اليمن: تزويج الطفلات باسم الفقر والحرب

في اليمن، لا تبدأ مأساة تزويج الطفلات عند لحظة عقد القِران، بل قبل ذلك بكثير، حين تُنتزع الطفولة من سياقها الطبيعي وتُدفع الفتيات إلى أدوار تفوق أعمارهنّ وقدرتهنّ الجسدية والنفسية. الحرب المستمرة، وما خلّفته من فقر ونزوح وانهيار في منظومة الحماية، لم تُنشئ الظاهرة بقدر ما عمّقتها، وحوّلت أجساد الطفلات إلى مساحة مقايضة اجتماعية واقتصادية.

 

منى: طفلة في فستان أبيض

بينما كانت فتيات قرية صغيرة في ريف محافظة ريمة يلعبن، كانت أسرة منى، ذات الأربعة عشر عامًا، تُعدّها للزواج من رجل يكبرها بثمانية عشر عامًا. لم تفهم منى ما ينتظرها، سوى أنها سترتدي فستانًا أبيض يشبه ما حلمت به كغيرها من الطفلات. في ليلة الزفاف، وجدت نفسها في تجربة عنيفة لم تكن مهيّأة لها، انتهت بإغماء ونزيف حاد استدعى نقلها إلى المستشفى.

يروي والدها لاحقًا شعورًا ثقيلًا بالذنب، معترفًا بأنّ الضغوط العائلية والخطاب الاجتماعي الذي يختزل مصير المرأة بالزواج دفعاه إلى هذا القرار. لم تتوقف المأساة عند الألم الجسدي، بل امتدّت إلى صدمة نفسية عميقة جعلت منى منكسرة، خائفة، ورافضة للعودة إلى بيت الزوجية، قبل أن يُتخذ قرار طلاقها وعلاجها نفسيًا.

غادة: زواج انتهى بالموت

لم تكن منى حالة استثنائية. غادة، التي زُوّجت في الثالثة عشرة من عمرها في ريف المحويت، حملت بعد أسابيع قليلة. وعند الولادة، لم يحتمل جسدها الصغير المضاعفات. توفّيت مع جنينها، لتتحوّل قصة “الستر” المزعوم إلى جريمة صامتة بحقّ طفلة أخرى.

هاتان القصتان تختصران واقعًا أوسع تعيشه آلاف الفتيات في اليمن، حيث يُقدَّم الزواج المبكر كحلّ للفقر أو كوقاية من “العار”، فيما هو في جوهره انتهاك صارخ لحقّ الطفلات في الحياة الآمنة.

الحرب كبيئة حاضنة للعنف لا كذريعة

تفاقم تزويج القاصرات في السنوات الأخيرة ليس منفصلًا عن الحرب. النزوح الواسع، وانهيار سبل العيش، وغياب الدولة، جعلت الأسر أكثر قابلية لاتخاذ قرارات قسرية بحقّ بناتها. في المجتمعات الريفية والقبلية، تتقاطع العادات مع خطاب ديني مُشوَّه، يُعيد إنتاج السيطرة الذكورية، ويقدّم جسد الطفلة كعبء اقتصادي يمكن التخلّص منه عبر الزواج والمهر.

الباحث الاجتماعي خليل النجار يشير إلى أنّ تزويج القاصرات يرتبط بالفقر والجهل، لكنّه في جوهره نتاج ثقافة ترى في الفتاة كيانًا ناقصًا، وتربط قيمتها الاجتماعية بقدرتها على الزواج والإنجاب. الحرب، في هذا السياق، لم تُنشئ هذه الثقافة، لكنها وسّعت مداها وقلّصت أي إمكانيات للحماية.

أجساد هشّة تحت خطر دائم

النتائج الصحية والنفسية لزواج الطفلات مدمّرة. طبيبات وطواقم صحية يؤكّدن أنّ الفتيات الصغيرات أكثر عرضة لمضاعفات الحمل والولادة، من نزيف حاد، وتسمّم حملي، وناسور الولادة، وصولًا إلى الوفاة. الأجساد التي لم يكتمل نموّها بعد تُجبر على تحمّل أدوار بيولوجية قاسية، غالبًا بثمن الحياة.

أما نفسيًا، فتبدأ الصدمة منذ اليوم الأول. الطفلة لا تمتلك الأدوات لفهم العلاقة الزوجية أو الموافقة عليها، ما يخلّف اضطرابات طويلة الأمد، من اكتئاب وخوف واضطراب ما بعد الصدمة، وصولًا إلى أفكار انتحارية في بعض الحالات.

غياب القانون: حين يصبح الانتهاك مشرعنًا

على مستوى الحماية القانونية، تقف الطفلات في اليمن بلا سند. لا يوجد نصّ قانوني نافذ يحدّد سنًا أدنى للزواج. فبعد أن كان قانون الأحوال الشخصية لعام 1992 يحدّد سن الزواج بخمسة عشر عامًا، أُلغيت هذه المادة عام 1999، ما فتح الباب واسعًا أمام تزويج الطفلات.

المحامية نوال عباس توضّح أنّ محاولات المجتمع المدني لتحديد سن قانونية للزواج اصطدمت بمعارضة دينية وسياسية، ثم جُمّدت بالكامل مع تعاقب الأزمات والحرب وتعطيل البرلمان. ورغم التوافق في مؤتمر الحوار الوطني على تحديد سن الزواج بسبعة عشر عامًا، لم يُترجم ذلك إلى قانون ملزم، وبقيت الطفلات رهينات فراغ تشريعي قاتل.

أرقام تُدين الصمت

بحسب إحصاءات الأمم المتحدة والحكومة اليمنية، يتم تزويج أكثر من نصف الفتيات اليمنيات قبل سن الثامنة عشرة، ونسبة كبيرة منهنّ قبل الخامسة عشرة. يُقدَّر عدد الزوجات القاصرات في اليمن بأكثر من أربعة ملايين، وهو رقم لا يعكس فقط حجم الظاهرة، بل حجم الفشل في حماية الطفولة.

 

(المصدر: العربي الجديد)

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد