كيف فككت النسوية تصنيفات “العادي” و”الطبيعي”؟

اعتمدت الأنظمة الأبوية والقمعية على تصنيفات “العادي والطبيعي” لتثبيت أقدامها في قمع النساء والمهمشات/ين. إلا أن النسويات، وعلى مدار عقودٍ طويلة، فككن هذه التصنيفات التي يتم استخدامها كأداوات لترسيخ العنف تارة، والطمس والمحو تارةً أخرى.

لنفهم هذه التفكيكات ومراحلها التاريخية، علينا سرد أصولها ومردوداتها على الفئات التي يتم تطبيقها عليها. من هنا، نسلّط الأضواء على إثارة النسوية لجدالاتٍ حول تلك التصنفيات انطلاقًا من تحليل أوضاع النساء في ظل النظم الأبوية والرأسمالية.

ومن ثمَ، كيف عادت هذه الجدالات بالفائدة على فئات أخرى مهمّشة، خاصة ذوات/ذوي الهويات الجندرية غير النمطية والميول الجنسية غير المغايرة.

تحارب النسوية تصنيفات “العادي والطبيعي”، من أجل مساحة تعددية تقبل الجميع.

ما هو “الطبيعي”؟

جادلت النسويات حول مفهوم “الطبيعي” ومفهوم الطبيعة ذاتها. لكن الفضل الأكبر في هذا الثراء يرجع إلى النسويات اللواتي انتقدن نظرية العمل الماركسية. إذ انطوت نظرية العمل على تجاهلٍ لأوضاع النساء تحت الرأسمالية، ومعاناتهن مع الأبوية.

تؤصل نظرية العمل إلى أن البشر متحدات/ين مع الطبيعة من حولهن/م، وهي المصدر الأول لتلبية احتياجاتهن/م الأساسية. وفي تحليلها لتاريخ نشوء الرأسمالية، تم تقديم النساء كجزءٍ من الطبيعة التي يتم تطويعها لخدمة البشر، بسبب بيولوجية أجسادهن وأدوارهن الإنجابية.

لذلك، يُعد إغفال نظرية العمل لكون النساء لسنَ جزءًا من الطبيعة، تأصيلًا أبويًا للعنف ضد النساء.

انتقدت النسويات الماركسيات هذا الترادف بين النساء والطبيعة، وفكّكن ذلك التأصيل الأبوي لأدوار النساء في المنظومة الأبوية الرأسمالية. إذ حللن كيف نشأت الرأسمالية على كواهل النساء، وحصرهن في أدوارهن الإنجابية، لتقوم باستغلال هذه الأدوار لصالح بقاءها.

وفي المراحل الأوليّة للرأسمالية، تم حصر النساء ومساواة وجودهن على المنزل، على اعتبار أن ذلك هو دورهن ومكانهن “الطبيعي”. وكما أغفلت الرأسمالية عن عمد دور النساء في سيرورات الإنتاج الأولية، بسبب الإنجاب ومهام الرعاية التي تم تأنيثها قصدًا. أغفل الماركسيون الذين انتقدوا الرأسمالية، هذه المساهمة أيضًا.

فأصبحت النسويات يحاربن مفهوم الدور “الطبيعي” والمكان “الطبيعي” للنساء، على جبهتين: جبهة الرأسمالية، وجبهة الماركسية.

الانطلاق من أوضاع النساء إلى أوضاع الفئات المهمشة

لم يقتصر النقد النسوي على مفهوم “الطبيعي” بالنسبة إلى الأدوار الاجتماعية للنساء. حيث انتقدن كل ربطٍ أبويٍ بين النساء والطبيعة. منها مثلًا، رفض النسويات تقسيمات العمل المبنية على الجنس البيولوجي: (الرجال يعملون خارج المنزل. والنساء يمارسن “أدوارهن الطبيعية” داخل المنزل). كما رفضن التقسيمة الجندرية الثنائية للمشاعر أيضًا: (الرجال عقلانيون، والنساء عاطفيات).

ومن هنا كانت انطلاقة تفكيك الربط الأبوي بين الجنس البيولوجي والدور الاجتماعي.

وذهب التفكيك إلى أبعد من ذلك، إذ رفضت النسويات الثنائيات المحدودة للهويات الاجتماعية (رجل/امرأة) والتي يتم تقديمها على أنها “طبيعية”، وأي شكلٍ آخر مختلف عنها، يقع في خانة “غير الطبيعي”.

ثم انتقلن إلى ثنائية الجنس البيولوجي (ذكر/أنثى)، وركزن على أن الجنس البيولوجي نفسه (كما الهوية الاجتماعية)، ليس ثنائيًا. وذلك بسبب وجود أشخاص ثنائيات/ثنائيي الجنس البيولوجي واللواتي/الذين يتم اعتبارهن خارج تصنيف “الطبيعي”.

اعتمدت النسويات في هذه التفكيكات على أسئلة هامة. مثلًا: كيف يتم تصنيف “الطبيعي”؟ هل “الطبيعي” هو الشيء الذي لم يتدخل فيه البشر شأنه شأن ما نُسميه “الطبيعة”؟ وإذا كانت (س) هي/هو “الطبيعي/ة”، فماذا عن (ص) الواقع/ة خارج هذا التصنيف المحدود؟

العادي والطبيعي.. بنيات اجتماعية وسياسية

لم تتوقف النسويات هنا. فبدأن في تفكيك دلالات تصنيف “الطبيعي”، والكلمات التي عادة ما يتم استخدامها لترسيخ هذه التصنيف الأبوي الرأسمالي، مثل “العادي”. جرَت العادة على استخدام اللفظين معًا، أو في ترادفٍ متبادل، حين يحل أحدهما مكان الآخر.

تعتبر النسوية أن الأفعال، والأفكار، والقيم، والتوجهات ما هي إلا بنيات اجتماعية سياسية اقتصادية. فكل شيءٍ تم وصفه بـ”العادي والطبيعي”، هو تسييد متعمّد لهذه البُنى، ولخدمة أغراضها. وهذا التسييد يكون بالقبول المجتمعي، والقوانين والسياسات والخطابات القمعية والممارسات الشخصية. في المقابل، أي شيء لا يتم وصفه بـ”العادي والطبيعي”، يتم إنكار وجوده، ومحاربته، وطمسه.

أمام كل شيء “عادي وطبيعي”، هناك أشياء يتم تهميشها لأنها لا تقع في هذه الخانة. ذلك لأن وجود هذه الأشياء، يهدد بقاء “العادي والطبيعي”. وبالتالي، يُهدد بقاء الأنظمة المهيمنة. تعتمد هذه التصنيفات على قمع المختلف عنها، بوصفه “غير عادي وغير طبيعي”.

لو أخذنا مثالًا حيًا على هذا التهديد، فإن التطبيع مع أدوار النساء الإنجابية والاجتماعية وحصرهن على المجال الخاص، يستهدف أن تظل النساء تحت هيمنة الرجال والسلطة. ومع أي تغييرٍ في هذه الأدوار الاجتماعية بين الرجال والنساء بالمفهوم النمطي، فإن بنية النظم الاقتصادية والسياسية الاجتماعية ستختلف كليةً.

وهو ما لم تكُن هذه النظم مستعدة على المساومة من أجله، إلا مؤخرًا. حينما أصبحت حاجتها ومصالحها في خروج النساء من المنزل إلى العمل، تساهم في رفع العبء الاقتصادي عن الرجال. لتستمر بذلك دائرة القمع الهيكلي.

“العادي والطبيعي”.. كأدواتٍ للعنف والإقصاء

ومن ثم تبقى البنيات المهيمنة كلٍ منها في مكانه. لذلك مثلًا، نجد قوانين وسياسات تشجّع النساء على الخروج من المنزل، وتوفر لهن حماية من عنف الرجال والعنف الهيكلي خارجه. إلا أن العنف داخل المنزل والذي يمارسه الرجال ضد النساء والفتيات، لا يزال مُقننًا، بسبب غياب القوانين والسياسات التي تجرّمه.

في هذا الصدد، ضاعف تأنيث أعمال الرعاية و”عاديّتها” أعباء النساء وحرّر الرجال من مسؤوليات الرعاية.

فاعتبار “المنزل” مكان النساء “الطبيعي”، يُعرّض النساء للعنف خارج المنزل، ويطبّع العنف داخله. ويأتي اعتبار الميول الجنسية المغايرة “عادية وطبيعية”، مؤديًا إلى تهميش وقمع الميول الجنسية الأخرى.

وبنفس القياس، يتم اعتبار الميول الجنسية الأخرى “غير عادية وغير طبيعية”. إضافةً إلى أن اعتبار الهويات الاجتماعية مرتبطة بالجنس البيولوجي، يؤدي إلى الحرمان من حق العبور الجندري، وممارسة عنف وإقصاء ضد الأشخاص غير المنصاعات/ين لهذا الربط.

علاوةً على ذلك، فإن تصنيف “الطبيعي” يتعدى الأفراد ويخلق العنف. ونرى ذلك بوضوح في اعتبار أن بلدان المنشأ والميلاد، هي المكان “الطبيعي” للأفراد. وكنتيجة، يتم ممارسة عنفًا وإقصاءً بالقوانين والممارسات العنصرية التي تحدُّ من حرية انتقال الأفراد بين الحدود الجغرافية. خاصةً اللاتي/الذين يهربن/يهربون من جحيم بلدان المنشأ. وذلك على أثر حروب ومجاعات وأوضاع سياسية واقتصادية، خلقتها نفس النظم والخطابات التي تحدُّ من حركاتهن/م خارج هذه المناطق.

في سياقاتٍ أخرى، يتم استخدام وترسيخ خطابات “العادي والطبيعي” عند الحديث عن الإعاقات الجسدية والذهنية. وكذلك نجدها متجليةً في الحديث عن الصحة النفسية والعقلية.

أمام كل شيء “عادي وطبيعي”، هناك أشياء يتم تهميشها لأنها لا تقع في هذه الخانة.

“العادي والطبيعي”، هما السائد والنمطي

يتطلّب تفكيك البنيات القمعية المهيمنة طرح أسئلةٍ تبحث في عمق هذه البنى، وتفتّش في نواياها للوقوف على الأسباب.

من هنا، بحثت النسويات وقدّمت فرضيّات واقعية. هل “العادي والطبيعي” هو “عادي وطبيعي”، أم تم اعتياده وتطبيعه عن قصدٍ؟

أخدت النسويات على عاتقهن مسؤولية خلق البدائل لما تم تطبيعه واعتياده بالإكراه. إذ أن وراء كل شيء تم تطبيعه، محوٌ متعمّد لأي شيء يخالفه، ليكون هو “العادي والطبيعي” والمسار الوحيد أمام البشر. وهذه مهمةٌ صعبة، إلا أن النسويات أثبتن براعتهن في إتمامها.

واستبدلت النسوية كلمة “العادي”، بكلمة “السائد” – أي الذي تم فرضه وتسييده وتهميش ومحو غيره. كما استبدلت كلمة “الطبيعي”، بكلمة “النمطي” – أي الذي تم قولبته عن قصدٍ واعتباره النمط الوحيد المتاح.

تحارب النسوية تصنيفات “العادي والطبيعي”، من أجل مساحة تعددية تقبل الجميع. حيث تفتح آفاقًا جديدة لقبول الاختلاف والتعدد عن السائد النمطي، الذي يخدم الأنظمة القامعة على حساب فردانية الأفراد والجماعات.

تعظّم النسوية التعدد والتنوع، وتُرسي قيم القبول التي احتكرها النظام الأبوي لقرون، ودفعَ المختلفين/ات أثمانها من حيواتهن/م، وأجسادهن/م، وسلامتهن/م النفسية.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد