صلة رحم.. معالجة درامية إنسانية لقضايا النساء

في “صلة رحم” المعروض على منصة شاهد خلال رمضان الجاري، تروى قصص نساء بمنظور إنساني بعيد عن العبرة والوعظ. نساء يقررن الإجهاض، وأخريات يقمن بتأجير أرحامهن، وغيرهن يقدمن دعمًا مشوبًا بمحاولات نجاة فردية. فتح المسلسل بابًا لمعالجات درامية حساسة لقضايا الصحة الجنسية والإنجابية التي غالبًا ما تمت شيطنتها دراميًا.

لم تنجح الدراما المصرية في طرح قضايا النساء دون تنميطٍ أو وعظٍ إلا في السنوات الأخيرة، وعلى مضض. حيث اعتدنا أنّ تقديم الدراما للشخصيات النسائية في صورة “عبرة”، لترسيخ مفاهيم أبوية وأفكار محافظة هي الأنسب سياسيًا واجتماعيًا.

وكما يُقال: “الفن مرآة الواقع”، فالبعض يريد واقعًا محددًا تمشي فيه النساء داخل الحائط وليس جانبه، وحبذا لو اختفين تمامًا.

بعد نجاح مسلسله بطلوع الروح، الذي روى قصة امرأة مصرية خطفها زوجها وسافر بها إلى سوريا حيث انضما لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أطل علينا الصحافي والسيناريست المصري محمد هشام عُبية بمسلسل “صلة رحم”.

صلة رحم.. ثلاث نساء ورجل واحد

يبدو للوهلة الأولى أن المسلسل يحكي قصة طبيب تخدير، حسام، ويقدمه إياد نصار. لكن بمرور الوقت، نكتشف أن السردية هي لثلاث نساء في حياة هذا الرجل. الأولى زوجته ليلى، وتقدمها يسرا اللوزي، والثانية جيهان، حبيبته السابقة وتقدمها ريهام كفارنة، وحنان التي يقوم باستئجار رحمها، أسماء أبو اليزيد. 

تعود جيهان من الخارج، وتنقلب حياة الزوجين رأسًا على عقب بعد حادثة أدت لإجهاض ليلى واستئصال رحمها. يبحث حسام فورًا عن حلٍّ بديل لتعويض ليلى، فيسرق بويضاتها المجمدة ويستأجر رحم حنان لإتمام المهمة. في كل موقف، تنكشف أنانية حسام، كأغلب الرجال في حيواتنا الواقعية، لا يفكر إلا بما يريد هو. 

هو رجل ذو مبدأ ثابت، لا يتغير إلا عندما يحتاج مخرجًا من مأزقٍ ما. كما فعل مثلًا مع دكتور خالد، طبيب النساء والتوليد الذي يجري عمليات إجهاض غير قانونية للنساء. تعامل حسام مع خالد بفوقيةٍ أخلاقية، وكاد يبلّغ عن ممارسته للإجهاض، قبل أن يحتاجه لزرع بويضات ليلى داخل رحم حنان. فيصبحا صديقان، ويساعده في عمليات الإجهاض بنفسه فيما بعد.

ربما نرى حسام رجلٌ ازدواجي المعايير، لكن بالتجربة، يصل حسام بنفسه إلى أن عمليات الإجهاض ضرورية. يقتنع بها لتنجو النساء من عنف ووصم اجتماعي يلاحقهن لو مارسن الجنس من دون زواج، أو كما مررها صناع العمل “أخطأت”. 

في الحلقات الأولى، نعرف أن حنان مرت بتجربة إجهاض على يد دكتور خالد أيضًا، هكذا توصّل إليها حسام. أجهضت حنان لأن زوجها السابق كان يعنفها ويضربها، فقررت الهروب والإجهاض والخلع. أما صديقتها نورا، فكانت حاملًا من صديقها الحميم، شاكر، قبل أن تقرر الإجهاض. 

الإجهاض في صلة رحم

طرح المسلسل قضية الإجهاض في إطار الزواج وخارجه. وكان موقف طبيب الإجهاض واحدًا، فلم يصم أو يبتزهما أيّهما كما يحدث عادة من أطباء النساء والتوليد في هذه الحالات. إذ يستغلون هشاشة واحتياج النساء للإجهاض، ويبتزوهن جنسيًا وماليًا.

ربما كان دكتور خالد مثاليًا بإفراط، إلا أنه يمكن اعتباره معادل موضوعي لكيفية طرح قضايا الإجهاض في الدراما المصرية عامةً. أو ربما قصد صناع المسلسل تقديم صورة إنسانية لطبيب إجهاض مؤمن بالفعل أن قرار الإجهاض من حق النساء. هذا حتى لو تم تقديم الأمر بصورة محافظة نسبيًا وأن هؤلاء النساء “أخطأن”، بدلالة أن حنان نفسها كانت متزوجة حين أجهضت.

ينتهي الخيط الدرامي مع دكتور خالد بقضية يدافع فيها أمام وكيل النيابة عن حق النساء في الإجهاض الآمن. يقولها بشكلٍ واضح أن الحق الوحيد في الحياة ليس للبويضات المخصبة، إنما للنساء أنفسهن. يصرّح أن الحياة هي حياة النساء، وأن من حقهن اختيارها وتحديد مصيرهن الجنسي والإنجابي. 

المأخذ الأول هو تقديم النساء المجهضات كمخطئات، بجانب اعتقاد الطبيب أن سلطته تخوله لإجراء إجهاض واحد لكل حالة. إذ يعتقد أن الحمل الأول “غلطة”، أما الحمل الثاني، فهو إصرار وتشجيع على هذا “الخطأ”.

أما المأخذ الثاني، فهو أن وكيل النيابة ذكر نصًّا أن الإجهاض “اعتداء على الحق في الحياة”، بالنسبة إلى الأجنة المحتملة. لكن القانون المصري لا يذكر الحق في الحياة في مواد الإجهاض، ولا يضع تسبيبًا، ولو غير منطقيٍ، لتجريمه، كما في بلدان أخرى.

إذ ينص قانون العقوبات المصري في مواده 260-264 بمعاقبة المجهضات وكل مَن يشارك في الإجهاض. إلا أن نفس القانون لم يذكر الحق في الحياة كجدلية يتبناها اليمين المحافظ، متمثلًا في التشريع والتنفيذ والقضاء. فتلك الجدلية انتشرت في أميركا وأوروبا أواخر التسعينات، بعد مؤتمر القاهرة الإنمائي للسكان 1994 وبكين 1995. بينما تم تجريم الإجهاض في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، تحديدًا عام 1937.

تأجير الرحم.. قرار أم احتياج مالي؟

قد تكون الإجابة داخل السؤال، فالتأجير هو استخدام عين يملكها الغير لفترة محددة مقابل مبلغ مالي. في صلة رحم، النساء اللواتي وافقن على تأجير أرحامهن كن بحاجة إلى مال، بمَن فيهن حنان. 

الأمر أعقد من ذلك قليلًا. فعندما اختلفت حنان مع حسام، الأب البيولوجي، كان الإجهاض مطروحًا ضمن مخاوفه من غضبها. وطالما أن إنهاء الحمل تم طرحه، فقد يدخل استكمال الحمل حيز القرار الشخصي للحامل. أي أنه حتى مع تلقي مبلغ مالي مقابل تأجير الرحم، ما تزال للنساء أحقية استكمال الحمل، علاوةً على قرار القبول نفسه.

مع هذا الطرح، كان هناك جانب ديني يتعلق باعتبار تأجير الرحم له حرمانية في الدين الإسلامي. ورغم ذلك، عالج السيناريو هذا العوار بالتفرقة بين موقف الدين من أمور طبية بعينها في الماضي، تتمتع اليوم بلقب “حلال”. 

فيما كانت الحُجة أن تأجير الرحم سيفتح باب “خلط الأنساب”، وهو أمر إشكالي للغاية. فبالإضافة إلى التطور الطبي والسجلات الرقمية إلخ، قدمت شخصية “ريكو”، مغنية في ملهى ليلي، ما يثبت أن اختلاط الأنساب ليس مشروطًا أو متوقفًا على تأجير الأرحام. لو كانت هذه الفرضية صحيحة طبيًا من الأساس.

كانت “ريكو” متزوجة حين علمت بحملها من شخصٍ آخر قبل زواجها، ولكنها قررت الإجهاض بدلًا من نسب طفل/ة لأب غير بيولوجي دون معرفته. فالقرار دائمًا في يد النساء، ولعل لهذا السبب تحديدًا، لن يتم تقنين تأجير الرحم في بلداننا قريبًا. المشرّعون، والجهات التنفيذية والقضائية، والمجتمع، وحتى داخل المنظومة الصحية، لا يسمحون بحرية النساء في أجسادهن.

الرجال لا يقررون

بدأ العمل الدرامي باتخاذ رجل قرارٍ لسرقة بويضات زوجته، ليلى، وإجراء حملًا مجهريًا في رحم مستأجر دون معرفتها. بينما تتشابك الخيوط الدرامية، نرى الشخصيات النسائية داخل المسلسل يقررن بأنفسهن. حتى ليلى، قررت أنها موافقة على استكمال حنان للحمل.

قرر عمّ حنان تزويجها لشخصٍ قام بتعنيفها فيما بعد، لكنها قررت الإجهاض ثم الخلع. وقفت ليلى، بمساندة أبيها، ضد أخيها زياد، عندما أراد رفع قضية طلاق نيابة عنها. اتفقت حنان مع حسام على تأجير رحمها له، وحين اختلفت معه، غادرت المنزل وهددت بالإجهاض. 

رغم تمني جيهان أن يطلب حسام زواجها، لم تساومه بعدما عرض عليها فكرة تأجير رحمها له، بل رفضت. أما ناريمان، فتغلبت على خوفها من الطلاق لو قام يوسف بإرسال فيديو حميمي لها إلى زوجها زياد. لذلك، قررت أن تصارح زياد بنفسها. ونورا التي تخلى عنها حبيبها شاكر، قررت الإجهاض. تمامًا مثلما كان الإجهاض قرار ريكو.

وعن سهام الممرضة، فكانت دائمًا ما تدفع زوجها لقرارات في صالحها، وتستخدم الحيلة التقليدية بأنه صاحب القرار لأنه “رجل البيت”.

كل هذه التعقيدات ليست وليدة صدفة أو حظ. تطلب الأمر نسج قصة رجل واحد، لنرى هؤلاء النساء على الشاشة في قضايا صحة جنسية وإنجابية. يبدو أننا ما زلنا بحاجة إلى استخدام “كارت الرجل محور الحدث”، لإقناع الجمهور بأحقية النساء في اتخاذ قرارات تخص أجسادهن. 

النساء للنساء

بالنسبة إليّ، كانت مشاهد دعم النساء لبعضهن هي الأكثر حميمية. غمرتني ميرفت بمحبة صادقة، حينما عرفت بأمر إجهاض نورا، وبدلًا من طردها ووصمها، دعمتها. كذلك كانت مشاهد حنان مع نورا في المستشفى أثناء الإجهاض وبعده. 

ورغم أن الممرضة سهام تطلب من المجهضات “الحلاوة”، أي البقشيش، فهي لا تصمهن أخلاقيًا. كذلك خلت مشاهد ليلى من أي وصم أخلاقي لحنان. على العكس، حينما رأتها للمرة الأولى نما بينهما رابط عاطفي تمثل في ربتة على كتف ليلى بينما تتحسس بطن حنان.

ومن المشاعر إلى الواقع المشترك بيننا كنساء، تتنحى محامية طليق حنان عن قضية بطلان الخلع. وذلك بعدما باحت لها حنان بواقعٍ عنيف عاشته معه، ولماذا قررت الهروب قبل أن يتحول ضربه لها إلى جريمة قتل.

ومن نفس الواقع المشترك، تضفي جيهان جانبًا نسويًا على عملية تأجير الرحم. فتقوم بما نعرفه تحت مصطلح “الموافقة المستنيرة” مع حنان وتبلغها بأمانة عن مضاعفات الحمل والولادة. ثم تتأكد أنها تقبل ذلك بالفعل، وليست تحت تهديدٍ ما، أو أنها لا تعرف ما قد ينتظرها. وعلى امتداد الخط، تساعد ليلى صديقتها وزوجة أخيها، ناريمان، حينما تتعرض للابتزاز. 

على هامش صلة رحم

تطرق المسلسل لعدة قضايا أخرى، منها الابتزاز وتخدير النساء بهدف استغلالهن جنسيًا. ومنها الاعتداء المتكرر على الطواقم الطبية داخل المستشفيات العامة. 

كما سلط الضوء على أنه مهما كانت عمليات الإجهاض تتم بصورة خالية من الوصم الأخلاقي للمجهضات، ما يزال حق النساء في تلقي رعاية صحية قائمًا. وظهر ذلك جليًا عندما تعرضت نورا إلى مضاعفات طبية أثناء الإجهاض، وتطلّب الأمر نقلها إلى مستشفى لإنقاذ حياتها.

كذلك قدم المسلسل المجهضات كنساء واعيات بقرارتهن. اختفت مشاهد الذنب والحسرة التي يقصد صناع الدراما حشرها في الأعمال الدرامية لتخويف النساء من الإجهاض. على العكس، عاشت حنان حياة أفضل بعد إجهاضها، وتزوجت نورا من حبيبها في النهاية.

من منظور نسوي، وددت لو أن القصة محورها امرأة. في الوقت ذاته، لديّ شعور بقبول ما تم عرضه، لأنني مدركة جيدًا للسياق العام. تمنيت أيضًا أن يكون العمل من إخراج المخرجة كاملة أبو زكري. فهذه النوعية من الدراما النسائية لزمها إخراج نسائي.

بوجهٍ عام، حظي المسلسل على اعجاب الجمهور، و-لله الحمد- لم يتهمه محاميو قيم الأسرة بتهديد قيم المجتمع المصري بعد.

أما نحنُ، النسويات المهتمات بالعدالة الجنسية والإنجابية، فالطرح الدرامي مرضيًا وإنسانيًا.

وعن النهاية، فمفتوحة كما كان الحال مع مسلسل بطلوع الروح.

تحولت القصة من امرأة قامت بتأجير رحمها لزوج وزوجة، إلى رجلٍ تبرع بحيوان منوي لتتشارك امرأتان تجربة الإنجاب.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد