الأرشفة النسوية في مواجهة طمس النظام الأبوي

منذ أن بسط النظام الأبوي سلطته على المجتمعات، اتخذ آليات متعددة لشرعنة العنف الذي يرافقه كنظام سياسي واجتماعي.

فكان لا بد من ترويض المجتمعات على تقبل الانتهاكات والأذى وتطبيعها، كجزء من البناء القيمي للأفراد كي لا تتم مساءلته أو الاعتراض عليه.

بعد قرون من سيطرة هذا النظام، نجح في تقديم العنف ضد النساء كمعطى طبيعي ومشرعن.

فيمكن للرجال الموافقين للجندر الاعتداء جسدياً وجنسياً ونفسياً على النساء، والأشخاص غير المعياريين.

ويمكن لهم أن يقتلوهنّ إذا أرادوا أيضاً، وسيفلتون من المساءلة.

فهناك ترسانة قيميّة وسياسية ودينية، جاهزة لتبرير هذه الانتهاكات، وتقديمها في ضوء التفاوتات الجندرية، وحق الرجال في “التأديب”، وحتى تحت مظلة التفويض الأفظع للعنف: “الدفاع عن الشرف”.

قاد هذا التطبيع تاريخياً إلى قيام مجتمعات متعطشة للعنف، لكنها أيضاً بارعة في إنكاره.

ومع تنامي المقاومة النسوية ضد الاعتداءات والاغتيالات الذكورية، لمواجهة هذا الطمس الممنهج، تزايدت المحاولات المتكررة للتغطية على قضايا العنف، من الهرم السياسي والاجتماعي المهيمن، في مفارقة غريبة.

فالمنظومة نفسها التي تكرّس في القوانين، والشرائع، والعادات اليومية، والقيم الثقافية والدينية، أن العنف ضد النساء هو حق مشروع للرجال، تقوم في كل مرةٍ، يعلو فيها صوت التنديد والاحتجاج ضد جريمة اعتداء أو اغتيال أبوي، بتجييش سياسي وإعلامي لإنكارها، والتبرير للمعتدي وحمايته.

النظام الأبوي بين جدلية تطبيع العنف وإنكاره

يعدّ العنف رديفاً للأنظمة القمعية التي تسعى إلى تجذيره في المجتمعات، وتراهن عليه لإحكام مزيدٍ من السيطرة، وخلق التراتبيات بين الأفراد.

وما بين التراتبيات الطبقية، والعرقية، والقدراتية، والاستعمارية، التي خلقتها هذه الأنظمة، تأتي التراتبيات الجندرية، كمكملٍ لحلقات الاضطهاد.

فالنظام الأبوي ما كان ليستمر لولا استخدامه لوسيلة العنف، وزرعها في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد.

ولما استطاع أن يشرعن التمييز والاضطهاد القائم على النوع الاجتماعي.

فإنشاء الرجال على أنهم يمتلكون القوة، التي يفرضون بها رغباتهم على النساء، ويتحكمون بهن، ما كان سيحدث، لولا سيرورةٍ طويلة من تطبيع العنف وجعله معطى طبيعي له مبررات ومسوغات ولمن يرتكبه الحماية، حتى وإن توغل في عنفه حد القتل.

بدأ تطبيع العنف من أصغر أنواع السلطة، التي عادة لا يرد لها بال، وتُعتبر بديهية في التسلسل الاجتماعي بين الأفراد.

من حلقات اللعب التي تُمنع فيها الفتيات من الخروج، أو مزوالة ألعاب معينة على مرأى من الفتيان.

ثم إدخالهن إلى جانب الأم في الأعمال الرعائية المجانية، بينما إخوانهن يتفرّجون عليهن لتطبيع الأدوار الجندرية المقبلة.

بدءاً من تحويل شجارات الأطفال إلى مسارح للتنافس حول من هو الأقوى، أي من هو “الرجل”.

ثم جعل أجسادهم الصغيرة معامل إنتاج جنسانية وجندرية، تقسّمهم وتفرّقهم بحسب توقعات خارجة عن إرادتهم.

كان على هذا النظام المعادي أن يبدأ بزرع الأذى منذ الطفولة، وتطبيع العنف منذ السنوات الأولى لنشأة الأشخاص، كي لا يُشكّ بأنها غير طبيعية، أو يجب أن تتوقف.

فهي جزء من حيواتنا، من إرث مجتمعاتنا، ومن عاداتنا اليومية.

إذ يبدو العنف ضد النساء اعتيادياً، حين نعتاد على التمييز ضدهن منذ الصغر.

ليكون بذلك العنف الجنسي، تصوراً واقعياً عن العلاقات بين الأشخاص.

كما نعتاد على القوة والخضوع، كمحرّك لهذه العلاقات، وعلى استخدامه لفرض السلطة.

ويكون العنف الجسدي والنفسي، والابتزاز العاطفي، والتحكم، شروطاً أساسيةً للعلاقات الحميمية والعائلية.

فضرب الأخ أخته أو الأب ابنته، أو الشريك شريكته، هو “حق مشروع” بحكم السلطة، والأحقية، والتفوق. وله مسوّغات تعفي مرتكبه من المساءلة.

ومَن يُمارس عليهن/م العنف، من نساء وفتيات وكويريات وكويريين، لا يحضرن/ون في المخيلة الاجتماعية سوى عبر سرديات الشيطنة والضبط.

هن/م دائماً في موقع شبهة، ومن حق الرجل، أياً كانت علاقته بهن/م، أن يمارس نفوذه لإرجاعهن/م إلى دائرة الانضباط.

أو تقديم نفسه للمجتمع كمنسجمٍ مع القيم الذكورية، التي تستدعي ممارسة العنف كإثبات “للرجولة”.

وأحياناً تكون النساء، كما كل شخص غير مطابق للجندر والجنسانية، والأطفال والطفلات مسرحاً “لفش الخلق”.

يغضب الرجل من ظروفٍ خارجية، فيجد أمامه من يُخرج عليهن/م غضبه. وهذا يعيدنا إلى البداية.

فنشأة الأطفال على أن أحدهم قوي يستطع فعل ما يشاء، والتحكّم في من هن/م أقل منه قوةً، يُنتج أفراداً قادرين على استخدام الأذى لتحقيق مرادهم. أو الاستفادة من الامتيازات مقابل العنف والسيطرة، التي يقدمها النظام الأبوي.

بناء المبررات الأبوية للعنف خلق عنفاً عابراً للأجيال، تماماً كما خلق صدمات وأزمات عابرة للأجيال أيضاً.

وخلق عوالم من القدرة على الأذى وتقبلها، وعوالم من الخوف في حياة الأشخاص الذين/اللواتي يتعرضن/ون له.

وتبدو المفارقة المثيرة للدهشة في هذا السياق، أن النظام نفسه الذي سخّر عبر التاريخ القوانين، والسياسات، والموارد، والشرائع الدينية والثقافية، لتبرير العنف وجعله جزءاً من البناء الثقافي والقيمي والعلائقي للأفراد، يستخدم آلية الإنكار أمام أي مواجهة، وفضح للانتهاكات القائمة على النوع الاجتماعي.

بما فيها العنف الجسدي، والجنسي، والنفسي، وجرائم الاغتيال الذكوري.

ويقدم النظام نفسه عبر عدة سرديات، بين أسطوانة “التكريم”، واعتبار أن الجرائم هي “حالات فردية” وليست ممنهجة، يتخبط النظام الأبوي في أذرعه السياسية والاجتماعية، في صراع الفشل في إنكار واقع العنف أو تبريره.

ومن بين الآليات الأكثر خطورة في المحاولات الأبوية لإنكار العنف وطمسه، هي تكذيب الضحايا/الناجيات.

ثم التشكيك في روايتهن، وووضعهن تحت المجهر الذكوري، وسرد تاريخهن، واستخدام كل وسائل التعيير والوصم الذكوري، لطمس الجريمة التي ارتُكبت ضدهن.

وحين تكون الضحية ميتة، يحاول هذا النظام استخدام وسائل أخرى للتغطية على تفشي العنف.

فتكون الضحية فريدةً في قضيتها، والجاني “مضطرب ذكر وليس رجلاً، ينتمي إلى فئةٍ رثةٍ لا تمثل المجتمع”.

وتضيع سرديات العدالة، ونعود إلى مربع الإدانة، وبذل المجهود لمواجهة نظام، ليس عنيفاً فحسب، بل قادراً على تكذيبنا ووصمنا بالجنون، وحبسنا، إن تجرأنا وواجهناه.

من جهةٍ أخرى، ساهمت ثقافة الاغتصاب في تحويل العنف القائم على النوع الاجتماعي، من فعلٍ مرفوض إلى تركيبة اجتماعية، يستحيل أن تُسمى عنفاً.

وتتجذّر مع الوقت كممارسة لا تستدعي التشكيك، بل أصبح النظام هو من يحدد ما هو العنف، وما هو الفعل الذي يعدّ جزءاً من العادات والتقاليد، و”تركيبة الرجال البيولوجية”.

فقام هذا النظام، عبر آليات متعددة، بما فيها الطب، وعلم النفس، إلى جانب التشريعات الثقافية والدينية، في تصوير أن الرجولة بكل القيم العنيفة التي دمجت فيها، ليست بناءً اجتماعياً، بل معطى بيولوجي.

ليكون بذلك العنف جزءاً من “التركيبة البيولوجية للرجال الموافقين للجندر”، والاعتداء الجنسي “غريزة لا يتحكمون فيها”.

والاعتداء الجسدي “راجع لهرمونات القوة”، التي لا يوجد عليها دليل، والتلاعب النفسي، والعاطفي، يرتبطان بكروموسومات خيالية مهمة لسير المجتمعات.

وعلى بَهتان حجج النظام الأبوي، إلا أن كل هذه الآليات كانت مهمة لاستمراره.

فلا يمكن أن يستمر التفاوت الجنساني، لولا الماكينة الأيديولوجية الأبوية، التي تنشر العنف لكنها تطمسه كي لا نستنكره.

وتنشر الرعب ولوم الضحايا/الناجيات، كي لا نتجرأ على كسر لعنة الاضطهاد.

الأرشفة النسوية كمقاومة

لوقتٍ طويل، كانت قضايا العنف الذكوري تمرّ بصمتٍ وتواطؤ وطمسٍ ممنهج.

تُمارس الاعتداءات الجسدية والجنسية والنفسية كل يوم. تُقتل النساء، ويتم إخفاؤهن قسرياً كل يوم.

تُسرق الحيوات، ويُنشر الرعب بين صفوف الأضعف في الهرميات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، من دون أن يحرّك ذلك حجرةً في الخلاء.

كان هذا الصمت التاريخي محركاً تاريخياً للاضطهاد، ساهم في استمرار آلة سحقٍ أبويةٍ لا تتوقف.

وكيف ستتوقف إذا كان بامكانها الاستمرار من دون اعتراضٍ أو تشويش؟

راحة كاملة في ارتكاب الأذى، واستحقاق ذكوري أنتج أجيالاً مُرعبة، تنتشر في الشوارع والزوايا المظلمة. في المؤسسات وفي المنازل، وفي المدن والقرى.

أجيال تمارس العنف كأسلوب ضبط وسيطرة، وأحيانًا كلعبة تنافس لإثبات “الرجولة”، وفي أحيانٍ أخرى للتسلية.

لم يكن هذا الوضع يمرّ من دون اعتراض. كانت النساء، كما المجموعات المضطهدة جنسانياً في كل مجتمع، يمارسن الاحتجاج بطرقهن الخاصة.

ويحاولن النجاة أيضاً، بين حلقات الحكي في الحَواري والبيوت أثناء الجمعات بين الجارات، والأحاديث السرية بين الطالبات في استراحة الفصل. وبين تجمعات المزارعات في الحقول، أو تحت ظل الشجر في إحدى البوادي البعيدة، أو بين أشخاصٍ هربن/وا من جحيم العنف الغيري والأبوي، وأنشأن/وا عائلاتٍ بديلة، فُضحت باستمرار الانتهاكات الأبوية، وتبلورت استراتيجيات للنجاة بحسب الممكن لكل مجموعة.

ورغم أهمية هذه التواريخ في مقاومة العنف الأبوي، لكنها لم تستطع توثيقه بتعريف المسؤول عن انتشاره، أو لم تقدمه انطلاقاً من التحليل التاريخي والمادي له كنظامٍ عنيف.

ويعود ذلك بالطبع إلى السياقات السياسية والاقتصادية والتاريخية، والحقب الزمنية لكل مجتمع.

فقبل تأسيس النسوية كحراك سياسي وفكري وثوري، لم يتوفر معجم نقدي للنظام الأبوي يعرّفه بتشكّلاته السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والدينية.

ولم يحمّله مسؤولية وباء العنف، الذي يفتك بالنساء والفتيات والمجموعات الكويرية والأطفال والطفلات، ويقدمه للمساءلة والتفكيك ويواجهه ثورياً لإنهائه.

في خضم ظهور النضالات النسوية، كان العنف موضوعاً رئيسياً لها، سواء بالتنظير، أو التنظيم، أو المطالب.

لكن هذه الأطر عرفت اختلافاتٍ أيديولوجيةٍ بين النسويات، بحسب مرجعية كل واحدة، وتصورها للعدالة.

تنوعت هذه النضالات في الجنوب العالمي ضد أنواع العنف الجنساني، والعسكري، والاستعماري، والطبقي، والعنصري، والبيئي، والقدراتي.

واستطاعت أن تَبرز من الهامش، حراكات نسوية سوداء كويرية وأصلانية، تقوم بمعارك غير متكافئة الكفة مع أنظمة تستخدم كل هذا العنف بشكلٍ منظم ووبائي.

وربما أكثر ما وصل منها إلى مراحل قوية في المرافعة والمواجهة، هي النضالات النسوية التي تستهدف الأرشفة النسوية بتوثيق العنف الأبوي، وفضحه. ومواجهة الطمس الممنهج، الذي ساد لقرون.

وكان لهذه الجهود عبر السنوات، العديد من المحطات والتدرجات والعقبات أيضاً.

فلم يكن سهلاً على مجموعاتٍ مضطهدة، أن تواجه ماكيناتٍ سياسية، واقتصادية، وإعلامية ضخمة، تلعب دوراً وحيداً، هو التغطية على الانتهاكات، وإسكات الأصوات المناهضة لها، سواء بالسجن، أو بالاغتيال، وحتى عبر حملات الشيطنة، والاغتيال المعنوي.

في المنطقة الناطقة بالعربية، كان للمبادرات الموثِّقة للعنف القائم على الجندر عقبات كثيرة.

من بينها ما هو مؤسساتي، يتعلق بسيادة أنظمة أبوية تسيطر على الموارد، وبالتالي تمنع أو تقلّص تواجد مراكز مختصة في إحصاء العنف.

وسطوة البوليسية والعسكرة على المساحات العامة، التي تساهم في منع أي نشاط ثوري يهدد استقرار النظام السياسي والاجتماعي القائم.

ومن بينها أيضاً ما يمكن أن أسميه بـ”نزع الأنسنة عن التوثيق”.

وهو تيار ساد في المنظمات النسوية التابعة للهئيات الدولية، أو المرتبطة بتمويلات ليبرالية، تُصوّر العنف من منظور لا طبقي، ولا إنساني، ولا سياسي.

وتقدمه عبر الإحصائيات، التي تحول الضحايا/الناجيات إلى أرقامٍ جافة مفصولة عن السياق التاريخي، والسياسي، والاقتصادي لبيئتها.

كما تُصوّر النظام الأبوي كأفراد معزولين، يقومون بأعمالٍ شنعية تنتهي بحبسهم ومساءلتهم الشخصية، ومطالبة الأنظمة التي أنتجتهم بالتحرك ضدهم.

البوليسية وتجريم العمل الثوري في الفضاءات العامة، وسيادة تيارات نسوية تنزع الأنسنة عن الضحايا/الناجيات، كانت عوامل قادرة على تقويض العمل التوثيقي للعنف الأبوي في سياقاتنا.

لكن، هناك دائماً أمل ثوري، ليس في استعادة الفضاء العام وفق شروطنا الموضوعية فقط، بل أيضاً استعادة حقنا في تشكيل السرديات المناهضة للعنف من منظورٍ نسوي، يؤنسن الضحايا/الناجيات، في ظل نظامٍ يحاول باستمرار تشكيل الإنسان وفق تراتبياتٍ طبقيةٍ، وعرقية، وجندرية، وقدراتية.

خسرنا وحدة منا: السرد النسوي رغم العسكرة

في الجزائر، قامت مجموعة من النسويات بإنشاء حملة على وسائل التواصل الاجتماعي تحت اسم “خسرنا واحدة منا”.

الهدف من الحملة توثيق جرائم الاغتيال والعنف الذكوري.

تقوم الصفحة بمجهودات كبيرة لجمع المعلومات الكاملة عن كل ضحية، مثل الاسم، والعمر، والتعليم، والمهنة إن وجدت، والشهادات الحية في حقها من قبل معارفها، وكيف تحب الحياة، وأحلامها، وعلاقاتها، ومن قتلها.

تقدم المبادرة معنى سياسي على قوة التضامن النسوي في مواجهة العنف. وتُذكّرنا بأن هذا العنف يعنينا بشكلٍ شخصي وسياسي.

كل من نفقدها هي جزء من مجتمعنا النسوي، جزء من روحنا، ونحن ضحايا محتملات لهذه الخسارة.

وتُذكّر النظام الأبوي أن الضحايا لسن معزولات عن حضانةٍ اجتماعيةٍ تعترف بألمهن، وتعرّف المسؤول عنه وتواجهه.

يعاني الفضاء النسوي العام في الجزائر من القمع العسكري والأبوي، وتقليص مساحات الفعل السياسي، بما فيه المبادرات التي تحاول تفكيك العنف.

فالنظام القائم في حد ذاته نظام أبوي، ما يجعل من أي محاولة لكسر هذه الحتميات معرّضة للاستهداف والتضييق.

لكن الأفق النضالي للحركات يمكن أن يتوسع دائماً، سواء في شكل حملاتٍ أو مبادراتٍ رقمية تحتج، توثّق، وتطبّع رفض العنف.

حداد شهيدات الغدر الذكوري .. التسمية فعل سياسي

حداد شهيدات الغدر الذكوري هي حملة نسوية أطلقتها ناشطات سعوديات، ومنصة نحو وعي نسوي، من أجل الحداد على النساء اللواتي قتلن من النظام الأبوي.

انطلقت الحملة عبر تويتر في 22 آب/أغسطس 2020، في ذكرى اغتيال إسراء غريب.

ثم عمّت وسائل التواصل الاجتماعي عبر هاشتاغ #شهيدات_الغدر_الذكوري.

وانتشرت معها صور النسويات من كل مكان، يتّشحن بالحداد، ويرفعن أسماء الضحايا، ويذكّرن بقصصهنّ وحيواتهن. وكيف اغتالتهن أيادي الغدر الأبوية بأبشع الطرق.

لم يكن الحداد معزولاً عن سرد تاريخي لكل ضحايا العنف الأبوي.

وصَاحبه مجهوداتٍ كبيرة لجمع أكبر عددٍ ممكنٍ من القصص، والتذكير بكل الآلام، والآمال التي عاشتها الشهيدات.

ظهر مفهوم “شهيدات الغدر الذكوري” في مقال “في رثاء شهيدات الغدر الذكوري” على منصة نحو وعي نسوي.

وللتسمية في المجال النسوي، كما علمتنا الرفيقات في “ميثاق المبادئ النسوية للنسويات الأفارقة“، شأن سياسي.

فنحن نستعيد اللغة، ونشكّلها، لتعبّر عن غضبنا  وأملنا الثوري، وعن تصوراتنا عن أنفسنا أمام نظامٍ معادي.

عندما صُغتُ جملة ‫”شهيدات الغدر الذكوري” أثناء اغتيال إسراء غريب، أردت التأكيد على رمزية القتيلة بالنسبة إلينا.

ففي منظومةٍ أبويةٍ، ورجال متدثرين بالسلطة السياسية، علينا رفع أسماء الشهيدات، والتأكيد أيضاً على أنهن استشهدن من أجل تهمة الحياة، وتهمة أنهن نساء في دولٍ أبوية.

اغتيالهن هو فعل سياسي، وأجادل هنا أن اغتيال النساء وتعنيفهن والسطو على حيواتهن ليس فعلاً منفرداً، بل هو جزء من سلطة سياسية، مُنحت للرجال لممارستها في الدولة والمجتمع والأسرة.

ولا يمكننا اعتبار الأنظمة السياسية محايدة في كل مانعيشه، بل هي جزء من هذا العنف، تفوّضه، تحميه، وتستمر من خلاله.

تأكيد الجانب السياسي والاستهداف الممنهج للنساء مهم جداً لإيقاف التبرير تحت مسمى “الشرف”، أو أي تبرير آخر.

ونؤكد أن معظمهن قُتلن غدراً على أيدي أشخاص وثقن فيهم، من عائلة أو شريك، أو غريب لم يتوقّعن منه الأذى.

وتسميتهن بالشهيدات تسمح لنا بالوقوف في وجه هذا التبرير، الذي يأخذ طابعاً سياسياً آخر، هو تصميم النظام الأبوي، عبر الدولة ومؤسساتها، على أن يكون العنف مرافقاً للمجتمعات. ويسهل من خلاله التحكم في الشعوب وإلهائها.

حين يُستهدف الرجال من سلطةٍ سياسيةٍ مستبدة تقتلهم، سواء كانوا في مواجهةٍ معها أو لا، نتفق على أن كل من اغتيل هو شهيد، ونملك كجماهير شعبية رمزيته ونحمل قضيته.

لكن عندما تَستهدف السلطة السياسية ممثلةً في الرجال، النساء في الشوارع والبيوت وتقتلهن، لا يحق لنا تسميتهن شهيدات، وحمل قضيتهن، والنضال لأجل العدالة لهن.

عداد جرائم النظام الأبوي: كي لا تضيع القصة

أطلقت منصة “شريكة ولكن” نشرة أسبوعيةً، تحت اسم “عداد جرائم النظام الأبوي“، توّثق عبرها جرائم الاغتيالات في معظم دول المنطقة.

وتواكب النشرة كل القضايا التي تُنشر، وتوثّقها بالأرقام والأسماء بشكلٍ دوري.

فعادةً يكون تناول العنف القائم على النوع الاجتماعي في ظل الأزمات الرأسمالية والقمع السياسي والأوبئة، ثانوياً أو خاضعاً لسلم الأولويات.

وفي حالة التطبيع الاجتماعي، الذي اعتاد أن يرى تعنيف النساء وقتلهن والاعتداء عليهن كجزء من العادات اليومية، نادراً ما يكون هناك أي اهتمام بها، بل تضيع في زوبعة الأخبار اليومية، التي تصور الأشلاء، والدماء، والحيوات والأجساد المُنتهكة، على شكل أرقامٍ وحالاتٍ فردية، من دون إعطاء وقتٍ لتحليلها، أو وقتٍ من الحداد والتذكر.

تتخطى الأخبار بسرعة، وتغدو جرائم الاغتيال مملة إذا ما استمر الحديث عنها أكثر من 24 ساعة.

وإن كانت الضحية في أدنى سلم الهرميات، فستخضع للتشريح الاجتماعي قبل أن تحظى بالتضامن.

نوعٌ مخيف من التواطؤ مع العنف، ونجاح الأنظمة القمعية في تأليب الأشخاص ضد بعضهم، بل وتشويه رهبة الموت وفاجعتها في المخيلة الاجتماعية.

عداد جرائم النظام الأبوي، كما بقية المبادرات التوثيقية، يذكرنا بأن التوثيق النسوي ليس مقاومةً للطمس الأبوي فقط، بل تدريب مستمر لوعينا على أن لا يخضع للتشويه القمعي للعواطف والمشاعر، وردات فعلنا تجاه الموت والعنف والأذى.

وأن نستعيد ما حاولت الأنظمة الأبوية، والاستعمارية، والرأسمالية، والعنصرية، باستمرار أن تنتزعه منا، قدرتنا الهائلة على التعاطف والالتحام بآلام بعضنا البعض، وحساسيتنا تجاهها، ورفضنا أن يمرّ كل هذا العنف من دون غضبٍ ومن دون إزعاج، ومن دون رثاء، ومن دون عدالة.

كتابة: سعاد اسويلم

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد