النسوية المخففة.. عن الإيمان بالنساء ولكن “بشروط”

لطالما كان التهميش والاضطهاد عنوان حياتنا كنساء، خصوصاً في المنطقة العربية، حيث تسود أعراف اجتماعية ومفاهيم دينية ترسخ للذكورية، وسيادة الرجال على النساء.

والهدف هو إبقائهن في الظل، وإقصائهن عن المجال العام، وعن أي سلطةٍ تمنحهن القدرة على تغيير الأمر الواقع.

حين تمرّدت النساء على هذه الهندسة الاجتماعية المجحفة، وظهرت حركات نسوية تطالب بحقوق النساء، حاربتها المجتمعات الذكورية بشتى الوسائل.

بالسخرية، وتشويه السمعة، وبالقمع والتهديد، بل وبالسجن والاعتقال أيضاً.

لكن أخطر الأسلحة التي طوَّعتها الذكورية لقمعنا كنساء، هي النسوية المخففة.

فما هي النسوية المخففة؟ ولماذا تشكل خطراً كبيراً على مساعينا نحو المساواة والحرية؟

عن النسوية المخففة ولغة القوة

شهد القرن الماضي طفرةً في حقوق النساء.

فانتزعنا حقنا في التعليم، والعمل، والانتخاب، والخروج إلى المجال العام، بعد صراعاتٍ طويلةٍ دامية.

استطاع هذا الحراك النسوي التاريخي إحراز مكاسب، كانت تبدو خيالية للنساء في الماضي.

ومع ذلك، لم يستطع كثيرون الخروج من ذلك الماضي، وبقيت فكرتهم الأساسية عن النساء أنهن “تابعات للرجال”، و”عليهن انتظار إذنه في أي خطوةٍ في حياتهن”.

ومن هنا ولدت النسوية المخففة.

في كتابها “عزيزتي هاجر، أو مانيفستو نسوي من 15 مقترحاً”، نظَّرت الكاتبة النيجيرية تشيماماندا نجوزي أديتشي لمصطلح النسوية المخففة. السلاح الذكوري، الذي استطاع استغلال النسوية ذاتها لتهميش النساء.

فهذه النسوية هي فكرة مشروطة للمساواة بين الجنسين، تهدف إلى “تهذيب قوة النساء ومواهبههن”، بوضعهن داخل إطارٍ يسمح به الرجال أو يباركه المجتمع أولاً، قبل أن يستطعن ممارسة هذه القوة.

ومن أمثلة النسوية المخففة عبارات مثل: “هو الملك، لكنك من تديرين مملكته”، أو “هو الرأس المفكر، لكنك العنق الذي يحرّك الرأس”.

هذه العبارات ترسخ لفكرة أن الرجال “متفوقون على النساء في المطلق”، لكن يجب أن “يتنازلوا” وأن يعاملونهن جيداً.

أمثلة أخرى عن هذا النوع من النسوية: “المرأة حرة في فعل ما تريد، طالما سمح لها زوجها!”.

كلمة “سمح لها”، تؤسس للغة فيها قوة واستحقاق غير مقبولين، تعني أن للرجال الحق في المنع إذا أرادوا.

وذلك يتناقض مع حق كل امرأة في تقرير حياتها كيفما شاءت، من دون وصايةٍ من أحد.

وإذا أردنا استيعاب إلى أي درجة هذه اللغة مهينة ومرفوضة، علينا عكس العبارة: “الرجل حر في فعل كذا إذا سمحت له زوجته”.

هل تبدو هذه كلمات مقبولة تحت أي ظرف؟ بالطبع لا. الأمر نفسه بالنسبة إلى النساء.

التناقض مع مساعي النسويات

يؤسس أصحاب النسوية المخففة لنسخة هادئة ومقيدة من النساء، لأنها تمنح رجلاً ما (الأب/الأخ/الشريك/الزوج) السلطة عليهن.

فإذا وافق على حريتها في أمرٍ تفعله، وإذا لم يوافق فقرارها محل نقاش، بصرف النظر عن رأيها الأساسي.

لذلك، تتناقض مع مساعي النسويات باختلاف توجهاتهن، فالنسوية تؤسس لحرية تامة للنساء.

وتنادي بمعاملتهن ككائنات كاملات الحقوق والأهلية، ويملكن وحدهن الحق في تقرير حياتهن، واتخاذ قراراتهن.

لكن، على الجانب الآخر، ينظر أنصار النسوية المخففة إلى النساء باعتبارهن “تابعات ينتظرن من رجلٍ ما منحهن الإشارة الخضراء ليعشن”.

وقد يظن أنصار هذه النسوية أنهم “يناصرون النساء” بنمط تفكيرهم، أو أنهم “يمسكون العصا من النصف، ما بين الذكورية الراسخة، وما يبدو، كما يطلقون عليه، تطرفاً من النسويات”. غير أنهم يسيئون إلى النساء مثل الذكوريين وربما أكثر.

النسوية المخففة في حياتنا كنساء عربيات

تتجلى النسوية المخففة في حياتنا كنساء عربيات، بأشكالٍ متعددة.

كم مرة قرأنا خبراً عن امرأة ناجحة، وتحته تعليق يقول: “عليها أن تشكر زوجها لأنه سمح لها بالعمل حتى بلغت النجاح”؟

وكم مرة احتفينا برجل لأنه “يساعد زوجته في مهام المنزل”، أو لم يضايقها بسبب كونها امرأة عاملة؟

تعد هذه الأمثلة، من أبرز تجليات النسوية المخففة في عالمنا العربي.

فهي تضع الرجل في موضع القرار الذي “يسمح” لشريكته بأي نشاط.

وعليه، تكون كل مجهوداتها ومساعيها في منزلةٍ أقل، لأنه كان بوسعه أن يرفض عملها من الأساس.

أي أن كل امرأة ناجحة، كان يمكن أن تُحرم من الفرصة لو أن شريكها رفض. لكن، “لحسن حظها كان رجلاً نبيلاً سمح لها بالنجاح”!

وبحسب الفكرة السابقة، يكون على كل امرأة أن تتأكد من موافقة شريكها على كل أحلامها، لتشرع في ملاحقتها.

أمَّا إذا حدث ورفض الزوج ممارستها لعملٍ أو هواية، فعليها أن لا تشتكي كثيراً، فـ”من الطبيعي أن يكون له حق الرفض وحرمانها مما تريد”.

كما تتجلى أيضاً في فكرة: “يمكنك أن تجعليه يوافق على أي شيء إذا كنت ذكية”، لأنها أيضاً تمنح الرجال السيطرة المطلقة، وترسّخ فكرة أن على النساء التأقلم معها، وتَسوُّل حقوقهن بالحيلة والحذر، كي لا يثرن حفيظتهم، فينقلبون عليهن!

إذا استندنا إلى الفكرة السابقة، يكون إذن “من الطبيعي” أن تبذل النساء جهداً يفوق البشر “لتدير” مملكة الرجل”، مقابل السماح لها بـ”فعل ما تريد”.

ونرى انعكاس تلك الفكرة الذكورية في المجتمع المصري، الذي يرى كثير من أفراده أن عمل النساء فَضلٌ من زوجها، يمكن أن يحرمها منه في أي وقت.

وفي مقابل تمتعها بالعمل، عليها أن تقوم بجميع أعمال البيت، والاهتمام بالطفلات/الأطفال من دون شكوى، وبلا أي “تقصير”، كي “تستحق الامتياز الذي تتمتع به”.

يرى كثيرون أيضاً أن وقت النساء وحياتهن ملك لأزواجهن.

لذا، يحق له الاستيلاء على راتبها الشهري، إذا سمح لها بالعمل، لأن هذا استثمار يخصّه لا يخصها.

ويمكن للذكورية أن تنهزم سريعاً في مواجهةٍ فكرية تحتكم إلى الإنسانية وأخلاق المساواة.

لكن النسوية المخففة أكثر مراوغة وخبثاً، لأنها لا تمنع النساء مباشرةً، بل تستخدم لغة “السماح” لترويضهن.

وتضع لهن سقفاً لا يجب أن يتَجاوزِنه. ومهما تمرّدن، لا يجب أن يتخطينه.

كما تعتمد هذه النسوية أيضاً على فكرة المساومة بـ”الأنوثة”. أن تكون النساء “لطيفات، رقيقات، أنثويات”، ليكنّ مقبولات.

وأن لا يعبّرن عن قوّتهن، لأنها ستضعهن فوراً في موقع الند ويناطحن الرجال، ما يجعلهن عرضةً لمزيد من المتاعب والصعوبات.

كيف تكون هذه النسوية وجهاً آخر للذكورية؟

كل امرأة قوية ومستقلة في مجتمعنا تثير دوماً الشك والنفور قبل أي شعورٍ آخر.

وتُنعت بعباراتٍ مثل “مسترجلة، عينها قوية، قادرة، ما لهاش كبير، مش متربية”.

وهي معاملة، تناقض تماماً معاملة الرجال الأقوياء المستقلين، الذين يُنظر إليهم باعتبارهم “ناضجين، معتمدين على أنفسهم، لايحتاجون إلى أحد، تربية راجل”.

وهذا يعني أن مشكلة المجتمع ليست مع مبدأ القوة في حد ذاته، بل مع صاحبتها.

تبرز أيضاً أمثلة أخرى عن النسوية المخففة في عبارات مثل: “أنا مقتنع بحق النساء في كذا، بشرط….”، أو “أنا مقتنع بحقوق النساء وكل شيء، لكنني لا أقبل أن….”، أو “نحن نساند النساء طالما….”، إلخ.

كل هذه الأفكار، تضع شروطاً على حقوق النساء واستقلاليتهن. وتجعل مساندتهن مشروطةً بموقفٍ معين أو تصرف معين.

وهذا يتناقض مع مساعي النسوية، التي تهدف إلى تمكين النساء من حياتهن وحريتهن وقراراتهن، من دون أي شروط، باستثناء أنهن كاملات الأهلية.

تعد النسوية المخففة وجهًا آخر للذكورية، لأنها في جوهرها تحارب فكرة النساء القويات، وتشترط عليهن ممارسة قوتهن وحقوقهن من خلف الكواليس، وعلى الهامش.

وقالت تشيماماندا أيضاً في كتابها، إن سبب ذلك “هو أننا نعيش في عالمٍ لا يحب المرأة القوية، التي تتعامل مع الجميع باعتبارها قوية. قوة المرأة مغفورة إذا كانت تحت لواء رجلٍ ما، يسمح لها بهذه القوة. أمّا قوتها كإنسانةٍ مستقلة، فتستفز حتى بعض أنصار ومعتنقي النسوية المخففة”.

كيف ننجو من فخ النسوية المخففة؟

أسست الحركات النسوية لأمرٍ واقعٍ جديد. فلم تعد النساء مغلوبات على أمرهن تماماً، كما كنّ في القرون الماضية.

وبتن يملكن صوتاً عالياً يصرخن به ويعبّرن عن أنفسهنّ ومظالمهنّ، ويغيّرن عبره القوانين لعالمٍ أكثر عدلاً.

لكن، هذا لم يكن كافياً لردع الذكورية، التي حاولت احتواء الخطاب النسوي، والتحايل عليه بنسخةٍ مهذبة تلتمس سماح الرجل أولاً، وهذا هو خطر النسوية المخففة.

وعلى الرغم من وضوح فكرة هذه النسوية، فهي تتخفى كثيراً في صورة “الحكمة”، أو “عدم الرغبة في إثارة المشاكل”، أو “القلق على النساء كي لا يقعن في المتاعب”، أو “ليس في الإمكان أبدع مما كان”، وأنه “علينا أن نقبل بأقل المكاسب ونصمت، لأن هذا أكثر مما حلمت به جداتنا”!

وبالعودة إلى كتاب تشيماماندا نجوزي أديتشي، نجد أنها أشارت إلى أن “النسوية تشبه أن تكوني حاملاً. فإمّا أن تكوني حاملاً وإما لا. لهذا لا يمكننا قبول عبارات مثل المرأة حرة ولكن بشرط. لأنه لا توجد شروط. نقطة”.

ويصعب علينا في كثيرٍ من الحالات تمييز النسوية المخففة. فهي تأتينا مغلّفة بالـ”حرص علينا والرفق بنا”، لكن حتى وإن كانت النية حسنة، هذا لا ينفي الضرر، ولا يجعلنا نتردد في محاربة أفكارها.

يمكننا أن نميز النسوية المخففة، وما يتسرب إليها من أفكار ذكورية إذا عكسنا الخطاب الموجه: “أنا مع حقوق النساء بشرط كذا”.

يمكننا هنا أن نسأل أنفسنا: لو تعرض الرجال للموقف نفسه، هل سنقول جملة “نحن مع حقه كإنسان بشرط كذا”؟

إذا اختلفت الإجابة في حالة الرجال عن النساء، فهناك مشكلة في الأمر.

إذ يمكن أن يرينا عكس الأدوار حجم التفرقة الحقيقي الواقع بحقنا كنساء.

فعبارة مثل “سمحت له زوجته بالنجاح”، أو “عليك أن تؤدي كل أعمال البيت، مقابل سماحي لك بالخروج إلى عملك”، أو “أنت حر في حدود كذا وكذا”.

جميعها تكشف مقدار ما نعانيه في حياتنا اليومية من ظلم، وتُقدّم مقاربة مهمة لوضعنا الحقيقي في بلادنا.

كما ترينا مقدار الحرية الضئيل الذي “يمنحه” لنا المجتمع.

فأنا حرة بحدود يقرّرها زوجي، لكن ماذا لو لم أكن متزوجة؟

عندها سأكون حرةً بقدر ما يسمح لي به أبي أو أخي أو ابني، أو أي ذكر “مسؤول” عني.

وإذا لم يكن هؤلاء موجودون، فأي رجلٍ عابرٍ في المجتمع، له الحق في تقييمي وتقويمي.

لكنني لن أكون حرة بشكلٍ مطلق كالرجال. ولو تصادف أنني أعيش بلا أي رجلٍ يرعاني، حينها سأكون في موضع الشك، أكثر مما أنا عليه بالفعل.

لقد أخذنا الخطاب النسوي إلى آفاقٍ بعيدة، فاقت أحلام جداتنا. وعلينا أن نبلغ آفاقاً لا نحلم بها من أجل بناتنا وحفيداتنا.

لذلك، تقع علينا مسؤولية تمييز الخطاب الذكوري، وإيقاف خطاب النسوية المخففة، الذي يعيد إنتاج الذكورية بشكلٍ مقنَّع.

فهو يستغلّ الخطاب النسوي في اغتيال طموحات النساء، وترسيخ مكانتهن في مقام التابعات للأبد.

كما يرسّخ لقبول الأمر الواقع. لكن الحقيقة أنه ليس علينا أن نقبل هذا الأمر الواقع.

ونستطيع الفرار من هذا الفخ بقوةٍ وحزم، لأن الأمر الواقع الجديد هو أن النساء انتزعن بعضاً من حقوقهن، وسيواصلن انتزاع المزيد، حتى نبلغ عالماً نُعامل فيه جميعاً كبشر متساوين/ات، وعلى الذكورية مجاراة هذا الأمر الواقع، لأن التاريخ لا يمشي أبداً بالعكس.

كتابة: آية عبد الرحمن

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد