الحراك النسوي في ليبيا .. حركة يتقاذفها التشدد والسلاح والتقاليد البالية

تناضل النساء الليبيات منذ عقود لنيل حقوقهن في المجتمع. وعلى الرغم من أن الحراك النسوي في ليبيا بدأ مبكراً، لكن، نظراً لعوامل اجتماعية وسياسية، لم تصل النساء في هذا البلد بعد إلى تشكيل حراك نسوي واضح المعالم والتركيبة والأهداف.

وبمجرد اندلاع الثورة الليبية القائمة، كما الحال مع نظيراتها من دول الربيع العربي منذ عام 2011، المُطالبة بالحريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وَجدت الليبيات حافزاً جديداً لإحياء حراكهن، الذي جمّدته فترة نظام معمر القذافي، وانخرطن بقوة في النشاط على أكثر من صعيد.

حتى بدا أن مرحلةً جديدةً من الحراك النسوي بصدد التشكيل، وسيكون لها أثر كبير على واقع النساء في هذا البلد.

لكن مجدداً تواجه الناشطات الليبيات انتكاسة جديدة، انطلقت منذ أواخر عام 2013، وتفاقمت عام 2014، تاريخ بداية الحرب الأهلية، والانقسامات السياسية الكبرى.

وما زالت متواصلة حتى اليوم، على الرغم من حالة الاستقرار النسبي التي تشهدها البلاد.

بدايات الحراك النسوي في ليبيا

انخرطت النساء الليبيات مبكراً في النشاط المجتمعي، وتحديداً منذ ثلاثينيات القرن الماضي، لتمكين النساء ودفعهن للاضطلاع بأدوارٍ أكبر.

حصل ذلك على الرغم من طبيعة المجتمع القبلي في غالبه، والمتمسّك بالأدوار التقليدية للنساء، وانتشار الأمية، وما يرافقها من تأخرٍ فكري مجتمعي.

عوامل جعلت بداية هذا الحراك صعبةً ومحدودة. لكن رائداته آمنن بخطواتهن وأصرّين على مواصلة المحاولة إيماناً منهن أن جهودهن ستثمر حتماً يوماً ما.

وعلى الرغم من اختلاف المطالب نسبياً في الوسطين الحضري والريفي، إلا أن تعميم التعليم كان مطلباً موحداً لكلي الطرفين، إيماناً من الناشطات حينها بأن التعليم هو السبيل الوحيد لجعل النساء قادرات على نيل أعلى المراتب.

واستمر الحراك النسوي لسنوات في تحديه للبيئة الاجتماعية القائمة، حتى تم تأسيس أول جمعية نسوية هي “النهضة النسوية”، في مدينة بنغازي.

نادت هذه الجمعية بحق النساء في تقلّد مناصب سيادية وعلمية عليا عام 1954، وتحديداً على يد المناضلة الليبية حميدة العنيزي، التي اتسع نشاطها في ما بعد ليصل إلى العاصمة طرابلس.

تدريجياً، بدأ الحراك النسوي يتّسع ويشهد انتعاشة كبيرة، خصوصاً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، التي شهدت أيضاً ظهور أول مذيعة ليبية، وتأسيس الاتحاد النسائي الليبي عام 1965.

كان هذا الاتحاد ثمرة إصرار الناشطات الليبيات حينها على تشكيل هيكلٍ رسمي مستقل، يهتم بقضايا النساء حصراً.

كما نجحن في فرض قانون المساواة بين الجنسين عام 1970، ومكاسب أخرى على غرار إمكانية الالتحاق بالمؤسسة العسكرية، جنباً إلى جنب مع الرجال.

لكن صعود معمر القذافي وضع حداً لهذا الحراك، بوضعه كل أشكال النشاط الاجتماعي تحت سطوة النظام حتى سقوطه عام 2011.

وفي حديث خاص لـ”شريكة ولكن” قالت الناشطة النسوية عبير ابراهيم إن “الاتحاد النسائي استمر في نشاطه حتى فترة سبعينيات القرن الماضي، حين تغيرت القوانين المتعلقة بكل نشاط اجتماعي في عهد القذافي. وتم خلالها أيضاً تقنين الاتحاد، وأصبح أي نشاط مجتمعي خاضع بالضرورة للسلطة السياسية”.

 

عبير ابراهيم
الناشطة النسوية عبير ابراهيم

 

وأضافت أنه “لم يعد بمقدور غير المقرّبين/ات من النظام أو التابعين/ات له الانخراط في هذا النشاط. بمعنى أنه لم يعد هناك أي منظمة أو جمعية أو أي هيكل مدني مستقل عن النظام، حتى موعد اندلاع الثورة التي خلقت مناخاً جديداً للنشاط النسوي”.

أما الناشطة والصحافية الليبية ليلى المغربي، فرأت في مقابلة لمنصتنا، أن “الحديث عن الحركة النسوية يفرض التوقف عند مساهمة النساء الليبيات في الجهاد ضد المستعمر الإيطالي، ثم الدور البارز لرائدات ليبيات أثناء حكم الملك الراحل إدريس السنوسي، في عدة مجالات ثقافية وإعلامية وسياسية”.

وأكدت أنه “في هذه الفترة، حصلت الليبيات على حق الانتخاب، وكانت من ضمن أوائل الدول العربية التي أعطت حق الانتخاب للنساء”.

وأضافت: “لا يمكننا أن ننكر أيضاً أنه في فترة حكم القذافي حدث تطوير لقوانين الأحوال الشخصية التي تدعم حقوق النساء وتنصفها إلى حدٍ بعيد”.

لكنها أشارت ألى أن “العائق كان دائماً العادات والأعراف والتقاليد، التي تسري في ليبيا، وتقيّد حق النساء في العمل العام. وتفرض الكثير من الأفكار البالية، ضاربةً بعرض الحائط القوانين أو حتى الشريعة في ما يخص الميراث مثلاً”.

الحراك النسوي الليبي بعد الثورة

كانت النساء الليبيات في الصفوف الأولى للتظاهرات التي خرجت ضد نظام القذافي. وكن حاضرات للقيام بأدوار كثيرة على غرار معالجة الجرحى ودعم الثوار حتى في الجبال.

بالإضافة إلى حضورهن القوي على مواقع التواصل الاجتماعي، لتوثيق الثورة ونقل شعور الداخل والخارج بشرعية ثورتهن.

وبمجرد انتهاء العمليات المسلحة، وجدت الليبيات أن الفرصة مواتية كي لا يعدن أدراجهن أو يتوارين إلى الخلف، وأن يتولين إحياء مسيرتهن التي توقفت منذ بداية السبعينيات.

لهذا، شاركن من جهة في مفاوضات السلام والحوارات السياسية والانتخابات.

ومن جهةٍ أخرى، انخرطن بقوة داخل مؤسسات المجتمع المدني. واقتحمن الإعلام بشكلٍ أكبر، لتوسيع دائرة عملهن وحضورهن وتأثيرهن.

الناشطة والصحافية الليبية ليلى المغربي
الناشطة والصحافية الليبية ليلى المغربي

 

وأشارت الناشطة والصحافية ليلى المغربي إلى أنه “أثناء ثورة شباط/فبراير ضد القذافي، شاركت الليبيات بدورٍ بارزٍ وفعال، في جميع المجالات، وفرضن أنفسهن بقوة”.

وأضافت أنهن “دخلن المعترك السياسي، كنائبات في البرلمان ووزيرات، وتأسست العديد من المنظمات المدنية التي تعنى بحقوق النساء والجندر”.

كما اعتبرت أن “الثورة أزاحت بعض القيود التي كبّلت النساء سابقاً، وكانت فرصةً لتثبيت الأقدام وانتزاع بعض الحقوق، نحو مجتمعٍ مدني خالٍ من التمييز على أساس الجنس”.

وعلى الرغم من نشاط النساء الكبير بعد الثورة، وانخراطهن القوي في النشاط المدني، إلا أن سجلات مفوضية المجتمع المدني، أوضحت أن 7% من المنظمات في ليبيا، اللاتي يبلغ عددها 360 منظمة، أسّستها نساء.

و15% منها فقط تنشط في مجال تمكين ودعم النساء. ما يعني أن الحضور النسوي الكبير لم تكن قضاياه الأهم هموم النساء.

لم يطل أمد هذا الانفتاح سوى بضع سنوات، لتجد الليبيات أنفسهن مجبرات مجدداً على التراجع، وهن يشاهدن صعود تياراتٍ سياسية متشددة، ومجموعاتٍ مسلحة تنادي بجملةٍ من الأفكار التي تقف على النقيض مع المشاريع والأفكار التي كنّ بصدد التأسيس لها، وبلورتها في المجتمع.

لم يكن بوسعهن الاستمرار في النشاط بالآليات السابقة، وبالجرأة والقوة نفسها، بعد أن وجدن أنفسهن هدفاً مباشراً لجميع الأطراف، بما في ذلك بعض الرجال في المجلس الوطني الليبي، الذي تأسس عام 2012.

فاستخدموا التشويه والنيل من كرامتهن على مواقع التواصل الاجتماعي، أو التهديد والترهيب، أو الاختطاف والتعذيب، أو الاغتصاب أو الاغتيال على يد المليشيات المسلحة.

ظواهر تفاقمت وانتشرت بشكلٍ أوسع مع بداية الصراع المسلح بين الغرب والشرق.

سيناريو دموي مرعب لم تتهيأ له الناشطات الليبيات. وربما لم يكن ليتبادر إلى أذهانهن أنهن سيُسقن إلى هذا المصير.

لذلك، تركت بعضهن قسراً نشاطهن، وهاجر بعضهن الآخر إلى دولٍ أخرى خوفاً من التصفية الجسدية.

بينما استمر البعض الآخر بالنشاط في دوائر ضيقة بعيداً عن أعين المليشيات التي تترصّدهن.

وأوضحت الناشطة النسوية عبير ابراهيم في مقابلتها مع منصتنا أن “مسلسل ترهيب واستهداف الناشطات الليبيات بدأ منذ أواخر عام 2013، ليس فقط عبر الجماعات المسلحة، بل حتى من المؤسسات الرسمية”.

وأضافت: “كانت البداية مع دار الإفتاء، التي حاربت بشدة الاتفاقيات التي وقّعت عليها ليبيا، مثل سيداو وغيرها من القرارات والقوانين الداعمة للنساء”.

كما أوضحت أنه “كان هناك محاولات من المؤتمر الوطني لنزع هذه الحقوق، والتراجع حتى عن القوانين الموجودة من قبل، والتي تصب أيضاً في سياق حقوق النساء”.

وأكدت أنه “في تلك الفترة اضطررنا كناشطات لأن نصبّ عملنا على التظاهر والتنسيق مع النساء في المؤتمر الوطني أساساً للحفاظ على تلك المكتسبات الموجودة، لا لإضافة مكاسب جديدة للنساء”.

لكنها أشارت إلى أن “النساء داخل المؤتمر كن خائفات بسبب التهديدات التي كانت ترد إليهن من زملائهن الرجال داخل المؤسسة نفسها، وعمليات الخطف التي كانت تطال المحاميات. وكانت هناك عملية واسعة بصدد الانتشار لتكميم أفواه النساء”.

ولفتت إلى أنه “عام 2014، مع بداية الحرب الأهلية الثانية، والانقسامات السياسية، كانت التأثيرات كارثية على الحراك النسوي في ليبيا”.

فبدأ مسلسل الخطف والتعذيب، وخصوصاً الاغتيال، الذي طال عدة ناشطات وصحافيات.

واستمر، بحسب عبير، على النسق نفسه حتى عام 2016، ما “ضيّق مساحة نشاطنا كثيراً. وخلق حالةً من التباعد بين المنظمات النسوية، ليس فقط جغرافياً، بل حتى اجتماعياً، بسبب الانقسامات التي شهدتها البلاد، وألقت بظلالٍ وخيمة على كل شيء”.

التصفية الجسدية لإسكات النساء

قتل عدد كبير من الناشطات والصحافيات الليبيات على يد المليشيات بسبب آرائهن وأنشطتهن.

ونذكر منهن الصحافية والناشطة الحقوقية نصيب ميلود كرفانة، التي قتلت ذبحاً في 29 مايو/أيار 2014، بعد أن خُطفت مع خطيبها في مدينة سبها.

والنائبة السابقة للمؤتمر الوطني فريحة البركاوي، التي اغتيلت في 7 يوليو/تموز 2014 بوابلٍ من الرصاص في إحدى محطات التزوّد بالوقود في مدينة درنة.

النائبة السابقة للمؤتمر الوطني فريحة البركاوي
النائبة السابقة للمؤتمر الوطني فريحة البركاوي

 

ثم الناشطة سارة الديب، التي اغتيلت في 21 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2014، في منطقة حي الأندلس في العاصمة طرابلس.

ليأتي دور الناشطة انتصار الحصائري، التي تم العثور عليها مقتولةً بأداة حادة في الحقيبة الخلفية لسيارتها في طرابلس يوم 23 فبراير/شباط 2015.

والناشطة سلوى بوقعيقيص، التي تمت تصفيتها في 25 يونيو/حزيران 2016 في منزلها في مدينة بنغازي.

الناشطة سلوى بوقعيقيص
الناشطة سلوى بوقعيقيص

 

وفي 17 يوليو/تموز 2019، خُطفت النائبة والناشطة الحقوقية سهام سرقيوة في بنغازي، ولم يعثر عليها حتى اليوم.

ثم قُتلت الحقوقية حنان البرعصي، في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 في أحد شوارع بنغازي، في وضح النهار، على يد مجموعةٍ مسلحة.

وعلى الرغم من التعتيم على العدد الصحيح للنساء الليبيات اللاتي تم اغتيالهن، إلا أن المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا غسان سلامة، ذكر في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أن 31 امرأة ليبية قتلت، وأصيبت 41 أخرى منذ مطلع العام نفسه.

وفي السنتين الأخيرتين، سادت حالة من الاستقرار النسبي في ليبيا. إلا أن التضييقات المفروضة على الناشطات النسويات في هذا البلد ما زالت متواصلة، بل وبنسقٍ أكبر، وصور أخرى، كما تؤكد الناشطة عبير ابراهيم.

كما أوضحت عبير أنه “خلال الأشهر الماضية، حدثت حملة اعتقالات وتم تصوير فيديوهات لنشطاء تحت التعذيب يتحدثون عن النسوية الإلحادية، وهو مصطلح جديد تروّجه المجموعات المسلحة”.

وأضافت أن هذا المصطلح “في الحقيقة جزء من أجندة وَضعت وخلطت بين النسوية والإلحاد والليبرالية مع العلمانية، والترويج لها كمفاهيم ضارة، وهدامة للمجتمع الليبي. وهذه الأجندة مدعومة من دار الإفتاء منذ فترةٍ طويلة”.

بدورها، أقرت الناشطة والصحافية ليلى مغربي بأن “حرب فجر ليبيا في طرابلس والكرامة في بنغازي وما رافقها وتلاها من انتشار للعنف والاغتيالات والخطف، عرقل استمرار عمل الحركة النسوية، وعطّل فرص تقدمها خطوة نحو الأمام، ونشر الخوف والرعب بين الكثير من الناشطات النسويات، وأوهن عزيمتهن”. لكنها تؤكد على وجود أسباب أخرى، تلتقي في بعضها مع ما ذكرته عبير ابراهيم.

بينما قالت ليلى إن “الجزء الأكبر من منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال حقوق النساء، ليست أكثر من تجمعات نسائية تقدم بعض الأنشطة، كندوات وطباعة نشرات تخص قضايا النساء. من دون أن تحدث تأثيراً حقيقياً أو إيجابياً، لأن هذه الندوات أو التجمعات لا تضم سوى ناشطات في المجال”.

وأوضحت أنه “مؤخراً بات يُواجه الحديث عن الحراك النسوي بالتكفير، وتنفيذ أجندات غربية، والدعوة للانحلال الأخلاقي وغيرها من التهم، التي حوّلت مسار عمل النسويات، من العمل في الميدان على نشر التوعية بأهمية حقوق النساء، ينشغلن بالدفاع عن أنفسهن، خوفاً من المجتمع والمليشيات وغيرها”.

وأكدت أنه “قد نجد بعض النسويات يتحدثن بجرأة لأنهن مقيمات في الخارج، وبمأمن من الاعتقال أو الاغتيال. أما من هن في الداخل، فعليهن أن يحسبن ألف حساب قبل العمل أو التصريح. ولا بد لي من الإشارة إلى أن هناك قلة من المنظمات المدنية تبذل جهوداً حقيقية في هذا المجال، لكن للأسف تأثيرها محدود”.

ويبدو أن ما ذهبت إليه الناشطة والصحافية ليلى مغربي له ما يبرره، خصوصاً مسألة تكفير الناشطات ووضعهن في خانة “المُهددات للمقومات الثابتة للمجتمع ومعارضة تعاليم الدين وخدمة أجندات غربية”.

وفي ظل هذه الظروف الأمنية غير الآمنة بالنسبة إلى الناشطات الليبيات، وعدم استعداد المجتمع الليبي ثقافياً وفكرياً، فإنه يمكن القول على لسان الناشطة والصحافية ليلى مغربي إن الحركة النسوية الليبية هي الآن أشبه بطفلٍ رضيع يحاول الوقوف والمشي، ويتراجع بسبب الفوضى التي تعم البلاد، وغياب الدولة والقانون، وسيطرة السلاح.

يضاف إليها المفاهيم الخاطئة عن الحركة النسوية في العقل الجمعي الليبي، والأعراف والتقاليد وانتشار الفكر الإسلامي المتشدد الذي يتعاطى مع هذه المفاهيم بالتكفير وتهمة الإلحاد.

 

كتابة: فاطمة بدري

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد