يد القانون والفن .. أين تتجه عندما يتعلق الأمر بقضايا “الشرف”؟

تقع حياة النساء والفتيات في مجتمعاتنا تحت تهديدٍ دائم بسبب ما يسمى بمفهوم “الشرف”، الذي ينتج عن فقدانه لأي سبب، حياة الضحية نفسها.

فنحن نعيش في مجتمعاتٍ تعتبر أن النساء والفتيات هن المسؤولات عن وهم “شرف العائلة”.

لذلك، يدفعن في كثيرٍ من الأحيان، حيواتهن ثمناً لهذه “الخرافة”.

في هذه السطور، نحاول التوجه في رحلة تشمل جوانب متعددة من هذه القضية.

سنتناولها على المستوى الواقعي والفني، والقانوني، الذي يمنح المجرم الحق والبراءة غالباً، لأنه “دافع عن شرفه”!

دور الجندر في ترتيب البنية الاجتماعية

قالت أستاذة الصحافة في جامعة أتاتورك، نكلا مورا، في بحثها عن جرائم “الشرف”، إن “مفهوم الجندر يلعب دوراً واضحاً في ترتيب البنية الاجتماعية”.

ويلاحظ أنه يتم ترتيب المجتمعات عادةً ببنيةٍ أبوية أو هيكلٍ أبوي، تعمل على أساس أن الرجال متفوقون.

وتسود البنى الأبوية بشكلٍ عكسي مع المستوى الحضاري للمجتمع، خصوصاً في المجتمعات التي تُمارس فيها الديانات التوحيدية.

أما الإدراك الذي يعتبر الرجال “بذرة” والنساء “تربة”، فحوّل النساء إلى مجرد حاملات وحارسات لاستمرارية سلالة الإنسان.

فأثر هذا التصور على العلاقات الإنسانية إلى حدٍ كبير، وعلى القواعد الاجتماعية والقانونية، التي تُشكَّل للحفاظ على النظام الاجتماعي، وتُمارس في نطاق هذا التصور.

ومفهوم جرائم “الشرف”، هو شكل خاص من أشكال قتل النساء والفتيات.

ما هو تعريف جريمة “الشرف”؟

تُعرّف جريمة “الشرف” على أنها جريمة عنف قائمة على النوع الاجتماعي، يرتكبها أحد أفراد الأسرة أو أكثر من ذكور العائلة، مدّعين حفاظهم على “شرفهم وغسلهم العار”.

وإذا كانت الأعراف والممارسات الثقافية التي تحكم حياتنا تبيح للرجال التحكم بمصائر نساء وفتيات العائلة، فإن ما يعزز استمرار انتشارها، هو أيضاً الممارسات القانونية المتعلقة بهذه الجرائم.

إذ تدعم القوانين ممارسة قتل النساء بذريعة “الشرف”، ويُعفَي مرتكبو الجرائم من العقاب.

وفي مجتمعاتنا العربية، تقع هذه الجرائم نتيجةً لمفهوم الحفاظ على “عذرية” الفتاة، التي لا حقيقة علمية لها.

فيشير هذا المفهوم إلى علاقات القوة، التي تخضع في إطارها مصالح النساء لمصالح الرجال.

وتتخذ هذه العلاقات صوراً متعددة، يقوم أساسها على الجنس والفروق الجنسية البيولوجية، وفق كتاب “النسوية وما بعد النسوية”، لـ”سارة جامبل”.

بينما ذكر بحث بعنوان “Honor crimes: review and proposed definition” في مقدمته، أن العنف ضد النساء أصبح على مر السنين قضيةً ذات اهتمامٍ كبير.

ويعزى ذلك إلى حقيقة أن النساء في جميع أنحاء العالم يتعرضن للعديد من أشكال العنف، الأسري، والجنسي، والتزويج القسري، وختان الفتيات، وغيرها الكثير.

كما يُعرّف البحث العنف ضد النساء الذي يندرج تحت ما يسمى “حماية شرف الأسرة” على أنه:

عنف بدافع “الشرف”، يُرتكب في الغالب من الأقارب الذكور، وفي المجتمعات القائمة على مفهوم “الشرف”، حيث يُعترف بالرجال على أنهم أرباب الأسرة، والمدافعين عن شرفها ضد أي سلوك يعتبر مخزياً أو مهيناً.

وفي الوقت نفسه، يعتبر النساء ملكاً للرجال ويصبحن رمزاً لشرفهم وشرف الأسرة.

ويتضمن “الشرف” الأدوار الجنسية والعائلية المخصصة للنساء، كما هو مبين في الأعراف والتقاليد الثقافية.

الدراما والسينما وترسيخ مفهوم البكاء على اللبن المسكوب

يُغري البطل الفتاة غالباً بالحب، وأحياناً عبر الخديعة أو الإجبار. وبعد إتمام المراد، يأتي دور مشاهد الندم والحزن والبكاء.

في الأفلام قديماً، كان ينتهي المشهد عادةً بأمطارٍ غزيرة، ورعد وبرق!

ويعتبر فيلم “أنا وبناتي” أحد الأمثلة على هذا النوع من الأفلام.

إذ يخطو البطل، في الفيلم، نحو غرفة النوم حاملاً ضحيته، ويدوس بقدميه على زهرةٍ موجودة على الأرض.

المشهد نفسه تكرر في فيلم “الثلاثة يحبونها”. وهي رمزية واضحة تشير إلى انتهاء حياة الزهرة/الفتاة بعد فقدان “عذريتها”.

وفي مسلسل “العائلة”، تقضي البطلة –ليلى علوي- ليالٍ من البكاء، وترفض الزواج من رجل يحبها.

والسبب أنها فقدت عذريتها على يد شاب سابقاً، معللةً ذلك بأنها لا تستحق الحياة بعد ما حدث.

ثم ترمي نفسها بين يدي شخص متطرف وهي يائسة من حياتها.

وبطلة أخرى تقطع شرايين يدها، وأخرى تُقتل على يد أهلها. وكلها تصورات تصب في المعنى الذكوري نفسه!

أن الحياة انتهت، أو سوف تنتهي، عند فقدان “الشرف”، المرتبط بشكلٍ أساسي بالـ”عذرية”.

هكذا كرّست عشرات المشاهد في عقول الجمهور، أن نهاية الحياة تأتي مع فقدان بضعة قطرات من الدماء.

تطبيع آخر مع هذا النوع من العنف ظهر في مشهد من مسلسل “طاقة قدر”.

إذ تفقد أخت البطل عذريتها، فيكون مصيرها الاستسلام للحزن ومحاولة الانتحار، لكن يتم إنقاذها.

بعد ذلك، تبقى في غرفتها، وتتوقف عن دراساتها العليا. وترضى بأحد أقاربها الفقراء، الذي لا يتمتع بنفس مستواها التعليمي!

هذا ما اختاره الكاتب لها! واختاره جميع الكتاب تقريباً.

اختاروا جلدها ولومها وموتها كنتيجة طبيعية لخرق أي من بنود “شرفهم”.

مشاهد درامية وسينمائية كرّست مفهوم “الشرف”

في فيلم “أنا وبناتي” مثلاً، تموت الفتاة في النهاية، بينما ينعم الفاعل بحياته.

وفي فيلم “الحياة منتهى اللذة”، تبكي الفتاة التي أحبت رجلاً متزوجاً على ما ضاع. بينما يندم الزوج ويعود إلى زوجته وتسامحه.

ثم يرقصان في المشهد الأخير من الفيلم. وتبقى الفتاة مجهولة المصير، وكأنها هي المذنبة.

أما في فيلم “الثلاثة يحبونها”، فتقف البطلة وراء شجرة في جانبٍ مظلم. ترتدي ملابس سوداء، لتشاهد من بعيد حبيبها وهو يتزوج من صديقتها المقربة.

فهي، بعد أن اعتدى عليها مديرها في العمل، قررت أنها لا تستحق الحياة ولا الحب. فدبرت مكيدةً للتخلص من حبيبها.

وانطلقت في تصرّفها من أنه لا يستحقها بعد ما حدث. لكن ماذا حدث؟ غير أنها فقدت بضعة دماءٍ على فراش!

جميع هذه التفاصيل تؤول بنا إلى رؤية المبدع، مخرج/مؤلف، لهذه الواقعة في ذلك العصر. وإلى أن مفهوم الاعتداء الجنسي لم يكن حاضراً من الأساس.

بينما ترتبط السينما بالواقع ارتباطاً عضوياً، والواقع هو أحد مرجعيات السينما.

ويؤدي تجاهل هذه الحقيقة إلى فقدان بعض الأفلام إلى تماسكها المنطقي.

ويقول مارسيل مارتن: “كل صورة فيلمية هي إذن في الحاضر والماضي والمستقبل المحتمل، ليست إلا نتاج حكم شخصي في مواجهة بعض وسائل التعبير الفيلمية، التي تعلمنا قراءة مدلولها”.

وعند تحليل جميع المشاهد السابق ذكرها، نجد أنها تكرّس بشكلٍ أساسي لتعظيم مفهوم الحفاظ على “الشرف”.

وتعزّز الحكم على الفتيات والنساء بانتهاء حياتهن، من خلال القتل على يد أحد أفراد أسرتهن الذكور غالباً، أو الانتحار للتخلص من الشعور بالذنب.

يد القانون.. أين توجد بين طرفي الصراع؟

في كثيرٍ من البلدان العربية، يُعفى من العقوبة من يقتل إحدى قريباته بحجة “الشرف”.

على سبيل المثال، تميّز المادة 153 من قانون الجزاء الكويتي فى العقوبة بين الرجال والنساء في حالة الإقدام على قتل تحت ما يسمى “الشرف”.

كما يسمح القانون الكويتي أيضاً بمعاقبة القاتل بغرامة فقط، وليس بالضرورة بالسجن.

فتنص المادة على “معاقبة من يقتل زوجته أو ابنته أو أمه أو أخته حال تلبسها بمواقعة رجل لها بالحبس مدة لا تتجاوز 3 سنوات، أو بغرامة لا تتجاوز 45 دولاراً، أو بالعقوبتين”.

أما في مصر، فكشف أستاذ القانون الجنائي المستشار شكري الدقاق، في ورقة بحثية أعدها، استخدام المادة 17 من قانون العقوبات المصري في قضايا القتل بذريعة “الشرف”.

وذكر فيها: “شكلت المادة 17 مشكلة حقيقية في شأن هذا النوع من الجرائم، لأنها تعطي القاضي سلطة استعمال الرأفة في أقصى درجاتها. حين ينزل القاضي درجتين عن العقوبة المقررة. والظروف المخففة متروكة لتقدير القاضي، الذي يخوّله حق تخفيف العقوبة في الحدود التي عيّنها القانون”.

وأضاف أن “ما يزيد هذه المشكلة عمقاً، أن القاضي الذي يستعمل الرأفة لا يذكر في مدونات حكمه سوى عبارة مقتضبة، هي أن المحكمة ترى من ظروف وملابسات الواقعة ما يدعوها لاستعمال الرأفة في حق المتهم”، ولا تملك النيابة العامة حق الطعن على الحكم. وتنص المادة على تبديل العقوبة من الإعدام إلى السجن المؤبد أو المشدد، ومن السجن المؤبد إلى السجن أو السجن المشدد، ومن السجن المشدد إلى السجن أو الحبس، الذي لا يجوز أن يقل عن 6 أشهر، ومن السجن إلى الحبس الذي لا يجوز أن يقل عن 3 أشهر”.

كما أوضح الدقاق في بحثه أن “المشكلة تكمن في الذوق القضائي، وهو أمر لا يحكمه نص تشريعي، بل يُترك لتقدير القاضي. وهو ما يثير في الواقع العملي كثيراً من المشاكل، خصوصاً حين يستخدم هذا الحق بصورةٍ تتجافى مع مقتضيات العدالة”.

وذكر بعض النماذج الفعلية لقضايا استعملت فيها المادة 17 لصالح متهمين، اغتصبوا فتيات، منهن من فارقن الحياة إثر الحادث.

وعلى الرغم من ذلك، كان القضاة يستعملون هذه المادة ويتم تخفيف العقوبة.

ذرائع لتخفيف الحكم

تمتلئ أخبار الحوادث في الصحف المصرية بكثيرٍ من الأحكام، التي تتضمن تخفيف الحكم على المتهمين في هذه القضايا.

كما تمنح المادة 237 من القانون المصري للعقوبات، الحق للمحكمة في تخفيف الأحكام في القضايا التي تقع بذريعة “الشرف”.

وتنص المادة على: “تخفيف عقاب الزوج الذي يفاجئ زوجته حال تلبسها بالزنا فيقتلها في الحال هي ومن يزني بها. ووجه التخفيف، أن هذا الزوج لا يعاقب بالعقوبات المقررة للقتل العمد أو للضرب المفضي إلى الموت، إنما يعاقب بعقوبة الحبس وحدها”.

يستخدم القضاة أحياناً هذة المادة لتخفيف الأحكام على الأقارب الرجال (الأب -الأخ- العم).

ومثال على ذلك ما حدث مع سعاد، ضحية دار السلام، التي قتلها شقيقها وسُجن مدة 5 سنوات فقط.

وفي تقرير نشر عام 2020، للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية المصري، فإن الجرائم الأسرية التي تندرج معظمها تحت مسمى جرائم “الشرف”، يرتكبها الأزواج أو الآباء أو الأشقاء بدافع الغيرة على “الشرف”.

وأكد أن 70% من جرائم “الشرف” ارتكبها الأزواج ضد زوجاتهم. و20% ارتكبها الأشقاء ضد شقيقاتهم.

بينما ارتكب “الآباء” 7% من هذه الجرائم ضد بناتهم.

أما نسبة الـ3% الباقية من جرائم ما يسمى بـ”الشرف”، فقد ارتكبها الأبناء ضد أمهاتهم.

 

كتابة: الشيماء أحمد فاروق

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد