الأسيرات الفلسطينيات .. ما وراء مشهد الاعتقال
في كل مرةٍ أقرر العمل على مادةٍ صحفية جديدة، أضع على نفسي مسؤولية أن أكون حقيقيةً قدر المستطاع. لكن رحلة البحث عن القصص تصدمك بأمورٍ تتجاوز الحقيقة، هو واقع تعيشه إحداهن رغماً عن إرادتها، لماذا؟ لأنها ولدت فلسطينية.
هذه الجنسية في نظر الاحتلال الإسرائيلي تدين حاملها. لا يهم من هو؟ ما هو جنسه أو دينه؟ هل ينتمي إلى حزبٍ سياسي ما؟ يكفيهم أنه/ا فلسطيني/ة، الأمر الذي يجعلهم هدفاً للاعتقال والاغتيال، وكل السبل التي يعبر فيها الاحتلال عن انتهاكاته وهمجيته، التي تزيد إذا كانت الأسيرة امرأة
على مدار السنوات الطويلة تعرضت أكثر من 16 ألف فلسطينية للاعتقال في سجون الاحتلال. وفي عام 2020 اعتقلت نحو 128 من النساء الفلسطينيات، بعضهن خرجن ومنهن من تمت محاكمتهن وسجنهن.
وعلى الرغم من أننا لم ننته بعد من السنة الحالية، إلا أن عام 2021 شهد ارتفاعاً في عدد الاعتقالات بحق النساء، وبلغ عددهن 130 أسيرة، كذلك تم الإفراج عن بعضهن بينما سجنت أخريات.
وفي المحصلة، بلغ عدد الأسيرات اللاتي ينفذن أحكاماً في سجون الاحتلال حتى نهاية شهر آب/أغسطس الماضي، 32 أسيرة.
أساليب التعذيب على لسان أسيراتٍ محررات
أن ترى أسيرة في زنازين الاحتلال ليس مشهد البداية، فالكثير يكمن في الكواليس وفي التفاصيل التي لا ترى في صورة الاعتقال التي تتصدر العناوين.
يبدأ التنكيل مع لحظة الاعتقال نفسها، سواء كانت فجراً حين يقتحم جنود الاحتلال منزلها وتقييدها بالسلاسل واقتيادها من دون سابق إنذار.
ليست السلاسل وحدها ما ينتهك كرامة الأسيرات أثناء الاعتقال، بل يصل الأمر إلى الضرب والشتم وتوجيه الإهانة. ثم تتصاعد عمليات التضييق عليهن حال وصولهن إلى مراكز التحقيق، فتمارس بحقهن كافة أساليب الضغط النفسية والجسدية، كالحرمان من النوم والترهيب والترويع.
ويشير نادي الأسير الفلسطيني إلى أن “الأسيرات تواجهن تحقيقاً يعتمد أساليب التعذيب الجسدي والنفسي منها: الشبح بوضعياته المختلفة وتقييدهن طوال فترة التحقيق وحرمانهن من النوم لفتراتٍ طويلة والتحقيق المتواصل والعزل والابتزاز والتهديد. بالإضافة إلى منع المحامين من زيارتهن خلال فترة التحقيق وإخضاعهن لجهاز كشف الكذب والضرب المبرح كالصفع المتواصل والعزل الانفرادي”.
تقول سلام أبو شرار، الأسيرة المحررة التي اعتقلت وهي في السنة الأخيرة في كلية الصيدلة في مقابلة مع موقع “شريكة ولكن” إن “أصعب اللحظات التي مررت بها هي التحقيق في سجن المسكوبية في القدس. لم أر وجهي مدة شهرٍ كامل، ولم أستطع تسريح شعري سوى مرةً واحدة. شهر كامل لم أر الشمس ولا السماء، وكأنني في قبر”.
وتضيف سلام التي اعتقلت بعد “هبّة القدس” أن “أكثر ما كان يؤلمها هو عدد الأسيرات المصابات في زنازين الاحتلال من دون تلقي أي مساعدة طبية”.
وحين نتحدث عن الإهمال الطبي في سجون الاحتلال، فإن أكثرهن معاناة والأولى التي ستخطر في بالنا هي الأسيرة إسراء جعابيص. فهي تعاني من حروق في أكثر من 60% من جسدها ووجهها، بسبب اندلاع حريق في سيارتها عام 2015 بعد انفجار بالون الهواء في المقود بالقرب من أحد حواجز الاحتلال لتصبح في نظرهم مجرمة، وتحاكم بتهمة محاولة تنفيذ عملية دهس.
تقول رلى شقيقة إسراء لـ”شريكة ولكن” إن “شقيقتها بحاجة إلى عدة عمليات حيوية وتجميلية في الأنف وشفتها السفلى وكف اليدين بسبب ظهور العظم لديها، وفي الأذن أيضاً”.
وتضيف أنها “تواجه مشاكل صحية في النظر والتنفس والسمع وتعاني من أوجاعٍ في قدميها وأذنيها وجفاف في الجلد. وكل ذلك الإهمال سببه تعنت الاحتلال ورفضه علاجها من دون سبب، حتى أنها لم تحصل على كريمات مرطبة للجلد بسبب الجفاف الذي يسبب لها تقرحات”.
لم تكن إسراء الوحيدة التي تعاني من الإهمال الطبي. فالأسيرة روان أبو زيادة تعاني من جرثومة غير معروفة في الجهاز الهضمي ومشاكل في العظام. والأسيرة نسرين أبو كميل مصابة بأمراض السكري وارتفاع ضغط الدم. والأسيرة صمود أبو ظاهر تعاني من مشاكل في الدم. كل هؤلاء الأسيرات وغيرهن كثيرات يعانين بشكلٍ يومي من دون أي مراعاة لأوضاعهن الصحية.
يستهدف جيش الاحتلال في اعتقالاته طلاب الجامعات بشكلٍ كبير، فالنشاط الطلابي يعتبر تهمة يعتقل على أساسها مئات من طلاب الجامعات الفلسطينية.
ليان كايد الأسيرة المجتهدة في دراستها اعتقلت قبل 10 أيام من استكمال طلب تخرجها وتتويج رحلة دراستها التي استمرت 4 سنوات. اعتقلت ليان أثناء مرورها على أحد الحواجز، فأوقف الجنود سيارة والدتها التي كانت تقلها، وبعد أن طلبوا هويتها أنزلوها من السيارة وفتشوها وأبلغوها أنها موقوفة. ثم قيدوا يديها وقدميها بسلاسل حديدية.
تقول ليان لموقعنا: “قبل أن تصدر المحكمة قرارها بحقي، وضعت في معبار هشارون، وهو أشبه بالعزل يضم جنديات إسرائيليات يتعرضن في بعض الأحيان للأسيرات بالمضايقة والتحرش. لا توجد أي خصوصية في المكان، فتنتشر فيه كاميرات المراقبة. الغرف قذرة والمياه ملوثة والفرشات التي ننام عليها رقيقة جداً وتسبب الكثير من الآلام في الجسد”.
أسيرات أنجبن في سجون الاحتلال .. مصير كانت تخشاه أنهار الديك
سجلت تاريخياً 8 حالات لأسيرات أنجبن في سجون الاحتلال تحت ظروفٍ قاسية وغير إنسانية.
وهذا ما كانت تخشاه الأسيرة المحررة أنهار الديك التي اعتقلت وهي حامل في شهرها الثالث. ليمر الوقت وتجد نفسها في منتصف شهرها التاسع وتعيش في ظروفٍ صحية غير إنسانية أو صالحة للولادة في السجن.
فما تنتهجه إسرائيل مع الأسيرات لا يشفع له أي ظرف خاص، منذ اللحظة الأولى لاعتقال أي امرأة حامل يتم تقييد يديها وقدميها بالسلاسل وتخضع للتحقيق وتمارس عليها كل الأساليب القاسية من دون مراعاة تأثير كل ذلك على صحتها وصحة الجنين. وبعد انتهاء التحقيق تنقل إلى غرف السجن العادية التي لا تلائم الإنسان العادي، فكيف إذا كانت امرأة حامل؟ الغرف تفتقر إلى الشمس والتهوئة، ولا تحصل الحامل على أي تغذية مناسبة أو عناية طبية لها ولجنينها.
تقول أنهار في حديثها مع “شريكة ولكن”: “عشت في قلقٍ دائم منذ لحظة اعتقالي الأولى، كل السيناريوهات كانت حاضرة، كيف سأنجب طفلي وحدي وأنا أذهب إلى العيادة مقيدة اليدين والقدمين وكيف سأمشي أولى خطواتي؟”.
لم تخف أنهار فرحتها عندما علمت بقرار الإفراج عنها، على الرغم من اشتراط وضعها تحت الإقامة الجبرية ودفعها كفالة مالية كبيرة. وتضيف الأسيرة المحررة التي أنجبت طفلها منذ أيام: “عندما حملت طفلي بين يدي تساءلت هل كنت في كابوس؟ هل أنا عشت كل هذا؟”.
الانتهاكات الإسرائيلية لا تتوقف
ينتهي المطاف بالأسيرات الفلسطينيات بعد رحلةٍ طويلة مع التحقيق والتوقيف غالباً في سجن الدامون الواقع في حيفا. وهذا السجن شيد في عهد الانتداب البريطاني كمستودع للدخان فتمت مراعاة توفير الرطوبة لحفظ أوراق الدخان عند بنائه.
لكن بعد عام 1948، وضع الاحتلال يديه عليه وحوله إلى سجن يفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الإنسانية. الغرف سيئة التهوئة وتنتشر فيها الحشرات والرطوبة بسبب قدم البناء. كما أن أرضيته من الباطون ما يجعله بارداً في أيام الشتاء وحار جداً أيام الصيف.
تخالف إسرائيل بشكلٍ واضح وصريح القانون الدولي في عدة اتفاقيات تنص على وجوب معاملة الأسرى بكرامة ومنها اتفاقية جنيف واتفاقية مناهضة التعذيب والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. فتستمر بنهجها في انتهاك حقوق الأسيرات الفلسطينيات، من خلال احتجازهن في ظروفٍ سيئة غير آدمية، مع حرمانهن من الرعاية الصحية ومن رؤية أطفالهن.
أما أساليب التعذيب فتتم أحياناً على يد محققين رجال بخلاف ما ينص عليه القانون الدولي من وجوب توكيل الإشراف المباشر عليهن إلى نساء سجانات من دون الاحتكاك بهن من قبل السجانين الرجال. وعدم جواز تفتيشهن إلا من قبل نساء مع ضرورة فصل الفتيات القاصرات عن النساء البالغات. فماذا يحصل مع المعتقلات القاصرات؟
فكرت كثيراً قبل أن أقابل الأسيرة المحررة ديما الواوي التي اعتقلت عام 2016 وكانت تبلغ حينها 12 عاماً. فهي اليوم شابة في مقتبل العمر وفي سنتها الجامعية الأولى تدرس اللغة العربية وآدابها. لكنها ما زالت تلك الطفلة القاصر التي اعتقلت من دون أن تفهم شيئاً أو تستوعب ماذا يحدث لها.
تقول ديما لـ”شريكة ولكن”: “كان يلازمني دائماً شعور بأن تلك الفترة ستبقى إلى الأبد”. تستذكر ديما أيام التحقيق الأولى وصراخ المحقق بأسئلةٍ لا تفهمها، وتهديده لها بأنها ستأخذ حكماً مؤبداً. كل ذلك حدث منذ يوم الاعتقال الأول لطفلةٍ عمرها 12 عاماً فقط.
وتروي ديما: “عندما نقلت إلى المحكمة في سيارة البوسطة (وهي سيارة حديدية ينقل فيها الأسرى عبر رحلة شاقة، كان هناك فاصل زجاجي بيني وبين الجندي فطلبت منه بعض الماء، ووضعها خلف الزجاج ليستفزني.
وفي المحكمة، تلاعب بي أحد الجنود، وصار يخبرني كل دقيقة أن وقت محاكمتي قد حان، فأذهب إلى الباب ولا أجد شيئاً. كما منعوا والدتي من إعطائي سترةً شتوية تقيني البرد في الشتاء فوقف الجندي بيني وبينها ومنعني من أخذها”.
انتهاكات الاحتلال لا يوقفها شيء، منذ بداية كورونا تم وقف زيارات عائلات الأسرى ومنع أطفال الأسيرات من الزيارة. وتقلصت الزيارات من واحدة كل شهر إلى واحدة كل شهرين. حتى أن الاحتلال منع الأسيرة خالدة جرار من وداع ابنتها سهى التي توفيت منذ عدة شهور في نموذجٍ لأقسى درجات التعذيب النفسي لحرمان الأسيرات حتى من وداع أحبتهن.
أفكر دائماً عندما أنتهي من الكتابة، بماذا أختم؟ بالأمل؟ أو أنه سيكون خدعة في أحوال كالتي تعيشها أسيراتنا في سجون الاحتلال؟
هذه المرة قررت أن أكتبهن كما كن، مزيج من كل شيء. صحيح أن الاحتلال استطاع أن يسرق فترة حمل أنهار منها ومن عائلتها، ومنع ليان من حضور حفل تخرجها، وسرق شهرين ونصف من ديما الطفلة، وعطل سلام عن استكمال دراستها في الصيدلة، وإسراء ما زالت تعاني آثار الاحتلال بروحها وجسدها، إلا أنهن يتفقن على أن الأسر رغم مرارته جمعهن سوياً، ووحد أوجاعهن كما نقول نحن النساء. وخلقن مساحةً للتعلم والقراءة والكتابة.
وقد أخبرتني ليان أنهن حين سمعن خبر فرار الأسرى الستة قبل خروجها بأيام من السجن، شعرن بحريةٍ لا يضاهيها شيء وبأنهن يحتجن إلى الحرية كما كل إنسان خلق حراً.