في البدء كان الجندر
للحديث عن الهوية الاجتماعية (الجندر)، علينا أولًا أن نفكك مفهوم السلطة. السلطة كما تُعاش في المجتمعات، هي مجموعة من الصلاحيات التي يتمتع بها مجموعة أشخاص دون غيرهم، للتضييق على اختيارات مجموعات أخرى. وهذه السلطة قد تم منحها إلى الأب، أو ما يُعرف بسلطة الإنابة واتخاذ القرارات المصيرية. ولجعل السلطة أكثر شرعيةً، صَورت المجتمعات البدائية الله بصفته أب، وبهذا اتحد الجندر مع السلطة. وبالتالي، صار كل أب على هذه الأرض يتمتع بسلطان الإنابة عن الأب السماوي!
إنها ببساطة لُعبة الجندر، وأقرب ترجمة عربية لمصطلح “جندر” هي الهوية الاجتماعية/النوع الاجتماعي وتقاطعاته، والأدوار التي يلعبها كل شخص بناءً على جنسه. هُيئتْ أدمغتنا في المنطقة الناطقة بالعربية للتعامل مع أدوار النوع الاجتماعي منذ درسنا في الصغر جمل مثل: “ماجد يحمي المنزل. إيمان تلعب بدميتها”. تحصر تلك الجمل وتنويعاتها المهام والأدوار المنوطة بكل جنس، أي الأدوار الجندرية النمطية والتصورات الذهنية المعتادة. ما يجعل الخروج عنها معضلةً كبرى، سواء لأنثى أو لذكَر، أو لثنائيي/ات الجنس.
الأمر ليس ببساطة هذا الشرح في السطور السابقة، لكنه يتجاوزها إلى الزمان والرقعة الجغرافية. بقراءة المتابعة الكرونولوجية -التسلسل الزمني- للحضارات، نلاحظ انتقال الإنسان من الهجمات البدائية، إلى التعايش المبني على المصالح المتبادلة. كما نلاحظ الانتقال من الظلم الاجتماعي كمنطق مفروض، إلى التعايش من منظور الجندر والمطالبة بالحقوق، ومن التعامل السُلطوي كأوامر إلهية، إلى التعامل الإنساني.
“كانت مكانة المرأة متدنية في فلسطين. لذلك، لم يوافق الكثيرون على نظرة يسوع الرحيمة تجاههن، وبدعة المساواة التي جاء بها، فاصطدمت تعاليمه دائماً بأولئك الذين آمنوا بحرفية النصوص”.
ثالوث الجندر والجنس والسلطة
في مطلع العام الجاري، وتحديدًا في 20 كانون الثاني/يناير 2023، نشرت بعض المواقع الإخبارية المصرية خبرًا بشأن الرسامة “سالي عازر”، أول قسيسة في الكنيسة اللوثرية بالأردن. إلى هنا، الأمر متعلق بالكنيسة اللوثرية وخارج الأراضي المصرية تمامًا. إلا أن ما حدث أشعل مواقع التواصل الاجتماعي، وبالأخص من أقباط مصر، الذين/اللاتي قابلنه/قابلوه بالرفض والاستهجان. الأكثر إثارة في الأمر، هو رفض النساء القبطيات تحديدًا! والسؤال هنا: ألا يستحق الأمر الملاحظة ومحاولة الفهم؟
لا يصح فهم وضع المرأة المسيحية الأولى دون فهم السياق اليهودي في فلسطين القديمة قبل ظهور المسيحية، التي اعتُبرت في سنواتها الأولى نطفة يهودية شاردة. بحسب الكتاب المقدس، عهده القديم بالحديث عن اليهودية، فالله لم يحدد العلاقات الاجتماعية بين الطبقات. إلا أن المعرفة اللاهوتية مرتبطة بالخبرة الإيمانية، وهي خبرة تقوم على العلاقة بالألوهية. ومن ثمّ، تتأثر بنوع الجنس البيولوجي. ومن هنا، جاءت التقاليد اليهودية مبنية على حياة رجال متأثّرين غالبًا بالأيديولوجيا الذكورية السائدة في العالم القديم. فوفقًا للموقف الاصطلاحي الشخصي لكل فرد منّا، يُمكن رؤية المرأة اليهودية في مجموع الخبرات اللاهوتية.
فإن كنت/كنتِ “مساواتي/ة”، ستختار/ين ما يناسب تلك النظرة من العهد القديم، لإثبات أدوار المرأة كقاضية ونبّية ومحاربة شجاعة وسيدة بلاط حكيمة. أما إن كنتَ/كنتِ “تتميمي/ة”، ففي أفضل الأحوال ستراها/سترينها مُعينًا، عاملًا مُساعدًا لإتمام المقصد الإلهي الكامل للنموذج الأصلي – أي الذكر. فالمساواة والتتميم هُنا فريقان، لم ينتهِ دورهما عند الحقبة اليهودية فقط.
في عصر ما بين العهدين، أغلب الظن 190 ق.م، أخذت أدوار المرأة في الانحسار أكثر فأكثر على صفحات العهد القديم، حيث الكتّاب الذكور. ومن ثمَ، التشديد على ضرورة عزلها منزليًا. فهي إما عذراء عفيفة أو زوجة صالحة.
على عكس المُتداوَل من صور نمطية لشابٍ فلسطينيّ صامت منكسُ الرأسِ في الشوارع، فيما تتطاير خصلات شعره في شوارع أورشليم الرطبة، أطاح يسوع بغالبية الأنماط الاجتماعية المتعارف عليها تجاه النساء.
View this post on Instagram
يسوع المساواتي
ففي الوقت الذي التزم فيه الشعب اليهودي بشرائع المرأة الحائض والنازفة، التي ما أن تلمس شيئًا يستحيل نجاسة، يشفي يسوع، وفقًا لروايات الأناجيل، امرأةً بنزف دم منذ 12 عشر عامًا. بينما يدعو أخرى بعد شفائها في الهيكل في يوم سبت بـ”ابنة إبراهيم”، كان هذا هو اللقب الذي تفاخر به رجال بني إسرائيل فقط لقرون.
أما على الجانب التاريخي، يوضح لنا المؤرخ “جيفري بلايني” جرأة يسوع وتحديه للأعراف. من خلال فريق المريمات (جمع مريم)، اللواتي تبعنه وتلقين التعليم منه في زمن تم حصر التعليم اللاهوتي فيه على الرجال. فيقول: “كانت مكانة المرأة متدنية في فلسطين. لذلك، لم يوافق الكثيرون على نظرة يسوع الرحيمة تجاههن، وبدعة المساواة التي جاء بها. فاصطدمت تعاليمه دائماً بأولئك الذين آمنوا بحرفيَة النصوص”.
في الحقيقة، ربما يكون يسوع “أول” مساواتي يظهر في أكثر البقاع بؤسًا وفقرًا على وجه الأرض. مساواتيٌ لم تتحمله حتى الديانة المسيحية، التي أعادت على تاريخها، حصر النساء في أدوار اجتماعية وجندرية محددة.
وجدير بالذِكر أن يسوع المسيح لم يؤسس التراتبية الهيكلية كما نعرفها اليوم. ولكن كان أول من تحدثَ عن أدوار الأسقف والكاهن والشمّاس، هو بولُس الرسول. وعلى كثرة التعاليم الروحية التي تركها بولُس الرسول، على قدر ما تركَ من إشكاليات تتعلق بالمرأة والخضوع حاولت الأوساط المسيحية الغربية حلّها. بينما تلقّاها الشرق كسُلم جديدٍ في السلطة الأبوية.
ففي الوقت الذي يؤمن فيه بولس بالمساواة في رسالته إلى أهل غلاطية ويقول: “ليس يهوديًّا ولا يونانيًّا ليس عبدًا ولا حرًا، ليس ذكرًا وأنثى لأنكم جميعًا واحدٌ في المسيح يسوع”، يأمر المرأة الكورنثية بالصمت داخل الكنائس، قائلًا: “لتصمُت نساؤكم في الكنائس، لأنه ليس مأذونًا لهن أن يتكلمن”. ويقول أيضًا: وأما رأس المرأة فهو الرجلُ. الأمر الذي ألزم مفسري كتاباته_ في أفضل الأحوال_ بمحاولات فهمها داخل سياقها الزمني والجغرافي. وفي أكثرها سوءًا، باستغلالها لإخراس النساء إلى يومنا هذا.
تحوّلات كنسية مجندرة
حين يجتمع البشر بمعزل عن سلّم التراتبية، نكتشف الحقائق وفقًا لمجموع الخبرات التي يتم تبادل وجهات النظر بموجبها. ولكن، كيف يقودنا ذلك إلى فهم المرأة القبطية في يومنا الحالي؟
لفهم تلك المعضلة، لا يمكننا تنحية التغيرات الإقليمية والسياسية على مدار سنوات طوال. سنوات انتقلت فيها المرأة من مكانة إلى أخرى، ومن حال إلى حال بتغيير المشهد العام في المنطقة، تمامًا كقطع الشطرنج.
في الواقع، لن تكفي بضعة سطور لشرح تأثير انقسام امبراطورية روما العظمى لجانب شرقي وآخر غربي. أو الغزو العربي والانتقال من إمبراطورية إلى أخرى، على سيكولوجية المجتمع القبطي المصري: رجاله ونساءه (بالتعبير الثنائي المحدود للجندر).
يمكن تبسيط الأمر من خلال التفكير في العملية كهبّات متتالية، ثم استسلام، ثم خضوع، ثم خفوت. حيث أكبر الإنجازات هو الحفاظ على وجود مؤسسة نعرفها اليوم بالكنيسة القبطية. ثم فشل يتمثل في فقدان الهوية القبطية، ثم التماهي مع الثقافة العامة.
كان للنساء نصيب الأسد من هذه العمليات التحويلية، إحقاقًا للحق، يكفيهن فيها فخرًا صمودهن إلى اليوم. والحقيقة كم هو مؤسف أن نقرأ تعليقات النساء القبطيات على خبر رسامة القسيسة “سالي عازر”. هل ترى كل أولئك النساء أنفسهن أقل من الرجال؟ كيف يقبلن استحقاق الرجال في تولي المناصب الدينية عنهن؟ لماذا يقبلن وصم النساء المختلفات عن تفكيرهن بالعُهر والانحلال؟
يؤسفني القول أنني وأخريات/ين غيري نعلم كيف حدث ذلك. على الأقل، خلال خمسين عامًا مضتْ. يمكننا تقسيم منهجية تقنين أدوار النساء من منظور الجندر، وتدجينهن داخل المؤسسة الكنسية إلى ثلات مراحل تتضافر كل واحدة مع الأخرى. أولًا: سيطرة الإكليروس، أي المنوطين بالمناصب الكنسية. ثانيًا: ضحالة التعليم الكنسي. ثالثًا: تمرير رسائل الاحتقار والعنف المبني على الجندر.
الجندر وتراتبية السلطة
أولًا: سيطرة الإكليروس
عبر مؤسسة مترامية الأطراف، ولا حرية للأفراد داخلها في مصر وخارجها، غُرس في العقل الجمعي القبطي أنه لا نجاة خارج دفء قطيع الكنيسة. لذا، نجد أن تصرف الأفراد “من دماغهم”، أي تفكيرهم المستقل عن الكنيسة وتحمّل تبعاته، قد اضمحل تدريجيًا. ربما كالمجتمع الأكبر، منذ ستينيات القرن الماضي، هذا الذي ينتظر محركًا خارجيًا سواء أكان سلطة أم إعلامًا، لاتخاذ قرارات ربما تكون تافهة.
علاقة يمكن تشبيهها بعلاقة رضيع بثدي أمه، حيث لا أمان في خروجه من قميصها. إذ يعني خروجه مواجهة عالم قاسٍ مليء بالحروب والانتكاسات والصراعات التي لا تتحمل الشخصيات الهشّة خوض غماره. من هذا المنطلق، ولكونه مجتمع أبوي تراتبي، جرَت عادة استقبال التعاليم والنصح والإرشاد كالتالي: بطريرك، مطران، أسقف، كاهن، شمّاس، رجل، امرأة، طفل! جاءت التعاليم ذكورية، نسبةً إلى سيطرة الرموز الذكورية على الكنيسة القبطية. وفيما يلي نستعرض التعليم الذكوري المتسبب في الكارثة.
ربما يكون يسوع أول مساواتي يظهر في أكثر البقاع بؤسًا وفقرًا على وجه الأرض. مساواتيٌ لم تتحمله حتى الديانة المسيحية التي أعادت، على تاريخها، حصر النساء في أدوار اجتماعية وجندرية محددة.
ثانيًا: ضحالة التعليم الكنسي فيما يتعلق بالنساء
حرصت التعاليم الكنسية خلال خمسين عامًا منصرمة على تدجين النساء تحديدًا، وجعلهن ممسوخات حتى خارج إطار الرتب الكنسية. وبإمكاننا التأمل في اتحاد الجندر مع السلطة، في هذا الصدد. حيث ألزمتهن بالصبر على الشريك المُعنِّف كونه “صليبهن”، الذي سيُجازين عنه حسنًا في السماوات. علاوة على ذلك، أمرتهن بطاعة الوالدين والابتعاد عن إثارة المشاكل. هذه التعاليم تمت مشاركتها مع النساء داخل أروقة الكنيسة في صورة عظات، أو داخل “مدارس الأحد” التعليمية داخل كل كنيسة.
خلال هذه الفترة، كان الحرص على تلك التعاليم مسألة حياة أو موت. فأي محاولة استنارة، قوبلت باغتيال معنوي وتشويه لا تُحمد عقباه. كما نشرها الإصلاحي “متّى المسكين”، في كتابه “فن الحياة الناجحة”. “بعد هذا أتعجب كل العجب. ويملؤني الحزن والأسى أن أسمع الكهنة يمنعون المرأة من التناول. سواء إن كان عليها دمها الشهري أو دم ولادتها ويعتبرونها “نجسة”!
إلا أن البطريرك القبطي السابق، أنبا شنودة، قاوم تلك التعاليم بشدة. وخلال سلسلة عظاته الأسبوعية، التي جرى عقدها كل أربعاء داخل مقر الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، قدّم تفسيرًا يستند مباشرةً إلى التفسيرات الإسلامية حول نجاسة الحائض. يقول: “الدورة الشهرية هي ذكرى سقوط المرأة وخطيئتها الأولى بالأكل من الشجرة. وتركها الله في جسدها حتى تتذكر الخطيئة الأولى، في أوقات الحمل بآلام الحمل. وفي غير أوقات الحمل بالدورة الشهرية وامتناعها عن كل المقدسات”.
جندرة النجاسة والدَنس
تم إخراس آخر محاولات إصلاحية بمقتل الأسقف “أنبا. أبيفانيوس”. حيث اعترف نصًا: “إحنا عمرنا ما قولنا أن المرأة نجسة. هذا الكلام يعني عدم اعتراف بالخطأ، لأن الحقيقة أن النصوص بتقول المرأة نجسة”. واستمرت التعاليم بشأن نجاسة المرأة خلال العظات.
كان أشهرها لأنبا أغاثون أسقف مغاغة والعدوة، حيث قال: “أي تعاليم تنادي بتناول المرأة الحائض خطأ كبير. التناول في أثناء الدورة الشهرية تعدي صارخ ضد الأقداس والمقدسات. واللي يعلم أن المرأة إللي عندها الدورة الشهرية تتناول، صاحب التعليم يستوجب المساءلة القانونية. التناول ده أقدس سر. صحيح المرأة ملهاش يد في كده، علشان الإنجاب وغيره وغيره، لكن ربنا نفسه منع”.
أما عن الكتاب التراثي الشهير “بستان الرهبان” ذي النزعة الرهبانية، فوصل به التطرف إلى تشبيه المرأة بالشيطان. في النص، “وإذا اضطر أحد الرهبان الكلام مع النساء، فليُدر وجهه عن نظرهن عند كلامه معهن. ليفر من لقاء الراهبات ومؤانستهن ونظرهن، كالهارب من فخ الشيطان. لئلا يتسخ بحمأة الأوجاع النجسة، حتى وإن كن أخواته بالطبيعة. فليحفظ نفسه منهن في كل شيء كالغرباء. والأصلح أن يأكل سم الموت، ولا يأكل مع امرأة ولو كانت أمه أو أخته”.
ثالثًا: تمرير رسائل الاحتقار والعنف المبني على الجندر
اشتهر أ. شنودة بقدراته الكاريزماتية وإقناع الجماهير بأسلوب فكاهي يتقبله عامة الشعب. ولكن، كان جزء لا يُستهان به من نواة هذا المزاح، هو المرأة نفسها وتشييئها والانتقاص منها. في يوليو عام 1988، وخلال إحدى عظاته أجاب عن سؤال يطلب رأيه في آنسة تردد التسبحة مع شمامسة الكنيسة. قال: “يعني ترابع والشمامسة ترابع قصادها؟ صوت نسائي وصوت رجالي، الكلام ده عيب خالص! الكنيسة دي عايزة قسيس حمش يروح ينزل البنت من على المنجلية ويقولها: روحي أقعدي هناك.. كده على طول”.
وفي “قفشة” أخرى مشهورة، ردّ نيافته على استجداء سيدة قبطية تطالبه بحل، إذ يخونها شريكها مع العاملة المنزلية ساخرًا. “هاتي الشغالة اتفرج عليها”! والحقيقة، كان الرد أبلغ جواب على استمرارية الاستهانة بآلام النساء وأوجاعهن في مسلسل “هسترة” النساء واعتبار مشاعرهن مبالغًا فيها.
إن حاولنا إحصاء نماذج تهميش وإقصاء المرأة والتشكيك في ذكائها وقدراتها داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية، سنُصاب بالغثيان المرير وخيبة الأمل الموجِعة. واليوم، لا يمكنني إلقاء اللوم على النساء القبطيات، اللواتي يُرددن عبارات حُفرت يومًا تلو الأخر على أرواحهن، من أول أنها رمز الغواية إلى نظرية “كفاية إننا سايبنها”! وذلك كلّه من منظور جندري يتحدى السلطة ويحللها.
نسمع أن التاريخ يكتبه المنتصرون. ولا انتصار دون مشقة اكتشاف النفس، وهو بدوره طريق مؤلم. فإما أن تستعيد النساء قدرتهن على التواصل مع ذواتهن والفخر بها، أو دفنها في غياهب التحقير والإهانة. وكلاهما قرار صعب. نحن نختار لأنفسنا ما نكونه، وأنا اخترتُ.