علا أبو الشلاشل .. عن هذا الغضب الجميل الذي غادرنا سريعاً!

في المقالة السابقة من استكشاف تجارب وحيوات لنساءٍ حولنا ينتمين إلى قبيلةٍ معاصرة من نساءٍ “يركضن مع الذئاب”، ألهمتنا تجربة غادة عبد العال وتقاطعها بكل عنادٍ مع فيض الحياة الحالي.

أما في المقالة الحالية، فنتتبع وجهاً مصرياً آخر، قادني إليه تتبعي لخريطة الغضب في داخلي، ولم أكن أعرف ما الذي سألتقيه في محاولتي لكرّ الخيط، غير أنني التقيت “علا أبو الشلاشل”.

من هي علا أبو الشلاشل؟ وما هي نقاطها وخطوطها التي منحتني اتساعاً في الرؤية وتعريف الغضب، على الرغم من بعد الشُقة بيننا؟

ما الذي يعنيه الغضب النسوي؟ ولماذا نحن بحاجة لأن ندوّن عن قبيلتنا المعاصرة خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة؟

هل النساء- إجمالًا- غاضبات؟ أين يذهبن بكل هذا الغضب؟

ثمة فرضية تقول إن كونك امرأة وتعيشين في الشرق الأدنى، فذلك يعني أنك غاضبة بعض الوقت.

وإذا تفتح وعيك النسوي، تصبحين غاضبة كل الوقت.

تطل علينا الصورة النمطية عن النسويات كونهن غاضبات هستيريات، يصرخن بينما يتقدمن في مسيرة للمطالبة بالحقوق المنتهكة.

ذلك أفهمه في سياقه، فالمسيرات ونضال الشارع يتطلب الصراخ. كما أفهم أيضاً أن الصراخ في حد ذاته عنصر مكون من الثقافة العربية.

نحن نستخدم الصوت باعتباره أداةً للقوة والسيطرة، واحتلال الهواء وفرض الرأي وإخراس الآخر إن تطلب الأمر. هذا إرثنا المشترك الذي نود أن ننسلخ عنه بكل طريقةٍ ممكنة.

أتذكر تلك الصديقة التي تقاطع مسارها معي في بلدٍ بعيد، وأخبرتني بحيلتها كي لا يتملك منها الجنون: “فلتذهبي إلى حفلة لمطرب/ة، انصهري مع الجماهير ثم أطلقي العنان لأحبالك الصوتية. أصرخي قدر المستطاع. لن ينهرك أحد. لن يخبرك أحد أن صوتك مرتفع أكثر مما ينبغي. لن يُقبض عليكِ لأن صوتكِ نشاز بين الجموع، التي تبارك حولك كل ما تكرهين وتعلمين جيداً في أعماقك أنك تكرهينه تماماً”.

كانت حيلة الصديقة من البلد البعيد منطقية، وتتراصف مع الرغبة في التماهي والاختباء والتنفيس في الوقت نفسه.

فالنساء، حتى في غضبهن، عليهن البقاء ضمن ما هو “مسموح ومرضي عنه ومتفق عليه”.

أن لا يتوحّشن، أن لا يخرق صوتهن أذن أي نوعٍ أو شكلٍ من السلطة المرهفة، التي تود إبقاء كل شيء على ما هو عليه، حتى يرث الله الأرض وما عليها.

ولكن كيف يمكن أن نكون نسويات وغاضبات في واقعنا اليومي، حين لا ساحة ولا مسرح ولا شارع للتنفيس عن كل هذا الغضب الذي يتكتل في عظامنا!

أكره التأطير الضيق لفعل الغضب كشتيمة للنسويات. فهناك فرق هائل بين الغضب والعدائية.

الأول هو مشاعر إنسانية يمكنها أن تكون بوصلة لنتصل بذواتنا، التي تخبرنا أن فورة الغضب تعني أن في تلك اللحظة المفعمة بالتأجج، ثمة شيء ما تم انتهاكه.

هنا الغضب يأتي حمايةً وإرشاداً لنعدّل المسار نحو ما يعيد إلينا الاتزان، وضرورة إعادة ترسيم الحدود لما نرفض تمريره أو الموافقة عليه.

أما الكراهية والعدائية، فهي رغبة تدميرية في سحق الآخر. ووجود تلك الرغبة، وعدم الوعي بها، يعني التماهي مع نفسية القاهر.

فيصبح الفرد مثل الشخص الذي أساء إليه، إذا امتلك السلطة، يتحول بها مباشرةً نحو “النسخة الهشة منه”.

هنا تصبح قوة الغضب إكراه وعدائية وتدمير، لأنها تتحول إلى سوطٍ ضمن عدّة القوة. فيبطش ويفتك بمن لا يمتلك نفس الأداة/ الحق في النديّة أو كف الأذى.

فأين تذهب النساء بكل هذا الغضب إذن؟

أتعثر بنساءٍ حولي يحوّلن الغضب إلى ممارسة تأملية وفق الثقافة البوذية، التي تتسلل إلى المجتمع المخملي المعاصر منذ عدة سنوات.

أعترف أنني أتورط بها بعض الوقت. لا بأس، فهي تمنحني القدرة التي أحتاجها لتأمل الألم داخلي من دون أن أتورط في ما يحدث في العالم، الذي يفوق قدرتي على التغيير.

أتعثر بدعواتٍ مستمرة للنساء أن “يتحزّمن ويرقصن”. أردد بيني وبين نفسي: “طيب حاضر”، بينما صوت ساخر داخلي يعلو: “ما كفاية بهجة واصطناع سعادة وإيجابية سامة مش في محلها”.

غير أنني أخمده بكثيرٍ من الرفق والرحمة، فبتّ أكثر اتساقاً، مع أن البعض يحتاج إلى فقاعة وهمٍ من حينٍ إلى آخر، ولا بأس أيضاً.

بينما أتتبع خريطة الغضب في داخلي ومحاولات تعتيقها، وقع بين يدي كتاب لفنانة بصرية مصرية نبتت روحها من ثورة يناير لم أعرفها من قبل.

غير أن الصفحة الأولى جعلتني أشعر أنني وجدت شيئاً يستحق التوقف.

الجملة الأولى في الكتاب تخبر القارئ/ة : “هذا كتاب أنتجته في أحد لحظات غضبي الكبرى”.

ثم يتوالى الكتاب على لسان صاحبته علا أبو الشلاشل بقولها: “في وقتٍ ما عام 2014، وسط نوبة غضبٍ حادة وجدت معي كراسة (دفتراً) وقلم ماركر أسود للتنفيس عن الغضب. بدأت أرسم نقاطاً وخطوطاً إلى جانب بعضها. ثم بدأت أتخيل الغضب وأرسمه. فتحولت الكراسة إلى مذكرات مرسومة، وثّقت 3 أشهر ونصف. الكراسة رسمت لنفسها بدايةً ونهاية، يوم دخلت حياتي ويوم أنهيت صفحاتها”.

نقاط وخطوط- مذكرات مرسومة- عُلا أبو الشلاشل 2014 \

أعادت تلك المقدمة إلى ذاكرتي كتاب “حين يتملكها الغضب”، الحائز على لقب “أفضل كتاب لعام 2018” من قبل الواشنطن بوست، فاست كومباني، سيكولوجي توداي للكاتبة والناشطة النسوية الأميركية ثريا شيمالي، خصوصاً في بحثها الهام حول علاقة مشاعر الغضب لدى النساء وقدرتهن على الإبداع.

إذ قالت: “هناك اعتقاد خاطئ أن الغضب يجب أن يتحوّل إلى فعل تدميرٍ وخرابٍ وعنف. في حقيقة الأمر أن مثل هذا التعريف الضيق يمكننا أن نراه آتياً بوضوح من مُخيلة ذكورية تبحث عن العراك المستمر. أما ما يحدث في عالم النساء، فهو أن غضبهن يتحوّل إلى طاقة هائلة للإبداع، تفصح عن نفسها في قدرة النساء المبدعات على توليد الفن بكافة أشكاله، وليس ذلك فحسب، بل بناء مجتمعات تشاركية”.

هل كانت علا تعتّق الغضب وتغزله أيضاً عبر فنها وحياتها؟ كيف؟

علا: من الغضب الشخصي- إلى العام، من العام إلى الشخصي

أخبرت علا أبو الشلاشل عن ولادتها لنفسها تراصفاً مع ثورة يناير 2011، بقولها: “يوم 31 يناير، بدأت تزورني أحلام بتاعة اللي هو طب أنا على مستواي الشخصي، هذا التغيير كيف يمكن أن يؤثر علي؟ ما هي الأمور التي ستتغير ويمكن أن تؤثر علي أنا؟ يعني ممكن مثلاً هل سأمشي في الشارع من دون تحرّشات طول الوقت مثلاً؟ هذا تغيير. هل يمكن مثلاً أن تصبح إجراءات القسم أرحم؟ هل يمكن أن أعمل بطاقة من دون البقاء قلقة 7000 مرة ونازلة والموضوع تقيل جداً على قلبي؟”.

وأضافت: “لو، لا أدري يعني، كل الحاجات التي لها علاقة بحياتي اليومية، والمجتمع، والحكومة، بدأت تقفز من حينٍ إلى آخر في رأسي. وفكرت أن هذه هي حياتي. لكن حينها أيضاً لم يكن منطقياً بالنسبة إلي أن لا أكون جزءاً من الناس، الذين/اللواتي يقمن/ون بالتغيير الذي سيؤثر علي أنا في النهاية. فلو أنا عايزة أكون موجودة، فأنا لازم أكون موجودة فعلياً مش موجودة باللي هو، آه أنا معاكو تمام، إنزلوا أنتم بقى”.

ظهر وجود علا في المجال العام بانخراطها كفاعلة وشريكة في عددٍ من المبادرات المجتمعية، التي شكلت عمق الوعي النسوي في السنوات الـ10 الأخيرة، وفترة الفوران الثوري على وجه الدقة.

فشاركت كفنانة بصرية ومؤدية، وعملت كمصممة غرافيك، ومصممة مواقع، ورسامة، ومحررة ومترجمة، وممثلة وحكّاءة.

تطوعت في مشروع غرافيتي نسوي في القاهرة عام 2012، طرح تساؤلاتٍ عن مدى ظهور كلمة “نسوية” وحاول المشروع نقل تلك التساؤلات إلى الفضاء العام.

عملت علا مع “نظرة للدراسات النسوية” و”اختيار للدراسات الجندرية”و”ويكي الجندر” و”مشروع بصي”.

أعادت تقديم غضبها ووعيها النسوي المتدفّق من خلال فن المسرح، عبر مشاركتها كممثلة وحكّاءة ضمن مشروع “بُصّي”.

وهو مشروع فني، يهدف إلى خلق مساحة حرة للنساء والرجال في مصر، لحكي التجارب الشخصية المسكوت عنها في المجتمع.

ويقوم “بصي” منذ عام 2006 بتوثيق وعرض القصص الحقيقية في شكل عروضٍ مسرحية، في مجتمعات مختلفة في مصر.

لم تكتفِ علا بكونها مؤدية وحكّاءة، بل اختارت أن تؤسس لحكايةٍ إبداعيةٍ أخرى، عن طريق إطلاق وتأسيس “مِشبّك”.

وهي منصة إبداعية محلية، لربط وتشبيك جميع الفنانين/ات المصريين/ات، عبر مساحة افتراضية للوصول بسهولة ويسر إلى كل ما يلزم لإتمام أعمالهم/ن الفنية.

انتزعت تلك الحكاية فوزاً مستحقاً عام 2012، بحصولها على جائزة القاهرة للتحول الثقافي، ولا زالت فاعلة حتى الآن.

كما شاركت في توثيق الانتهاكات الجنسية التي تعرضت لها النساء في المسيرات أثناء ثورة يناير 2011، من خلال عمل “على الثورة أن تكون نسوية”، الذي عُرض عام 2016 ما بين القاهرة والسويد.

وعلى الرغم من عدم تقاطعي معها في الحياة، إلا أن مثل تلك الروح المُغامرة الحرّة الجريئة الراكضة رغم أنف الذئاب والحياة بمنعطفاتها، تستطيع دوماً أن تُحلّق عبر كل الضفاف.

كيف لا، وهي التي أخبرتنا عبر واحدةٍ من رسوماتها، أن لا نتوقف عن الغضب والإبداع في آنٍ واحد، ورؤية أن هناك إمكانية لحكايةٍ أخرى بأعينٍ ترى مالايُرى”؟!

 

رسم أرشيفي- علا أبو الشلاشل 2016

علا ابو الشلاشل 

في 25 أيلول/سبتمبر، حلت الذكرى الرابعة لرحيل علا أبو الشلاشل. لم يحتفِ بها غوغل، ولا وسائل التواصل الاجتماعي.

لربما كان الأمر مقتصراً على دائرةٍ ضيقةٍ من الأصدقاء/الصديقات وشركاء/شريكات عملها المُلهم خلال رحلة هذه الفنانة التي غادرتنا سريعاً.

لا بأس، لدي كتاب “نقاط وخطوط”. وفي 29 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حل يوم ميلادها.

فلنعد تأريخ ذاكرتنا النسوية الجمعية، كي لا تتحول إلى طقوسٍ جنائزية.

فلنحتفل بكل الملهمات، ولنعبر إليهن بكل تجربتهن في تذوق الحياة، ومحاولتهن لترويض الغضب داخلهن.

فلنحتفل بكل ما خلّفته علا أبو الشلاشل، التي يبدو أنها نجحت في تعتيق كل هذا الغضب في فنٍ جميل، وبكل طريقةٍ ممكنة لعالمٍ أرحب خارجها، وأن قدميها أينما حلّت أنبتت حياة.

 كتابة: ريهام عزيز الدين

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد