن اسمها- “نلاحظ منذ سنوات زيادة غير مفسّرة في مشاكل الإنجاب عند النساء الشابات، ولا نملك أدوات كافية لربطها مباشرة بالتلوّث، لكن المؤشّرات مقلقة.” هذه المؤشّرات تجد ما يدعمها في دراسات علمية أجريت في مناطق مماثلة في العالم، حيث ارتبط التعرّض المزمن للفوسفوجيبس والمعادن الثقيلة باضطرابات هرمونية وبانخفاض الخصوبة وازدياد حالات التشوّهات الخلقية.

ورغم محاولات الجهات الرسمية طمأنة السكان، فإنّ الواقع الميداني يقول عكس ذلك: رائحة الغازات التي تملأ الشوارع، والغبار الذي يتسلّل إلى الغرف، وصراخ الأطفال في المستشفيات. كلّها شواهد لا تحتاج إلى مختبر لتقول إنّ قابس مريضة.

جنّات: “كلّ يوم هناك من يختنق.. والمصنع لا يتوقّف”

في منزلٍ صغيرٍ لا يبعد كثيرًا عن مداخن المجمع الكيميائي، تجلس السيّدة جنّات إلى جانب ابنتها ذات الاثني عشر عامًا ونصف، تمسح على شعرها وهي تراقب أنفاسها المتقطّعة. منذ التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر، تحوّلت حياتهما إلى انتظارٍ يوميّ للحظة الاختناق القادمة. تقول الأم بصوتٍ خافتٍ لكنّه حازم:

“ابنتي كانت بصحّة جيّدة، إلى أن استنشقت تلك الغازات الخارجة من الأنابيب الصناعية… منذ ذلك اليوم، لم تعد كما كانت.

 

التحاليل الطبية بيّنت التهابًا في القصبات الهوائية، وارتفاعًا في مؤشّرات الكبد والحساسية، ومع ذلك لم تجد في المستشفى أيّ متابعة جدّية، و قيل للأم إنّ حالة ابنتها “نفسية”!

 

تصف جنّات ما حدث: “كانت الطفلة في المنزل عندما غطّت الرائحة الخانقة الحيّ. دقائق قليلة كانت كفيلة بأن تسقط مغشيًّا عليها. ومنذ تلك الحادثة، صار الهواء نفسه عدوّها. في البيت تختنق، وفي المدرسة أيضًا إذ يكفي أن تهبّ رياحٌ من جهة المعمل حتى تبدأ نوبة الاختناق”.

التحاليل الطبية التي أجرتها لابنتها بيّنت التهابًا في القصبات الهوائية، وارتفاعًا في مؤشّرات الكبد والحساسية، ومع ذلك لم تجد في المستشفى أيّ متابعة جدّية. لم تُجرَ لها تحاليل دمّ ولا فحوص متخصّصة، بل قيل للأم إنّ حالة ابنتها “نفسية”. ومع ذلك، عندما عرضتها على طبيبين نفسيين، أكّدا أنّ الأعراض جسدية بحتة ناجمة عن تلوثٍ بيئيّ.

“يبدو أنّ هناك تعليمات بعدم التعمّق في هذه الحالات”، تقول جنّات وهي تشير إلى ملفات طبية لم تكتمل. الطبيبة الوحيدة التي عاينت الأطفال المتضرّرين لاحظت خمس حالات مشابهة، وكتبت شهاداتٍ طبية لإحالتها إلى مركز الشرطة، لكنّ الملف طُوي في صمتٍ ثقيل.

تضيف الأم: “في الفترة ما بين التاسع والسابع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر، كانت أبشع الأيام. تسريبات غازية متكرّرة، والروائح مختلفة عن تلك التي نعرفها سابقًا. كلّ شيء يوحي بخللٍ في الصيانة، لكن المعمل لا يتوقّف، وكأنّ حياة الناس أقلّ شأنًا من مصالحه.”

الليالي الأخيرة كانت الأصعب، كما تقول. أغلقت النوافذ والأبواب، لكن الهواء المسموم وجد طريقه إلى البيت. في الصباح أخرجت ابنتها إلى الشارع لتهرب من الاختناق. وحتى المدارس لم تعد ملاذًا آمنًا. ففي مدرسة شطّ السلام ومدرسة القنينة نُقل أربعة عشر تلميذًا دفعةً واحدة إلى المستشفى بسبب الاختناق.

“كل يوم هناك من يُصاب، كل يوم هناك من يختنق في قابس، بينما المصنع ما يزال يشتغل.. وكأن شيئًا لم يحدث.”

 

الأمومة في مواجهة الفوسفوجيبس: حين يصبح الهواء خصمًا خفيًّا

في قابس، لم تعد الأمومة مجرّد غريزةٍ تحمي الصغار، بل تحوّلت إلى فعل مقاومةٍ يوميّ ضدّ غبارٍ لا يُرى وغازٍ لا يُسمع. الفوسفوجيبس الذي يُلقى منذ عقود في البحر وعلى اليابسة لم يترك أثره على التربة والمياه فحسب، بل تسلّل إلى أجساد النساء والفتيات، إلى الرحم الذي صار يحمل ذاكرة التلوّث. الموادّ الثقيلة التي تلوّث الهواء والماء، ولا تفرّق بين جهاز تنفّسي وعضو تناسلي، تعبر بصمتها إلى الدّم، فتضعف المناعة، وتربك الهرمونات، وتشوّش على أكثر العمليات دقّة في حياة النساء، الحمل والإنجاب.

ورغم أنّ الدراسات المحليّة لم تُجرَ بعد بالشكل الكافي لقياس الأثر المباشر للفوسفوجيبس على الخصوبة في قابس، فإنّ الشهادات اليومية تشهد بنفسها: نساء يعانين من اضطرابات في الدورة، إجهاضات متكرّرة، وأطفال يولدون بأمراض تنفّسية مزمنة. هذه القصص الصغيرة تُشكّل وجهًا آخر للمأساة، وجهًا لا يُقاس بعدد الأطنان المنبعثة بل بعدد الأمهات اللواتي يخشين النوم قرب نافذة مفتوحة.

الحراك البيئي في قابس كفعل مقاومة

في قلب الحراك البيئي بمدينة قابس، برزت النساء كقوة احتجاجية غير متوقعة، يدفعهنّ الخوف على أطفالهنّ، والقلق من الغد الذي تُثقله سُحُب الفوسفوجيبس السامّة.

تقول مريم منصور، وهي ناشطة حقوقية في حركة “Stop Pollution”، “أوقفوا/ن التلوث“: “لعبت النساء دورًا كبيرًا جدًا في الحركة، لم يكنّ مجرّد متفرّجات، بل كنّ في الصفوف الأمامية، في المسيرات والوقفات الاحتجاجية. فخطر التلوث لم يمسّ البيئة فقط، بل أصاب الصحّة أيضًا، وأثّر على الأطفال والكبار، على الواحة والبحر، أي أنّه مسّ كل تفاصيل الحياة”.

ظهرت حالات كثيرة من العقم، وتشوهات الأجنة، وسرطانات الثدي.

تجاوز حضور النساء في الحراك فكرة “المواطنة البيئية” ليصبح دفاعًا نسويًّا عن الحق في الحياة. حضورهنّ في الشارع منح الحركة روحًا مختلفة، كما تقول مريم، “ربّما أكثر إنسانية وأكثر صدقًا”. فقد روت النساء معاناتهن يومية مع التلوث، وتحدثن عن أطفال/طفلات يعانون/ين نوبات اختناق ليلية، وعن أجساد أنهكها الهواء المسموم والماء المالح.

تضيف مريم أنّ “التلوث لم يكن متحيزًا طبقيًا ولا عمريًا، لكنّه ضرب بقوة النساء في سنّ الإنجاب. إذ ظهرت حالات كثيرة من العقم، وتشوهات الأجنة، وسرطانات الثدي. اليوم لدينا نساء في الثلاثينات والأربعينات يعانين من أمراض وتشوهات جنينية، وهذا أمر خطير جدًا”.

بهذه الشهادة، يتجلّى كيف امتدّ تأثير الفوسفوجيبس من التربة إلى الرحم، ومن المصانع إلى غرف الولادة. صار التلوث قضية أمومة وصحة إنجابية بقدر ما هو قضية بيئية. فالنساء في قابس يتحمّلن عبء الحياة اليومية المضاعف: رعاية أطفال مصابين/ات بأمراض تنفسية، مرافقتهم/ن للمستشفيات ليلًا، وتحمل عبء الفقد والوحدة.

تروي مريم عن إحدى النساء في الحراك: “توفي زوجها، وهي الآن ترعى طفلًا مصابًا بالتوحّد، وابنتها التي تعرّضت أكثر من مرة لنوبات اختناق. كما أنّها تعاني هي نفسها من مشاكل تنفسية مزمنة، ولا تستطيع العمل بسبب الأعباء التي فُرضت عليها”.

هذا التراكم من الأعباء الصحية والاجتماعية جعل من التلوث عبئًا نسويًا بامتياز، عبئًا يثقل الأجساد والذاكرة والبيت. فالنساء، كما تقول مريم، “يتواجدن في كل مكان، في البيوت، في الشوارع، في المدارس، في المحلات التجارية، لهنّ نصيب في كل ما يحدث، ولهنّ دور فعّال حتى وإن لم يكنّ في الواجهة”.

حوّلت النساء الألم إلى تنظيم، والغضب إلى عمل جماعي. كنّ “في المطبخ الداخلي للحراك”- كما تسميه مريم- ينسّقن ويجمعن المعلومات وينقلن الأخبار عند كل حادثة اختناق أو تسرّب غاز. ومن خلال هذا العمل الصامت والمتواصل، تبلور وعي جديد يرى أنّ العدالة البيئية لا تنفصل عن العدالة الجندرية، وأنّ قضية التلوث ليست ترفًا بل قضية كرامة وحقّ في الحياة.

تختم مريم حديثها بنبرة تجمع بين الإصرار والأمل: “التغيير لا يُملى من فوق، بل يُبنى من الناس أنفسهم/ن، من نبضهم/ن ومعاناتهم/ن وصوتهم/ن الصادق في الميدان. وحضور النساء جعل للحراك روحًا جديدة، روح التضامن والنظام والهدوء. فحين ترى الأمهات واقفات بكل رصانة وشجاعة، تدرك أن الأمر تجاوز مجرّد احتجاج، إنّه دفاع عن الحياة ذاتها”.

قابس تصرخ: “نحبّوا نتنفّسوا”.. و”أولادنا حقّهم يعيشوا”

من منظور قانوني وحقوقي، تمسّ هذه الوضعية صميم الحق في الحياة والحق في الصحة، وهما من الحقوق الأساسية التي يكفلها الدستور التونسي لسنة 2022 في فصله 38، الذي ينصّ على أنّ “الصحة حق لكل إنسان، وعلى الدولة أن تضمن الوقاية والعلاج لكل مواطن”. كما أنّ الفصل 45 يؤكد أنّ “الدولة تضمن الحق في بيئة سليمة ومتوازنة وتساهم في حماية المناخ”. لكن واقع قابس يُظهر بوضوح الفجوة بين النصّ والممارسة، إذ تُركت المدينة لعقود تواجه مصيرها البيئي بمفردها، في ظلّ بطء رسمي وغياب إرادة سياسية حقيقية لمعالجة الكارثة.

النساء هنّ أكثر من يختبر هذه الفجوة القاتلة بين الحقّ والواقع. فبينما ينصّ القانون على الحق في الصحة، تكشف الوقائع أن الأمهات يعشن في سباق دائم مع الاختناق، يحملن أطفالهنّ بين أقسام الطوارئ والمستشفيات المكتظة، ويواجهن بأجسادهنّ المنهكة نتائج التلوث المستمرّ. بذلك، تتحوّل الأمومة في قابس من تجربة حياة إلى تجربة مقاومة، مقاومة ضدّ الهواء المسموم، وضدّ العجز الإداري، وضدّ الصمت العام.

إنّ ما تعانيه النساء في قابس يكشف الوجه الجندري الخفي للتلوث، حيث تتحمّل النساء العبء الصحي والاجتماعي الأكبر. فهن اللاتي يرعين، ويتابعن، ويسعفن، ويتكفّلن بمصاريف العلاج، بينما تتأثر صحتهن الإنجابية بشكلٍ مباشر.

إنّ استعادة قابس لحقّها في بيئة نظيفة هو في جوهره نضال من أجل استعادة الكرامة الإنسانية، وحقّ الأجيال القادمة في أن تتنفس دون خوف.

في النهاية، معركة قابس ليست صراعًا ضدّ مصنعٍ فقط، بل ضدّ نظامٍ من اللامبالاة، وضدّ فكرةٍ عميقة تقول إنّ حياة بعض الناس يمكن أن تكون “أقلّ قيمة”. ولعلّ النساء اللواتي نزلن إلى الشارع بأطفالهنّ، حاملات شعارات “نحبّوا نتنفّسوا” و”أولادنا حقّهم يعيشوا”، يذكّرننا بأنّ الدفاع عن البيئة ليس رفاهًا، بل هو الدفاع عن أبسط ما يملكه الإنسان: الحق في الحياة، وفي الهواء، وفي المستقبل. فـ’إمّا أن يكون لدينا مستقبل تقود فيه النساء الطريق نحو السلام مع الأرض، أو أننا لن نملك مستقبلًا بشريًا على الإطلاق”، حسب تعبيرة الناشطة البيئية الهندية فاندانا شيفا.

 

كتابة: يسرى بلالي

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد