هل ستكون مشاهد الإجهاض في الدراما خطوة على طريق تعديل القوانين؟
تعتبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكثر الدول قسوة فيما يخص قوانين تجريم الإجهاض عمدًا. وكان للدراما والإعلام المرئي أدوارًا رئيسية في تعزيز الوصمة الاجتماعية المحيطة بالإجهاض المتعمّد في بلداننا الناطقة بالعربية. فقد كبرنا ونحن نرى مشاهد في أفلام ومسلسلات لنساء يجهضن بعد علاقات جنسية خارج إطار الزواج. وفي هذا السياق الدرامي، ركّزت المعالجة في مشاهد الإجهاض في الدراما على ندم وعقاب ووصم اجتماعي، أو موت وقتل. هذا بجانب شعور بالذنب تجاه البويضات، التي يتم إجهاضها، وكأن لها حياة تنهيها الحوامل بالإجهاض.
وبعد غياب نسبي خلال العقدين الأخيرين، تعود مشاهد الإجهاض إلينا في الدراما المصرية بشكلٍ مختلف. وهو شكل أكثر إنسانية عن صورة المرأة “المنحلّة أخلاقيًا” التي تدفع ثمن عدم التزامها بالمعايير الاجتماعية. وقراءة هذه العودة لا تنفصل عن نقلة نسبية في المعالجات الدرامية للشخصيات وأنسنتها (Humanization). كما أنها كذلك لا تنفصل عن صراعاتنا المستمرة لتعديل قوانين الإجهاض في بلداننا، كنساء ونسويّات معنيّات ومهتمات بإحقاق العدالة الجنسيّة والإنجابية. سواء كن عابرات جندريًا، أو نساء تنسجم هوياتهنّ الاجتماعيّة مع جنسهن البيولوجي. والسؤال الآن: هل سيكون للدراما دور في رفع الوصم الاجتماعي عن الإجهاض والمجهضات؟
هناك تصورٌ شائعٌ أن الدراما تُصلح المجتمع، تحت اسم “رسالة الفن”. لكن الدراما كذلك لا تخلو من المنظور الأبوي الذكوري الذي يسعى لتخويف النساء اللواتي يشاهدن الأعمال الدرامية فيصبحن مرعوبات من أن يكون مصيرهن مثل مصير البطلة: مفضوحة، منبوذة، مذنبة، مُعنّفَة أو مقتولة.
قوانين الإجهاض مجحفة
في منطقتنا وبلداننا الناطقة بالعربية، يُعد الإجهاض المتعمّد جريمة. وتعاقب عليها النساء، والطبيبات/الأطباء والعاملات/ين في مجال الصيدلة والقابلات، وكل مَن ساعد امرأة على الإجهاض. تونس هي البلد الوحيد الذي يسمح للنساء بإجراء الإجهاض المتعمّد حتى الشهر الثالث.
وقد أحاطت الوصمات الاجتماعية بالنساء الساعيات للإجهاض، وبالإجهاض نفسه كإجراء لا أخلاقي تسعى إليه النساء غير المتزوجات حصرًا. وكما أغفل ذلك سعي النساء المتزوجات للإجهاض، أغفل أيضًا ضرورات إجراء الإجهاض المتعمّد. كما في حالات الحمل الناتج عن الاغتصاب، سواء كان هذا الاغتصاب من ذكور الأسرة أو من الغرباء. وتزامن ذلك مع تقديس وهميّ لدور النساء الإنجابي أو ما يعرف بالأمومة. وفرض رؤية مفادها وجوب استكمال الحمل، مهما كان سبب حدوثه أو تبعاته على النساء وحيواتهن.
View this post on Instagram
الإجهاض.. وصمة وعقاب
أما الدراما، فقد استمدّت من هذا الواقع المأساوي دورًا أخلاقاويًا من خلال تقديم مشاهد الإجهاض ووصم النساء اللواتي يُردن الإجهاض. وذهب صنّاع الدراما إلى أبعد من مجرد الوصم، بتصوير الإجهاض كشيء لا تسعى إليه النساء المرتبطات بعلاقاتٍ “شرعية” وقانونية. وأصّلت لهذه الرؤية المحدودة بتهويل حدوث الإجهاض من دون زواج شرعي، بأنه فضيحة مرتبطة بما يسمى بـ”الشرف”.
ونظرًا لكونه مفهوم متجذّر في مجتمعاتنا الأبوية، فهذا التهديد للـ”شرف” يستدعي عنفًا تجاه الحوامل يصل إلى القتل.
في هذا الجانب، يكون سعي النساء للإجهاض في هذه المعالجات الدرامية محاولةً للنجاة بالحياة. بالتأكيد، النجاة من الأسرة التي لو علمت بخبر الحمل، ستقوم بقتلها. وهو ما ساعد في التطبيع مع جرائم مرتكبة تحت زعم ما يسمى بـ”الشرف”. خصوصًا مع غياب قوانين لا تجرم العنف الأسري، وتعتبر هذا القتل العمد ضرورةً ذكورية للحفاظ على “شرف” العائلة بأكملها.
وفي محاولات النساء النجاة من القتل و”الفضيحة”، عالجت الدراما مشاهد ما بعد الإجهاض بتصوير المجهضة أنها نادمة لمخالفتها “الكود الأخلاقي”. أو مثلًا بخسارتها لسمعتها وحياتها الاجتماعية كعقاب على ممارستها الجنس دون زواج.
وكانت فترة التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة خير شاهدٍ على هذه المعالجات المتحيزة ضد النساء. أتذكر المسلسل التلفزيوني المصري “زواج على ورق سوليفان”، الذي أقدمت فيه فتاة على الانتحار لأنها حملت من دون زواج. كانت تلك إشارة فجّة ومباشرة إلى أن حياتها الاجتماعية انتهت، ولا داعي لاستكمال حياتها الفعلية. وفي فيلم “مذكرات مراهقة”، قررت البطلة استكمال حمل ناتج عن علاقة جنسية رضائية مع حبيبها. لكنها تعرّضت للاغتصاب وفقدت جنينها في النهاية، كما انتهت علاقتها بحبيبها جرّاء ممارسة الجنس الرضائي بلا زواج.
الإجهاض في الدراما من منظور إنساني
مؤخرًا، عرضت شبكة قنوات “إم بي سي” السعوديّة على منصتها الرقميّة “شاهد” بعض الأعمال الدراميّة التي تضمنّت مشاهد إجهاض متعمّد. لكن اللافت للانتباه كان معالجة تلك المشاهد دون وصمٍ اجتماعي، أو عقاب للمجهضات بنفس القدر الذي اعتاده الجمهور.
ففي مسلسل “وش وضهر”، تُقدم صديقة البطلة على الإجهاض في عيادة غير مُجهزّة، بعدما تخلّى عنها حبيبها. هنا، أتى مشهد الإجهاض مؤلمًا ليُحفز مشاعر التعاطف لدى الجمهور مع الشخصية. وذلك لأنه مثّل مشهدًا واقعيًا، عندما ألقت العاملات في العيادة شخصية “هبة” في مكان مهجور بعدما حدثت مضاعفات طبيّة أثناء الإجهاض. ليتم نقلها إلى مستشفى عام حيث تلقّت الرعاية الطبيّة من دون وصم، واستكملت بعدها حياتها دون أن يتم نبذها اجتماعيًا.
وكذلك، لم تقدّم تجربة الإجهاض كعقاب على ممارستها للجنس وهي غير متزوجة.
كان ذلك المشهد ضمن سياق العمل، شأنه شأن باقي المشاهد – أي لم يكُن محملًا بالوصم والعقاب_ على العكس، فتقديم مشهد الإجهاض بهذا الشكل قد أوضح لنا كجمهور، ما يعنيه السعي للإجهاض في بلدان تعتبره جريمة. وأظهر كيف قد تدفع النساء حيواتهن ثمنًا لهذا التجريم، لمجرد أنهنّ غير متزوجات. في هذه المعالجة، استقبل مستشفى عام امرأة مجهضة دون الإبلاغ عنها “بتهمة” الإجهاض. على عكس فيلم “أسرار البنات”، الذي يقوم فيه الطبيب بإجراء عملية “ختان” للبطلة عقابًا لها على حملها خارج إطار الزواج. بمقارنة الفيلمين، سنجد نقلة نوعية لدى صناع/ صانعات الدراما في عرض الواقع مجرّدًا. ويحدث هذا بالعزوف عن “إصلاحه”، أو إلحاق الأذى بالشخصيات النسائية غير الملتزمة بالمعايير الاجتماعية.
الخروج من نمط عقاب الشخصية النسائية، هو نتيجة لحملات الدفاع والمناصرة ضد ثقافة لوم الناجيات/ الضحيات المنتشرة كالوباء.
الدراما الجديدة
في مسلسل “النزوة”، يكتشف البطل أن ابنته القاصر قد حملت دون زواج. وبدلًا من محاولة قتلها أو تعنيفها، يتعاون مع الأم في النقاش مع الابنة حول هوية الشخص. لتقوم الأم بالتواصل مع طبيب العائلة وتحصل على حبوب تحفيز الإجهاض لابنتها. ثم يتم الإجهاض بمساعدة الأسرة وتحت إشراف الأم والطبيب.
لكنّ هذا المشهد تسبب بموجة غضب على مواقع التواصل الاجتماعي من جمهور المحافظين/ات. هؤلاء الذين/ اللواتي اعتبروا/ن المشهد غير واقعي، بالإضافة إلى اعتباره تشجيعًا للفتيات على ممارسة الجنس دون زواج. بالطبع، لأن الأب لم يعاقب ابنته بالضرب والقتل كما هو معتاد.
قد نعتبر مشهدًا كهذا مخالفًا للواقع. إلا أن هذا الواقع هو عنيفٌ وأبوي، يفاجئنا أحيانًا بأسرة قد لا تكون داعمة بالمعنى الحرفي. ولكنها ليست أسرة عنيفة بالمعنى الحرفي أيضًا. في تجربة الإجهاض هذه، ساعدت الأسرة ابنتها رغم أنها مخطئة في نظرهم، وجنّبتها مخاطر السعي للإجهاض في عيادة غير مجهزة. كما جنّبتها تعرّضًا محتملًا لمضاعفات طبية، كما في “وش وضهر”، أو الانتحار كما في “زواج على ورق سوليفان”.
في مسلسل “أزمة منتصف العمر” المعروض حديثًا، تكتشف البطلة أنها حاملٌ من زوج ابنتها بالتبني. في مشهد الإجهاض، ترى البطلة سرير الولادة وتصاب بالذعر والخوف، وتهرب. ورغم أن المسلسل نفسه غارقٌ في النمطية، إلا أن قرار احتفاظها بالحمل لم يصحبه مبررات دينية. تلك التي دائمًا ما يتم استخدامها في سياق الحديث عن الإجهاض، والتي رغم شيوعها إلا أنها غير صحيحة. أو مبررات أبوية نمطية كرغبة البطلة في الأمومة تحت أي ظرف ومهما كانت العواقب.
الإجهاض في الدراما: منطقة رماديّة إنسانيّة
من خلال هذه المشاهد وغيرها، لدينا أمل أن تخرج الدراما جزئيًا من دور “المصلح” الاجتماعي. هذا الدور الذي يتم حصر الأعمال فيه من جانب صنّاع/صانعات الدراما أنفسهم/ن، ومن جانب الجمهور وشركات الإنتاج.
وفي هذا الصدد، تأتي مشاهد الإجهاض بصورة قد نسميها “عادية”، أي تحمل مشاعر مختلطة من جانب البطلات والمشاهدين/ات. وتلك ما نسميها المنطقة الرمادية الإنسانية التي تنظر إلى الشخصيات النسائية وتصورهن كبشر. حيث لا تقدمهن كـ”كبوش فداءٍ” لقيم المجتمع وقوانينه الظالمة بحق النساء.
فالنساء الساعيات للإجهاض عادة ما تتم شيطنتهن لتقديم “عبرة” من قصص حيواتهن المخالفة “للعادي النمطي”. لكن مؤخرًا، أصبح تقديمهن أكثر إنسانيةٍ من أجل الشخصية نفسها.
هناك تصورٌ شائعٌ أن الدراما تُصلح المجتمع، تحت اسم “رسالة الفن”. لكنّ الدراما كذلك لا تخلو من المنظور الأبوي الذكوري الساعي لتخويف النساء. هؤلاء اللواتي يشاهدن الأعمال الدرامية فيصبحن مرعوبات من أن يكون مصيرهن مثل مصير البطلة: مفضوحة، منبوذة، مذنبة، مُعنّفَة أو مقتولة.
هذه النظرة الإنسانية للشخصيات النسائية في الدراما العربية، أراها امتدادًا للحراك النسوي في منطقتنا، وبعضًا من ثماره التي طالما حاربنا من أجلها. فالخروج من نمط عقاب الشخصية النسائية، هو نتيجة لحملات الدفاع والمناصرة ضد ثقافة “لوم الناجيات/ الضحيات” المنتشرة كالوباء.
ربما يدرك بعض صناع/صانعات الدراما اليوم أن تقديم عمل بشخصية نسائية يلزمه التركيز والتدقيق في واقع النساء ككل. وهو بدوره ما سينعكس على واقعية العمل أو محاكاته للواقع الذي يعكسه. مقابل أعمال درامية سابقة تستهدف إصلاحًا اجتماعيًا على حساب البطلات وذوي وذوات الهويات الجندرية غير النمطية والميول الجنسية غير المعيارية. ربما تلك بداية طريق لا يسعى لعقاب النساء على الشاشة. وربما تكون تلك بداية لرؤية أعمال تتعدى تقديم شخصية نسائية بشكلٍ إنساني، إلى وجود شخصية نسائية تحمل قيمًا نسويّة. وهو ما نطمح إليه حاليًا.