رهام يعقوب .. أن ترفعي صوتكِ عالياً في وجه الرصاص
نحاول التغيير فنتغير نحن. موجات متتالية ومتشابهة من محاولات التغيير عصفت بالوطن العربي وفي أنحاء الشرق الأوسط خلال العقد الأخير من أعمارنا. شارك فيها آلاف المواطنين والمواطنات الحالمين والحالمات بحياةٍ أفضل.
تلك الحياة الأفضل قد تعني حريةً أكثر أو أماناً واستقراراً أكبر، أو تحسين الوضع الاقتصادي والمساواة في الحقوق… وغيرها من المطالب الإنسانية التي نادت بها حناجر متظاهرين/ات بالملايين في بلداننا منذ كانون الأول/ديسمبر 2010 حتى اليوم.
كانت تلك الحناجر مستعدةً أن تبذل دماءها لترى بلادها وشعوبها في وضعٍ أفضل مما هي عليه، وللأسف دفع/ت بعض تلك الحناجر دماءها ثمناً لكلمتها.
“هل يساوي العالم الذي وهبته دمك؟”. هكذا تساءل الشاعر المصري صلاح عبد الصبور في مسرحيته الشعرية مأساة الحلاج المنشورة عام 1966، والسؤال نفسه يمر في عقلي كلما رأيت صور ضحايا محاولات التغيير.
الصورة التي نتحدث عنها اليوم للناشطة العراقية رهام يعقوب، التي نشرت آخر صورةٍ لها على حسابها الشخصي على فيسبوك، قبل وفاتها في آب/أغسطس 2020. وللمفارقة، كان من ضمن التعليقات عليها ما كتبه الناشط تحسين أسامة: “نورتي دكتورة”. ليتم اغتيال كليهما في الأسبوع نفسه، والسبب أنهما وآخرين/أخريات رفعوا/ن صوتهن/م في وجه الرصاص ليطالبوا بالحرية والمساواة.
صورة رهام يعقوب، الشابة التي عرفت طريق التظاهرات فعرف الرصاص مكانها، تثير تساؤلاً آخر مكرراً عن الثمن الذي تدفعه النساء حين يقررن أن يرفعن صوتهن مطالباتٍ بالتغيير.
احتجاجات البصرة 2018 وثورة العشرين الثانية
بدأت القصة باحتجاجاتٍ شعبيةٍ في العراق في مدينة البصرة في 3 أيلول/سبتمبر 2018، انطلقت بعد تسمم آلاف الأشخاص من جراء تلوث مياه الشرب. امتدت التظاهرات إلى عددٍ من مدن الجنوب العراقي واستمرت في الاشتعال.
كانت أبرز مطالب المتظاهرين/ات تحسين مستوى الخدمات وتوفير فرص عمل للمواطنين والمواطنات ومكافحة الفساد، ورفض التدخل الإيراني ووجود ميليشيات مسلحة تابعة لإيران داخل الأراضي العراقية.
حينها، قام أيضاً عدد من المتظاهرين/ات بحرق مبنى السفارة الإيرانية في البلاد. استمرت التظاهرات والاحتجاجات بين تأجج وانخفاض حدتها حتى أواخر عام 2019. دعمت بعض الشخصيات السياسية العامة هذه التظاهرات التي شاركت يعقوب فيها منذ انطلاق شرارتها في بلدتها البصرة، جنوب العراق. واستخدمت صوتها وصفحتها التي يتابعها الآلاف، لتشجيع النساء على المشاركة السلمية في المطالبة بحقوقهن. وقتل على الأقل 10 مواطنين/ات في تلك الاحتجاجات.
من هي رهام يعقوب؟
رهام شاكر يعقوب، كانت شابة في الثلاثين من عمرها حين قتلت برصاص مجهولين أثناء تواجدها في سيارتها. قبل مقتلها ببضعة أشهر، كانت تحلم أن تصل إلى منصب وزيرة الشباب والرياضة في بلدها، وأن تغير العراق عن طريق العلم. وحرصت على نشر ثقافة النظام واحترام القانون وكيفية خلق مواءمة بين الحق الفردي والحق العام، لتغيير المجتمع للأفضل من دون الدخول في معارك معه.
كانت مؤمنة حتى آخر لحظة من حياتها بأهمية العلم والبحث العلمي في كسب الثقة والإقناع، وهي طالبة الدكتوراه في التغذية السليمة ومديرة النادي الرياضي “Dr Fit” في البصرة.
تركت رهام بصمةً واضحةً في حياة آلاف النساء ليس في العراق وحدها، عبر الصور وفيديوهات البث المباشر التي كانت تنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، كما اهتمت بصحة النساء وتقويتهن نفسياً وجسدياً.
كانت إحدى المؤثرات ويتابعها أكثر من 80 ألف شخص، وازدادت شهرتها حين شاركت في تظاهرات البصرة عام 2018 لدعم أبناء وبنات بلدتها في مطالبتهم/ن المشروعة بتحسين مستوى حياتهم/ن وتحسين الخدمات خصوصاً المياه والكهرباء.
واستخدمت جمهورها الكبير على صفحات التواصل، كما أجرت عدداً من الحوارات الإعلامية نُشرت داخل العراق أو خارجها. واستمرت في دعم حق التظاهر السلمي حين قررت الحكومة العراقية أو الميليشيات الإيرانية التي تحافظ على مصالحها في العراق أن تقوم بصد تلك التظاهرات بالرصاص ما أدى إلى وقوع 10 قتلى على الأقل.
صوتك العالي دليل على قرب موتك
“صوتك العالي دليل على ضعف موقفك”. ليس هذا المثال صحيح دائماً. فربما تضطرين إلى رفع صوتكِ عالياً ليصل إلى الأذان عبر ضوضاء الرصاص والقنابل الغازية والتحريض على الدم والفوضى وبث الخوف في النفوس ليسود الظلم. وعندما وصل صوت يعقوب إلى أذان هؤلاء الذين يخشون الحرية ويطالبون بسيادة الخوف لامتلاك القوة، قرروا تهديد حياتها.
في نيسان/أبريل 2019 تعرضت لتحريض إعلامي عبر وكالة “مهر” الإيرانية كجزء من حملة منظمة دُشنت على بعض المواقع الإلكترونية العراقية ضدها. وفي شهر أيار/مايو التالي تم تحطيم زجاج واجهة سيارتها الأمامية من قبل شخصان ملثمان على دراجةٍ ناريةٍ في الليل.
وبعد نحو 5 أشهر، في 29 تشرين الأول/أكتوبر تلقت تهديداً عبر هاتفها الشخصي، من خلال رسالةٍ وصلتها من رقمٍ مجهول. كان نص رسالة التهديد بتصرف: “باسم الله الرحمن الرحيم إلى العميلة للأمريكان نعرف كل زين جاي تنضمين للمظاهرات ونندل الشقة لي بتحسينه والجم نعرف مكانه ونعرف الكلية. احذري لقد اقترب يومك”. بعد تلقيها هذا التهديد، توجهت إلى مركز الشرطة في محاولة للوصول إلى صاحب الرقم، وقدمت شكوى لكن الشرطة لم تصل إليه.
الرصاص ثمن أن تكوني امرأة قوية ومؤثرة في بعض الأحيان
قتلت رهام يعقوب يوم 19 آب/أغسطس عام 2020. استقرت 3 رصاصات في جسدها، الأولى في رقبتها و2 في الصدر. تم إطلاق النار عليها وهي داخل سيارتها في البصرة أثناء عودتها من عملها، بصحبة شقيقتها وصديقتها، على يد ملثمٍ مسلح كان على دراجةٍ نارية. وأصيبت شقيقتها في يدها بزجاج السيارة المتكسر، بينما أصابت رصاصة يد صديقتها.
تقول صديقة مقربة لرهام إن خبر اغتيالها كان مفزعاً. فبعد تصاعد نبرة التهديدات بحقها انسحبت رهام من الحياة السياسية واكتفت بنشاطها الرياضي والتوعوي للنساء العراقيات. وعلى الرغم من نصائح كثيرين/ات لها بالرحيل عن العراق، أو على الأقل بترك البصرة إلا أنها كانت دائماً تردد: “أنا بنت البصرة أعيش وأموت فيها”.
من قتل رهام يعقوب؟
على الرغم من مرور نحو عامين على هذه الجريمة المؤسفة، إلا أن هذا السؤال لم يجد جواباً واضحاً بعد.
تشير أصابع الاتهام إلى النظام الإيراني الذي يحافظ على نفوذه داخل العراق حرصاً على مصالحه الخاصة ويخشى من أي صوتٍ أو عقلٍ قادرٍ على فهم الصورة والتواصل مع الآخرين. كما يتهم البعض النظام العراقي نفسه بالتواطؤ.
تعرضت لاتهاماتٍ مستمرة بالعمالة والخيانة، وكان يستخدم كدليل إدانةٍ ضدها في الوسائل الإعلامية خصوصاً التابعة لإيران صورة لها مع القنصل الأميركي في احتفالية وندوة ثقافية في اليوم العالمي للمرأة. خروجها ضد الفساد وتشجيعها للنساء العراقيات على التواجد في العمل العام، كان الأمر الذي أدى إلى تحريضٍ مستمرٍ من الإعلام الموالي للنظام ضدها وضد زملائها. وقال أحد أصدقائها في تصريحاتٍ إعلامية بعد مقتلها، إن “شرطة النجدة كانت على بعد 50 متراً تقريباً من إطلاق الرصاص، لكنها لم تتحرك”.
آثار مقتل رهام ضجةً دوليةً، وصدر بيان صحفي مشترك لسفارات كل من أستراليا، بلجيكا، بلغاريا، كندا، كرواتيا، جمهورية التشيك، فنلندا، فرنسا، ألمانيا، المجر، إيطاليا، هولندا، بولندا، رومانيا، إسبانيا، السويد، المملكة المتحدة، وبعثة الاتحاد الأوروبي. وأوضح البيان قلق الموقعين/ات من الوضع في العراق وأدانت هذه الدول الاغتيالات التي تستهدف الناشطات والناشطين في العراق. كما طالبوا حكومة الكاظمي بإنهاء حالة الإفلات من العقاب لمرتكبي هذه الجرائم.
رهام لم تكن الأولى.. فمتى يتوقف سيل الدم من أجل الحرية؟
رحلت الناشطة العراقية وتركت في حياتها القصيرة مثالاً يحتذى به في القوة والشجاعة وحب الحياة. كما تركت 3 أشقاء و3 شقيقات مع والدها ووالدتها مفجوعين/ات برحيلها، ومعهم/ن آلاف المتابعين والمتابعات في حالة حزن وذكراها تتردد بينهم/ن دائماً.
كلمات تأبينها وضعت الخطوط العريضة في حياتها وبيّنت أنها كانت محل إعجاب كنموذجٍ للمرأة الشابة التي تستطيع أن تحرك آلاف البشر بصوتها وعقلها وتصرفاتها. كانت مثالاً للنشاط والطاقة، ثقة في النفس وذكاء وقدرة على القيادة، محبة للعلم والرياضة وتنظر إلى مجتمعها بعين الأم العاملة القادرة على حب أبنائها/بناتها وتعليمهم/ن والتعلم منهم/ن في الوقت نفسه.
هي العراقية الثائرة التي تركت خلفها حياةً قصيرةً أشعلتها بمحطاتٍ مهمة. كما تركت خلفها جريمةً تجر سؤالاً ما زال ينتظر إجابة. متى يتوقف سيل الدم لأجل الحرية؟