ما هي حركة أجور مقابل العمل المنزلي؟

لا تترك الحركات النسوية الجذرية ساحة الظهور قط، لتظهر معها النقاشات والجدالات حول القضايا التي تناضل من أجلها. حركة “أجور مقابل العمل المنزلي”، على سبيل المثال، هي واحدةٌ من أهم الحركات النسوية السياسية.

تمثل الحركة أهميةً تاريخية وسياسية كبرى لمناقشة وتفكيك الأعمال المنزلية وفهم جذورها، خصوصًا داخل الخطابات الأبوية. فأغلب هذه الخطابات تناقش العمل المنزلي كطبيعة ودور أساسي للنساء والفتيات.

ماهي حركة أجور مقابل العمل المنزلي؟

حركة “أجور مقابل العمل المنزلي” هي حركةٌ نسوية أممية، تناضل ضد الرأسمالية، وترفض المنظور الاقتصادي الذي يحوّل عمل النساء في المنزل إلى عملٍ غير مقدّر، وغير مرئي، وغير مدفوع.

في هذا السياق، قدمت الحركة منظورًا جديدًا للحركة النسوية لا يزال مهمًا حتى اليوم، فأطلقت شعار الأجر مقابل العمل في المنزل. من خلال هذا الشعار، لفتت الأنظار إلى الاستغلال الاقتصادي والجسدي والنفسي الذي تتعرض له النساء والفتيات في المنازل. وفكّكت أهمية ما يقمن به في ظل استمرار عجلة النظام الاقتصادي الرأسمالي، باعتبار أن عملهنّ هو ما يضمن استمرار الحياة نفسها.

تأسست حركة “أجور مقابل الأعمال المنزلية” من قبل مجموعة نسوية أممية سنة 1972، في مؤتمرٍ نسوي في مدينة بادوفا في إيطاليا. وخلال سنتين فقط،قامت بمؤتمراتٍ في أمريكا وانجلترا وكندا وإيطاليا، قدّمت خلالها منظورًا نسويًا جذريًا ومختلفًا للعمل الرعائي الذي تقوم به النساء حصرًا.

وهذا النوع من العمل ليس حتمية بيولوجية وليس نابعًا من الحب. فالعمل الرعائي تمّت قولبته عبر التاريخ وتحديدًا مع ظهور الرأسمالية، لأنه يساهم في عملية إعادة الإنتاج، بتقديم المأكل والمشرب والعناية الصحية والعاطفية للعمال. وهو ما يضمن أن يظلوا مساهِمات/ين في قوى الإنتاج التي تراكم الثروة للطبقة المهيمنة.

يركّز الهدف الأساسي للحركة على الجمع بين العمال/العاملات غير المأجورين/ات في المنازل (الأمهات، والزوجات، والعاملات المنزليات المحرومات من الأجر)، وبين مقدّمي/ات الخدمات الاجتماعية دون أجر. كانت ذلك من أجل تنظيم حركة قاعدية تناضل من الأسفل، وتفكّك علاقات القوة في الأعلى، بما فيها الطبقية والأبوية.

قامت مؤسسات حركة “أجور مقابل الأعمال المنزلية” بتحليل تأثير الاستغلال الرأسمالي والإقصاء اليساري على النساء وقضاياهن. حيث تقوم الرأسمالية والأبوية بإنكار العمل المنزلي كعمل، رغم أنها تعتمد عليه للبقاء من جهة. ومن جهةٍ أخرى، يقوم اليسار بتضييق مفهوم “النضال” وجعله محدودًا بالعمل المأجور والصراع الطبقي من داخل المصانع والحقول فقط.

العمل المنزلي هو عمل

شدّدت حملة “أجور مقابل العمل المنزلي” على كونه عملًا، لكنه غير مدفوع الأجر وغير معترف به. فجميع النساء هن عاملات تستغلهن الرأسمالية لمراكمة الأرباح، وجميع البيوت هي أماكن عمل. وكان طلب الأجر مقابل العمل المنزلي هو طلبٌ رمزي.

ما كان مهمًا حقًّا هو الاعتراف بعمل النساء المهمَّش عن قصد، على الرغم من قيام البنى الاقتصادية والاجتماعية عليه.

وأدى تحليل الأعمال الرعائية والإنجابية من خلال منظور العمل واستخدام استراتيجيات النقابات إلى تعطيل نظام القيم الأبوية والرأسمالية بأكمله، الذي يربط دور النساء الإنجابي بالعمل المنزلي.

فالمطالبة بأجرٍ -قبل كل شيء- هو اكتشاف لما تكون عليه المرأة كعاملةٍ تقدم أعمالًا مجانية كالرعاية. وبناءً عليه، دعت الحركة إلى النضال ضد ظروف الأعمال الرعائية الاستغلالية، والتفاوض بشأن الخدمات المقدّمة، وتحديد مدتها.

ومع تراكم النضال، يمكن رفض العمل المنزلي كدورٍ تم حصره بالنساء، وتدمير فكرة أنه جزءٌ من “طبيعتهن”. يصبو ذلك إلى تفكيك علاقات القوّة ومهاجمة نظام الهيمنة في العلاقات الجنسانية والعلاقات الطبقية.

استخدام العمل المنزلي لتسييس قضايا العدالة الاجتماعية

وعن أهداف الحملة الأساسية فهي جمع الأشخاص المكلفات/ين بالأعمال المنزلية والرعائية للنضال من أجل تغيير وضعهن/م.

أما المسار، فهو عكس علاقات القوّة، وإعادة توزيع الثروة التي ساهمن/وا في إنتاجها، بالربط بين النساء العاملات باعتبار أن الأغلبية تنتمي إلى الطبقة العاملة، ومعظم نساء هذه الطبقة يعملن داخل المنزل وخارجه. بالتالي، يعشن أوضاعًا اقتصاديةً واجتماعيةً سيئة، ويتعرّضن للاستغلال الطبقي والأبوي في المجالين العام والخاص. وهنّ يشكّلن قوةً نضاليةً، إذا توحدت حول تدمير ظروف العمل المأجور وغير المأجور يمكنها تأسيس قاعدة شعبية ضد الرأسمالية والأبوية.

وبهذا المعنى، أصبحت أهداف النضال في الحركة فرصةً لتسييس قضايا العمل الرعائي وقضايا العدالة الاجتماعية والطبقية. شملت هذه الأهداف الإعانات العائلية والرعاية المجانية للأطفال، والصحة الإنجابية، والاستقلال الإنجابي والجنساني، والحرية الجنسية، وحقوق عاملات الجنس ومجتمع الميم-عين، وتوفير المرافق الاجتماعية مثل ملاجئ للنساء، وتبنّي قضايا العمال/العاملات في البيوت والمعامل والمزارع، والباعة والعاملين/ات في قطاع الخدمات العامة والخاصة.

كما استخدمت الحركة مفهوم الأجور للفت الانتباه إلى قطاعاتٍ أوسع مثل الظروف المعيشية، أي الواقع الذي يعشنه النساء العاملات في المنازل. وبالتالي، طالبت بتوفير السكن والنقل اللائق والمجاني، والخدمات الاجتماعية.

بالإضافة إلى المطالبة بتوفير مراكز رعاية نهارية يمكن للنساء الوصول إليها، من شأنها تقليص وقت الأعمال المنزلية. لذلك، شكلت الحركة نضالًا عماليًا ونسويًا لتغيير الظروف الاجتماعية والاقتصادية للجميع.

نوع جديد من السياسة

تحدّت الحركة الطرق التقليدية لممارسة السياسة، فوصفت مؤسساتها السياسة التي يقوم بها الرجال بالمملة والإقصائية. وعليه، التزمت النسويات بخلق مساراتٍ جديدةٍ فيها الكثير من البهجة، والتواجد مع نساء أخريات لتحدي عزلة البيوت.

في هذا السياق، قدّمت الحركة منظورًا يسمح ببناء أو صياغة مجموعة كاملة من النضالات ليس فقط في الأحياء والمنازل، بل في المستشفيات والمصانع وقطاع الخدمات أيضًا. ومثّلت هذه النضالات محاولةً جديدةً لرفض الفصل بين المجال الخاص والعام في النضال ضد الرأسمالية.

من هنا، بدأ تغيير النظر إلى القضايا وفق سلّم الأولويات من خلال إظهار الرابط بين الأبوية والرأسمالية.

ساهمت الحركة أيضًا في إعادة تصوّر المنزل كمكانٍ عمل. فلا يمكن للحركة النسوية أو الحركات اليسارية الفصل بين الصراع الطبقي والصراع ضد الأبوية والاستمرار في النضال ضدهما.

تحدّت الحركة الطرق التقليدية لممارسة السياسة، فوصفت مؤسساتها السياسة التي يقوم بها الرجال بالمملة والاقصائية. وعليه، التزمت النسويات بخلق مساراتٍ جديدةٍ فيها الكثير من البهجة، والتواجد مع نساء أخريات لتحدي عزلة البيوت.

في هذا الإطار، ربطت سيلفيا فيديريتشي في أحد كتيّبات الحركة بين استغلال الرجال في العمل واستغلال الرجال للعنف ضد النساء داخل المنزل. إذ ينفّسون عن الاستغلال الذي يتعرّضون له في أجساد النساء والفتيات.

وعليه، يجب إيجاد بدائل تربط بين المقاومة الفردية والمقاومة الجماعية التي تخرج هذه القضايا من المطبخ وغرف النوم إلى الشوارع. ومن خلال حركة جامعة بين النضال ضد الاستغلال في المنازل والاستغلال في المصانع أو أماكن العمل، قدّمت الحركة منظورها النسوي.

محاربة استغلال العاملات المنزليات

شدّدت حركة “أجور مقابل العمل المنزلي” على أن الحل لن ينبع من نفس النظام أو استغلال نساء أخريات. وانتقدت الموجة الثانية للنسوية ومنظورها في أن التحاق النساء بالعمل المدفوع سيضمن التحرر من النظام الأبوي.

قام هذا المنظور الليبرالي بمفاقمة الطبقية، وترك مزيدًا من النساء تحت استغلال الرأسمالية، التي تركت “الأعمال المنزلية” لعاملات المنازل بأجور زهيدة. الأمر الذي عرّضهن لمزيدٍ من الاستغلال والعنصرية كون أغلبهن من فئات عرقية مهمشة، بدلًا من تفكيك النظام الأبوي والرأسمالي من خلال تحدّي مفهوم العمل المنزلي ونقله نحو المعركة الكبرى ضد استغلال قوى الإنتاج.

ولهذا السبب بالأخص، حذرت الحملة من الوقوع في فخ الأبوية الرأسمالية الداعي إلى مواصلة النساء للعمل المنزلي بدون أجر أو بأجر منخفض. وقدّمت الاعتراف بالعمل المنزلي كمساهمٍ رئيسي في استمرار عمليات الإنتاج كبديل. إذ يسمح ذلك ببناء مستقبل نسوي تكون فيه الرعاية عملًا اجتماعيًا عوضًا عن اعتبارها عملًا مؤنثًا.

محاربة الإقصاء في التيارات اليسارية

باختصار، اعتبرت الحركة أن “العمل المنزلي” هو كل عملٍ يتم تأنيثه في الفضاءات الاجتماعية داخل المنزل أو خارجه. كما فكّكت العمل الاجتماعي والعاطفي، وأشارت إليهما بوصفهما عملًا مُنتجًا يبقي الطبقة العاملة على قيد الحياة وبصحةٍ جيدة بما يكفي لإنتاج نفس البنى القمعية. بالطبع، يشمل هذا تقديم الجنس والإنجاب والتغذية وعدم الإضرار بمشاعر الرجال.

إلا أن ذلك تم تهميشه من قبل كل من اليسار الأبوي والحركة العمالية. فقد اعتبر اليسار الراديكالي قضايا النساء ثانوية في مسألة الصراع الطبقي. وعمد إلى تحليلاتٍ كسولةٍ تتحدث باسم النساء ولا تمنحنّ مساحةً لتمثيلِ أنفسهن وقضاياهن.

قامت مؤسسات حركة “أجور مقابل الأعمال المنزلية” بتحليل تأثير الاستغلال الرأسمالي والإقصاء اليساري على النساء وقضاياهن.

إذ تقوم الرأسمالية والأبوية بإنكار العمل المنزلي كعمل، رغم أنها تعتمد عليه للبقاء من جهة. ومن جهةٍ أخرى، يقوم اليسار بتضييق مفهوم “النضال” وجعله محدودًا بالعمل المأجور والصراع الطبقي من داخل المصانع والحقول فقط. وبالتالي، همّش اليسار أي عمل يساعد في بقاء عجلة رأس المال، مثل العمل المنزلي والعمل الإبداعي غير المادي.

تعتبر تلك استراتيجية سلطوية مزدوجة تعمل على استغلال قوة عمل النساء الإنجابية والاجتماعية، وتبقي مفاتيح النضال في أيدي الرجال اليساريين مغايري الجنس.

هل الحركة تطبع العمل المنزلي أم تدعو لتفكيكه؟

تلقّت حركة “أجور مقابل العمل المنزلي” الكثير من الانتقادات، وبالأخص من التيارات اليسارية، التي اعتبرت أن طلب أجور مقابل العمل المنزلي يعارض النظرية الماركسية حول مفهوم الأجر وقيمة العمل.

بينما رأت الانتقادات النسوية الموجّهة إلى الحركة أن شعار الحركة يؤدي إلى تطبيع العمل المنزلي والمساهمة في إبقاء النساء داخل المجال الخاص. رغم ذلك، كانت مؤسِّسات الحركة من ضمن الجيل الماركسي المساهم في تطوير نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي.

“يقولون أنه عملٌ نابعٌ من الحب ونحن نقول أنه عملٌ غير مأجور”

تعدّ هذه النظرية ركيزةً أساسية لمشروع تحرّر النساء والفئات المهمشة والمفقرة والمضطهدة. يرجع ذلك إلى كونها المفتاح لتحليل علاقات القوّة وتطويق الأنظمة الرأسمالية والأبوية التي تراهن عليها في تشكيل المجتمع. وبالتالي، قدّمت الحركة قراءة نسوية ماركسية لمفهوم العمل نفسه. وألقت الضوء على الفئات المساهمة في سيرورات الإنتاج، التي يتم تهميشها حتى من القوى الثائرة على النظام الاقتصادي.

مثلما ورد في الفقرات السابقة، قدّمت الحركة تحليلًا نسويًا لشعارها. لا يدعو شعار “أجور مقابل العمل المنزلي”، إلى تأنيث العمل المنزلي أو جعله مدفوعًا. ولكنه شعارٌ رمزيٌ يفكك نبوع هذا العمل من الاستغلال لا الحب أو البيولوجيا، كما تروج الخطابات الأبوية.

علاوةً على ذلك، أطلقت الحملة في شعارها “يقولون أنه عملٌ نابعٌ من الحب ونحن نقول أنه عملٌ غير مأجور”. كانت تلك إشارة إلى ضرورة الاعتراف بالعمل المنزلي كمساهمٍ رئيسي في علاقات الإنتاج.

رغم الانتقادات، أعطت الحركة منظورًا جديدًا لفهم النضال النسوي كنضالٍ أمميٍّ معادٍ للرأسمالية ورافضٍ للإقصاء الذي يطال قضايا النساء والفتيات. يحدث هذا باعتبار قضاياهن أساسًا لمحاربة الرأسمالية والأبوية، وعدم الانخراط في المخططات التي تقصيها أو تدجّنها لصالح الأنظمة.

مؤسسات حركة أجور مقابل العمل المنزلي

تأسست حركة أجور مقابل العمل المنزلي على يد نسويات ثوريات يساريات طالبن لأول مرة بالأجور مقابل أعمال الرعاية وهن:

ماريا روزا دالا كوستا

ناشطة نسوية وكاتبة ومؤسسة لعدد من التنظيمات النسوية منها “أجور مقابل الأعمال المنزلية”، و “المجموعة النسوية الأممية”، و “منشورات الأدب النسوي”.

مثّلت ركنًا أساسيًا في العمل النسوي الرامي إلى تحدي الذكورية في الحركات العمالية. وشاركت في تأسيس النقاشات النسوية حول إعادة الإنتاج الاجتماعي والرأسمالية الذكورية.

سيلفيا فيدرتشي

ناشطة نسوية ومنظّرة أكاديمية وأستاذة جامعية. اشتهرت بكتاباتها المناهضة للرأسمالية والأبوية والكتابات التي فككت فيها تاريخ هذه الأنظمة.

ساعدت في تأسيس العديد من المنظّمات النسوية واليسارية منها “المجموعة النسوية الأممية”. كما ساهمت في إطلاق حملة “أجور مقابل العمل المنزلي”. وشاركت في العديد من التنظيمات النضالية المناهضة للاستعمار والرأسمالية وتدمير حقوق الشعوب الأصلانية. وهي تعتبر من رائدات النسوية الماركسية والتاريخ النسوي.

سلمى جيمس

ناشطة نسوية واجتماعية، وأكاديمية. انخرطت في تشكيل سردٍ نسوي عن الحركة النسوية، ولها العديد من الكتابات المهمّة حولها.

ساهمت في تأسيس حركة “أجور مقابل الأعمال المنزلية”، لإبراز كيف تُستخدم الأعمال المنزلية وأعمال الرعاية ككل في إنتاج الطبقة العمالية.

شدّدت في كتاباتها على كيفية استمرار قوى الإنتاج المهيمنة من خلال عمل النساء في المنزل. وشاركت خلال العقدين الأخيرين في تنظيم “الإضراب النسوي العالمي”، ليصبح حركةً أمميةً مناهضةً للرأسمالية والأبوية.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد