ضحايا الأسيد في مصر .. جرائم عنيفة وقوانين غير رادعة

بعد مرور عدّة أشهر على  الخطوبة، قررت سلمى (اسم مستعار) عدم إتمام الزيجة عقب مشكلات كثيرة. فتواصل أهلها مع الشاب وأبلغوه بقرارها، لكن أحداً لم يتوقع النتيجة، وهي فقدان سلمى عينها اليمنى، علاوة على حروق شديدة منتشرة في الوجه والصدر بفعل الأسيد “مياه النار” التي رماها بها خطيبها انتقاماً.

هذا العام تُكمل سلمى سنواتها العشرين، لكنّها ما تزال تتذكّر تفاصيل الحادثة التي دمّرت حياتها منذ 3 سنوات. كان اليوم نفسه الذي علِم فيه خطيبها بأنّها قررت إنهاء الخطبة، فاعترض طريقها بدراجته الكهربائية بينما كانت تسير بجوار شقيقها الأصغر في الشارع محاولاً إقناعها بالعدول عن قرارها. وعندما رفضت، أخرج زجاجة وألقى محتواها عليها وفرَّ هارباً.

اتخذت العائلة المسار القانوني، فحكم على الشاب بعشر سنوات سجن هي العقوبة القصوى. إذ نتج عن الحادث عاهة مستدامة لسلمى. لكن الحكم بقي غيابيًا، لأن الأخير هارب، ولكنه للمفارقة ظلّ يهاتفها بين الحين والآخر ليهددها، أو ليطالبها بالتنازل عن القضية مقابل زواجه بها. هي في المقابل، خضعت لـ 15 عملية جراحية لتنظيف الجلد المحترق، والترقيع وزرع الخلايا الجذعية، وما زلت حتى الآن تستكمل جلسات الليزر العلاجية.

قد تكون سلمى من “الناجيات” المحظوظات نسبياً في بلد تعد فيه الحروق على أنواعها السبب الثالث للوفاة، بحسب دراسة أجرتها “مستشفى أهل مصر” المخصصة لعلاج الحروق، فيما ماتزال القوانين غير رادعة بشكل كافٍ.

فبحسب المواد 240 و241 من قانون العقوبات المصري، تتراوح العقوبة القصوى للتسبب بعاهة مستديمة من سنة إلى 3 سنوات، أو الحبس مدة لا تزيد عن سنتين في حالات أخرى، أو غرامة لا تقل عن 20 جنيهًا -نصف دولار- ولا تتجاوز 300 جنيهًا مصريًا- 10 دولار.

 

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by Sharika wa Laken – شريكة ولكن (@sharikawalaken)

 

سلمى هي واحدة من النساء/الشابات اللاتي يتعرضن لهجمات الأسيد الحارقة من الشريك العاطفي، سواء كان زوجاً أو خطيباً أو متقدم لطلب الزواج وتم رفضه. بينما رد الفعل هو إلقاء مادة الأسيد، والمسمى العلمي لها  حمض النتريك HNO₃.  وكان عالم الكيمياء  جابر بن حيان أول من وصف تلك المادة باسم “مياه النار”، لأنها قادرة على إذابة المعادن، وأصبح ذلك اسمها الشعبي المتداول.

1500 امرأة حول العالم يتعرضن لاعتداءات الأسيد سنويًّا

لا يوجد إحصاء رسمي لمعدلات هذه الجريمة التي تعد واحدة من صور العنف ضد النساء في مصر، ويتم ممارستها بهدف الانتقام والتشويه.  قامت معدتا التحقيق برصد وتحليل 47 جريمة “حرق بالأسيد” منشورة خلال السنوات العشر الأخيرة، في ثلاث صحف مصرية هي “اليوم السابع والمصري اليوم والقاهرة 24”. من خلال الرصد، تبيّن أن النساء كنّ الضحايا في 34 جريمة ،  منها 23 ارتكبها شريك عاطفي سابق.

وتنوّعت بقية الحالات بين الجيران أو مجهولين، أو زملاء عمل أو أقارب، لأسباب مختلفة، كالمشاجرات أو الحرمان من الميراث، أو الخلاف على المخدرات، أو البلطجة.

رصدت منظمة “الثقة الدولية لمساعدة الناجيات من هجمات الأسيد” (ASTI) ، أن هناك نحو 1500 امرأة حول العالم يتعرضن لاعتداءات الأسيد سنويًا، مع توقعات بأن تتجاوز النسبة الحقيقية هذا الرقم بسبب الخوف من الإبلاغ. ورصدت المنظمة ارتفاع هذه الجرائم في جنوب آسيا، ومنها الهند وباكستان وبنغلاديش. حيث يباع الحمض بتكلفة زهيدة، وهو ما أكده تقرير آخر صدر عن مؤسسة Acid Survivors Foundation عام 2021، وجد أن النساء مثّلن 70 % من ناجيات/ين عنف الأسيد في  بنغلاديش.

منظمة  (ASTI) ، وهي منظمة دولية تأسست في المملكة المتحدة عام 2002 للعمل على إنهاء هجمات حمض الأسيد في العالم،  إلى أن هجمات الأسيد مشكلة عالمية لا تفرق بين دول متقدمة ونامية.

فمثلًا ترتفع معدلاتها في بريطانيا التي شهدت 454 هجومًا بمواد حارقة في عام 2016 وحده، مقارنة بـ 261 في عام 2015، مع فارق جذري في العقوبة الرادعة. حيث تعتبر القوانين البريطانية حيازة مادة حارقة في مكان عام جريمة، كما تفرض قيودًا على بيع هذه المواد عبر الإنترنت.

وبحسب الدكتور عمرو مغازي عضو الجمعية الدولية لإصابات الحروق، فإن مادة الأسيد الحارقة كانت أكثر انتشارًا في مصر خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي عن ما هي عليه اليوم؛ نظرًا لاستخدامها في تلك الفترة بشكل أساسي في صيانة وتنظيف بطاريات السيارات السائلة، ولكن مع انتشار بطاريات السيارات الجافة قلّ توفر مادة الأسيد، لكن ذلك لا يمنع من استمرار توافرها وسهولة شرائها والحصول عليها وهو ما لا يجرّمه القانون ولا يضع له ضوابط حتى الآن، رغم أثرها المدمر.

واللافت أن “سلاح الجريمة” هذا، لا يتطلب ترخيصاً ولا اقتدارًا ماليًا. فـ “ماء النار” متوفر بتركيز متفاوت في محلات بيع مواد الطلاء والبناء، ويستخدم أحياناً في التنظيف المنزلي وإزالة آثار الطلاء. وفي أحد محلات حي مدينة نصر استطاعت معدتا التحقيق شراء زجاجة بتركيز  90% بمبلغ زهيد قيمته عشرين جنيهاً، أي أقل من دولار واحد.

تقدر إحصائية صادرة عن مستشفى أهل مصر، وهي المستشفى الأول والوحيد المتخصص في علاج الحروق، بأن عدد الإصابات السنوية تقدر بحوالي نصف مليون حالة. في الوقت نفسه، لا يوجد أي مستشفى متخصص في علاج الحروق في مصر، وإنما أقسام ضمن مستشفيات جامعية أبرزها قصر العيني والدمرداش الجامعي، ويغطي عدد قليل منها بقية المحافظات. يؤثر ذلك على سهولة وصول مصابات/ي الحروق للعلاج في وقت قصير.

وتكشف دراسة  مستشفى “أهل مصر” وهو مستشفى خيري مازال تحت الإنشاء، ويتم العمل فيه بتمويل من المتبرعين، إن النساء/الفتيات هن الأكثر إصابة مقارنة بالرجال، و أن 10% من حالات النساء المصابات التي يستقبلها المستشفى ناتجة عن العنف الزوجي.

وحاولت معدتا التحقيق التواصل مع المستشفى لمعرفة منهجية إجراء الدراسة، ومقابلة طبيبات/أطباء وحالات تعرضن لهجمات الأسيد، لكنّ الإدارة تجاهلت الطلب، ورفضت اللقاء عندما توجهتا إلى مقر المستشفى ثم إلى الجمعية الخيرية التي تديره. ولم تذكر الدراسة بدقة الأرقام أو النسب الإجمالية، ما يعتبر بحد ذاته جزءاً من ندرة المعلومات والتوثيق في هذه القضية.

رحلة البحث عن ناجيات

رحلة العثور على ناجيات من هجمات الأسيد لم تكن رحلة سهلة أبدًا، إذ تصاب غالبيتهن بالاكتئاب الحاد ويفضلن الصمت. إضافة إلى شعورهن بأن اللقاءات الصحفية لم تعد عليهن بفائدة مادية أو معنوية أو قانونية، وهو ما تؤكده مديرة مركز “تدوين لدراسات النوع الاجتماعي”، الدكتورة أمل فهمي.

وكان المركز أطلق حملة عبر وسائل التواصل الاجتماعي للتوعية بجريمة العنف ضد النساء والفتيات باستخدام مادة الأسيد، وما تسببه من أثر صحي ونفسي، فضلًا عن ضعف العقوبة في التشريعات الحالية؛ لأن الجريمة غير مصنفة في القانون وغالبًا ما يتم التعامل معها على أنها إحداث عاهة مستديمة وتكون العقوبة، الحبس لمدة لا تزيد على سنتين وغرامة لا تجاوز ثلاثمائة جنيهًا أو إحدى هاتين العقوبتين.

وحاولت الدكتورة أمل مساعدتنا في التواصل مع “مها” (اسم مستعار) الناجية من اعتداء  بالأسيد على يد خطيبها السابق، أدى إلى تشوه وجهها بالكامل وخسارة عملها في صالون تجميل. وبالتالي، تأثرت قدرتها على إعالة نفسها وابنها من زواج سابق، وعلى تحمل نفقات العلاج. فآثرت الاختفاء واستخدام رقم هاتف جديد، بعدما شعرت بأن اللقاءات الصحفية  توقظ الصدمة ولا تحقق أي فائدة مثل حصولها على قرار بالعلاج على نفقة الدولة أو معاش مالي يعينها على نفقات الحياة.

لماذا لا توجد إحصائيات دقيقة لضحايا هجمات الأسيد؟

وبحسب د.أمل، تعاني ضحايا هجمات الأسيد من ارتفاع تكلفة العلاج وصعوبة الاستمرار في العمل  أو الحصول على فرصة عمل نتيجة الوصم المجتمعي، ناهيك عن غياب الرعاية النفسية . وتشددعلى أن غياب الإحصائيات لا يعني أن هذه الهجمات غير موجودة.

وأضافت أنه يجب على مستشفيات علاج الحروق وضع استمارة تحدد ظروف الإصابة، والمتسبب فيها، مع مراعاة “المؤشر الجندري”. وهو عنصر غائب حتى الآن، ما يصعب معرفة سن الضحية والجاني، وسبب الحرق، والمتسبب فيه.

وأوضح أستاذ جراحات التجميل في جامعة قناة السويس، وعضو “الجمعية الدولية لإصابات الحروق” الدكتور عمرو مغازي، أن عدم وجود رقم حقيقي معبر عن إصابات الحروق في مصر له عدة أسباب. فبعضها يعالج في العيادات الخاصة، أو عندما يعالج في المستشفيات لا يسأل عن سبب الحرق ويتم الاكتفاء فقط بتقديم العلاج. كما لا يوجد آلية للتواصل بين المستشفيات على اختلاف إداراتها، لرصد عدد الحالات وأسبابها وأعمار الحالات.

دراسة من الطب الشرعي تقيم الجانب القانوني

عام 2022، نشرت ورقة بحثية لمناقشة “التقييم الطبي القانوني لإصابات الهجوم الحمضي في مصر”. شاركت فيها أستاذة الطب الشرعي والسموم بكلية الطب بجامعة قناة السويس، الدكتورة خديجة عبد الرحمن، تناولت الدراسة 31 حالة، وبحثت في التقارير الطبية القانونية للحروق الحمضية على مدار ثلاث سنوات من 2015 إلى 2017.

أوصت الورقة بـ”ضمان التنفيذ الفعال للسياسات، لمساعدة الناجيات/ين في الحصول على الدعم الطبي والنفسي والمجتمعي، وبإجراء إصلاح اجتماعي ثقافي قانوني، مع تعديل تقييم العجز الدائم لمكافحة التشويه بالأسيد”.

في مقابلة مع معدتَي التحقيق، قالت خديجة إنها: قابلت خلال عملها العديد من النساء/الفتيات اللاتي كن ضحايا لهجمات الأسيد من أحد أفراد العائلة. و أغلب من قابلتهن كان عمرهن يتراوح بين العشرين والثلاثين عاماً، وكان الجناة في حالتهن الزوج أو الطليق أو شريك عاطفي سابق.

وأضافت، أنه يصعب توثيق العدد الحقيقي للضحايا من النساء لأنهن في الغالب لا يقمن بالإبلاغ بشكل رسمي.

وذلك بسبب الخوف من الاعتداء مجددًا، أو فقدان المسكن، أو مصدر الدخل لهن أو لأولادهن. كما أنهن يخشين من طول فترة التقاضي، وعدم القدرة على تحمل تكلفة المقاضاة القانونية.

وتابعت الطبيبة أن التوثيق صعب، لأن الحالات لا يتوجّهن كلهن إلى المكان نفسه، فمن  تقوم بالإبلاغ قد لا تصل بالضرورة إلى مرحلة الطب الشرعي. فأحياناً تكتب المستشفيات تقريراً، ويتم تحويل الحالة مباشرة إلى المحكمة، وهناك حالات حين تصل إلى المستشفى ترفض الإبلاغ وتصرّ على أنّه حادث وقع بالصدفة. وبالتالي، يتفرّق الضحايا بين أماكن مختلفة، ويصل إلى الطب الشرعي نسبة قليلة جدًا في النهاية.

وبحسب خديجة عبد الرحمن، ينص القانون على “إذا وصل للمستشفيات حالة طبية بها شبهة اعتداء أو عنف منزلي، يجب على المستشفى الإبلاغ. لكن بسبب خوف الضحية من الجاني أحياناً تقول إن الحادثة وقعت بالمصادفة”.

 يقسم القانون عقوبات الجروح الناتجة عن المواد الحارقة وفقاً للمواد 240، و241، و242 من قانون العقوبات. ويبحث القانون إذا كانت الحروق قد أدت إلى عاهة مستديمة أم لا، وهل العلاج يستلزم أكثر من 20 يوماً أم أقل.

وأشد العقوبات تكون في حالة إحداث العاهة المستديمة. وهو غالبًا ما يحدث في حالات “الحروق الكاوية” التي تسبب التشوه أو فقد عضو من الجسم مثل العين أو الأذن أو الأنف.

وتابعت خديجة: “أقصى عقوبة يستطيع أن يطبقها القاضي على الجاني في حالة حروق المواد الكاوية هي عشر سنوات سجن. أي أن السيدة يتشوه وجهها وصدرها وتفقد بصرها ولا يحصل الجاني سوى على هذه المدة. لذا، يجب إقرار قانون خاص بالمواد الكاوية، وإقرار تعويضات تحقق العدالة وتليق بالأضرار الجسدية والنفسية “.

ضوابط لبيع الأسيد

وأكدت الدكتورة خديجة على أهمية تنظيم بيع المواد الكاوية لتكون بتصريح وكميات محددة. فيما طالب مغازي، بتطبيق الحظر التام على بيع وتداول هذه المواد، حتى مع النظر إلى تناقص استخداماتها العامة، كما كانت الحال في الثمانينات. حين كان يتم استخدامها بكثرة في بطاريات السيارات، وشاع تداولها بين الناس.

واللافت بحسب خديجة عبد الرحمن، هو غياب تعريف قانوني واضح للتعامل مع “جرائم الأسيد”، والاستعانة بنصوص تشريعية تخصّ حالات أخرى لمعاقبة الجناة. وضربت مثالاً على حالة لفتاة شوّه خطيبها السابق جزءاً كبيراً من جسدها، فتعاطف معها مسؤول النيابة. ثم وجه للجاني تهمة “الشروع في القتل”، ليحصل على عقوبة لا تقل عن عشر سنوات.

أضافت قائلة:” لو لم يكن المشرع واعٍ، لاعتبرت القضية “إحداث عاهة مستديمة”، وتصبح العقوبة حبس لمدة ثلاث سنوات”.

وفي ظل غياب تشريع خاص بالعنف الأسري والاكتفاء بالتعامل فقط بحسب قانون العقوبات، بدأت مجموعة من الجمعيات الأهلية منذ عدة سنوات بحملات للمطالبة بقانون موحد للعنف ضد النساء،. أضافت إليها “تدوين” هجمات الأسيد، ضمن بنود القانون المقترح.

آثار نفسية مدمرة

منذ 5 سنوات، أطلقت هند البنا مبادرة “احتواء”، لدعم مصابات/ي الحروق، بعدما تم طردها من وظيفتها بسبب الحروق المنتشرة في وجهها ويديها، وتعرضها للتنمر والنبذ.

ومن خلال المبادرة، استطاعت مساعدة العديد من النساء اللواتي تعرضن للتشويه بالأسيد من قبل      شركائهن العاطفيين.

تقول هند “رأيت خلال عملي نساء كثيرات  تعرّضن لهجوم الأسيد، وغالبًا ما يكون الدافع  للاعتداء هو الانتقام عقابًا لهنّ على انفصالهن عن شركائهن. منهن شابة/ امرأة/ حالة فقدت عينها بعدما ألقى شريكها ماء النار عليها، واستطعت أن أوفر لها عدسة.

وشابة/امرأة/حالة أخرى لم أستطع مساعدتها لقلة التبرعات. وحالة ثالثة ألقى فيها الزوج الأسيد على زوجته وطفليه، وحاولنا مساعدتهم من التبرعات وتوفير  مكان جديد للإقامة وبعض المال. ومع ذلك، لم يكف زوجها عن تهديدها؛ فاضطرت إلى الهرب وأغلقت هاتفها، لم نعد نعلم عنها شيئًا”.

وأضافت: “الأثر النفسي الذي تعاني منه الضحايا مرعب لا يمكن وصفه أو تعويض أضراره. فهن يعانين من وصم المجتمع والنبذ، يصعب عليهن الارتباط أو الزواج مجددًا، لا يمكنهن العثور على فرص عمل بسهولة، ويعانين من التهميش، فيصبحن غير قادرات على الاندماج مجددًا في المجتمع. لذا، تحتاج هؤلاء النساء إلى برنامج مجتمعي خاص  يقدم لهن الدعم النفسي، ويوفر لهن فرص عمل، ويساعدهن على الاندماج.

ضعف التشريع

يعد ضعف التشريع ورحلة التقاضي أهم أسباب إفلات الجناة من العقاب. فليس من السهل أن تقوم امرأة بتحرير محضر لرجل هاجمها بالأسيد، لأنها قد تضطرّ لرؤية الجاني أكثر من مرة، كما ستواجه ضغوطًا نفسية أخرى، علاوة على الوصم المجتمعي.

كما يتوجّب الإبلاغ في مكان وقوع الجريمة نفسه، والذي قد يكون بعيداً عن مقر سكن الضحية، إضافة إلى الأعباء المالية للعلاج وأجور المحامي، التي تزداد صعوبة إذا كانت الناجية هي المعيلة لأسرتها.

وتضيف فهمي: “من الصعب أيضًا تنفيذ الحكم بعد صدوره.

أذكر حالة تم تنفيذ الحكم فيها بعد 7 سنوات على صدوره، وذلك بعدما ظهرت الضحية في برنامج شهير وأرشدت إلى مكان الجاني”.

وتقول رئيسة “مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون” انتصار السعيد، إن النساء هن الأكثر تعرضًا لجرائم إلقاء المواد الحارقة. إذ لا يتقبل الجاني الرفض العاطفي، ويعتقد أن تشويه شريكته هو الحل حتى “لا تصلح له أو لغيره”، وفي المقابل، تخشى الأسر الإبلاغ عن التهديد بالاعتداء، خوفًا من “الفضيحة”.

وتضيف: “عملت مع حالة رفضت أسرتها الإبلاغ بعدما هدّدها خطيبها السابق بأن تصبح مثل “نيرة أشرف”، التي قام شاب تقدم لها بذبحها في الشارع  بعدما رفضته. وحتى في حالة الإبلاغ، عادة ما يتم حفظ البلاغ، أو إجبار الجاني على توقيع تعهد بعدم التعرض وهو غير مجدٍ. كما  تخشى الضحية الوصم المجتمعي، وقد تفكّر أنه يعيبها أخلاقيًا، لاسيما مع التشويه الذي تعرضت له سمعة نيرة أشرف عبر وسائل التواصل الاجتماعي بسبب ثقافة لوم الضحية المنتشرة في المجتمع المصري”.

وترى انتصار أن هذه الجريمة يتوفر فيها عنصر “الشروع بالقتل”، مع سبق الإصرار والترصد؛ لأن الجاني فكر واشترى مادة حارقة وعبأها في زجاجة ثم ذهب إلى مكان الجريمة وألقاها على الضحية.

تغيير محل السكن

في رحلة البحث عن ناجيات، رصدنا واقعة لشابة رفضت خطبة شاب، في إحدى مدن محافظة القليوبية. فألقى مادة الأسيد على وجهها، وتم بعدها الحكم عليه بالسجن عشر سنوات. تواصلت معدتا التحقيق مع واحدة من الجيران، وأخبرتهما بأن أسرة الفتاة غادرت المنزل وانتقلت لمكان آخر فضّلت (أي الأسرة) عدم ذكره، لا سيما وأن الاتهامات طالت سمعة الشابة التي لم تكمل عامها العشرين بعد،.فكان الرحيل هو قرار الأب، عقب صدور الحكم القضائي تجاه المعتدي.

مأساة أخرى رصدتها معدتا التحقيق لعائلة “حبيبة” (اسم مستعار) التي تعيش في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ، في أقصى شمال دلتا النيل.

رفعت حبيبة دعوى خلع ضد زوجها، وبعد صدور الحكم لصالحها، توجه الزوج السابق إلى منزلها وألقى زجاجة من “ماء النار” على كامل الأسرة، لتفقد الأم والأخت والأب البصر، وتُصاب “حبيبة” بحروق شديدة في الظهر والساقين.

وبالتواصل مع عمة “حبيبة”، أوضحت أن الأسرة المكلومة تعيش في عزلة تامة. الأم فقدت الرغبة في الحديث، والأب يعاني من الصدمة ولا يملك القدرة على إكمال جملة. أما “حبيبة”، فتعيش في ألم مستمر، لا سيما مع ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف. بينما الأخت الصغرى، غير متزوجة وتعمل ممرضة، هي الوحيدة التي تعول الأسرة رغم فقدانها البصر، إلا أنها رفضت الحديث معنا تمامًا.

السجن مدة 25 عامًا، هي العقوبة التي  أنزلت بالزوج السابق على اعتبار إنه “شروع بالقتل”، بينما ما تزال والدته تسعى لتخفيف الحكم بحسب العمة، التي حاولت إقناع أحد أفراد الأسرة بالحديث معنا، دون جدوى.

صدمة نفسية شديدة

 تحدثنا إلى الأستاذ في قسم علم النفس في جامعة باناراس الهندية  توشار سينغ، والذي أجرى دراسة عن “الأثر النفسي لهجمات الأسيد”، منشورة  في دورية ساينس داريركت البحثية. فقال إن اللواتي/الذين تعرضن/وا للعنف القائم على النوع الاجتماعي غالبًا ما يخترن/يختارون الانتقال للبدء من جديد، كطريقة للتعامل مع الصدمات التي تعرضن/وا لها. ومع ذلك، فإن ما يميز ضحايا الهجمات الحمضية هو أن محاولات النجاة ليست كبيرة؛ لأن بحسب الباحث توشار سينغ تعد وجوههم بمثابة تذكير دائم بالإيذاء المؤلم الذي تعرضن/وا له.

وتوصلت الدراسة التي تمت في الهند، وهي واحدة من الدول التي تحدث فيها هجمات  الأسيد على النساء والفتيات بمعدلات كبيرة، أن التأثير النفسي لهجمات الحمض يمكن أن يختلف بشكل كبير بين الناجيات، وقد يعتمد على عوامل عديدة منها شدة الهجوم ونظام الدعم المتاح وفعالية التدخلات النفسية.

وقال سينغ أن هناك عدة عوامل يمكن أن تزيد من التأثير النفسي السلبي لهجمات الأسيد على الناجيات، وتؤدي إلى تفاقم الصدمة، مثل شدة الهجوم.

فكلما زادت حدة الإصابات الجسدية الناتجة عن الهجوم بالأسيد، زادت الصدمة النفسية، علاوة على نقص الدعم النفسي الفوري.

بحسب الباحث، فإن الإجراءات القانونية تؤثر بشكل كبير على نفسية الناجية، حيث يمكن أن تكون عملية مقاضاة الجاني مرهقة للغاية للناجيات. وغالبًا ما تنطوي على إحياء الحدث الصادم من خلال الشهادات والمثول أمام المحكمة، ويمكن أن يؤدي التأخير في الإجراءات القانونية أيضًا إلى إطالة هذا الضغط.

بالإضافة إلى وصمة العار المجتمعية، فالناجيات من الهجوم الحمضي يواجهن وصمة عار اجتماعية وتمييزًا. وذلك بسبب مظهرهن، ما يمكن أن يؤدي إلى العزلة وضعف تقدير الذات والاكتئاب.

الغضب الأعمى

في منتصف التسعينات، تزوجت نهال من بائع الفاكهة الشاب وهي في السادسة عشرة من عمرها، لتعاني سنوات من عنف جسدي ونفسي، علاوة على تكرار التهديد بـ “الطلاق” وقد أصبحت أماً لخمسة أطفال. وعندما جاءت اللحظة التي انتظرتها بأن تم توثيق الطلاق للمرة الأولى، قررت ألا تعود لحياتها السابقة.

 تقول نهال في لقاء مع معدتي التحقيق: “عملت ممرضة، وسافر طليقي وانقطعت أخباره، ثم عاد ليطاردني مُهددًا: “يا تكوني ليّا أو مش هتكوني لغيري. اتجوزتك عيّلة (فتاة) صغيرة ولما كبرتي واحلويتي عايزة تروحي لراجل تاني”.

قامت “نهال” بتحرير محضر ضد الزوج السابق ووقع بالفعل تعهداً بعدم التعرض، لكن ذلك لم يمنعه من تنفيذ تهديده في الأيّام التالية، وإلقاء حمض الأسيد على وجه زوجته وابنته التي كانت ترافقها.

بعد جولة مدتها ست ساعات قضتها الأم والابنة تواجهان رفض المستشفيات، استقبلهما مستشفى الزهراء الجامعي، ولكن بمكان واحد متوفر فقط، ففضلت نهال علاج ابنتها التي برزت عظامها وكان جلدها قد ذاب بالكامل.

فيما بعد أجرت نهال عشرين عملية جراحية اضطرت معها لارتداء النقاب، بينما أجرت ابنتها ما يزيد عن خمسين عملية.

لأجل أبنائها، تنازلت “نهال” عن المحضر الذي حررته ضد زوجها، لكن ألمها وغضبها تضاعفا عندما علمت أنه سبق وفكر في الجريمة وخطط لها قبل شهر حين اشترى زجاجة مياه النار بتركيز بسيط وقام بتجربتها على يده فلم تحترق، فعاود البحث عن زجاجة أخرى بتركيز أعلى. وتذرع إن “غضبه أعماه عن رؤية ابنته التي لم يكن يقصد إصابتها”.

ارتدت “نهال” النقاب لتخفي وجهها، ولكنها تعرضت للمضايقات، كما أنها كانت تشعر بالاختناق لأن فتحات أنفها بعد الحادث لم تعد تتيح لها التنفس بسهولة. ومع العلاج والدعم النفسي، قررت خلع النقاب ومواجهة المجتمع من حولها.  

 علاج باهظ الثمن

حول آثار هجمات الأسيد، لاسيما مع نقص توفر المستشفيات بصورة كافية على مستوى المحافظات المصرية، قال مغازي إن حروق الأسيد هي جزء مما يطلق عليه الحروق الكيميائية، لأنها شديدة التغلغل ولها قدرة على الاختراق والوصول لأعماق كبيرة، كالعضلة أو العظم.

يؤدي ذلك لحدوث تشوه شديد، ويمكن أن تتضرر أعضاء أخرى، فتفقد الضحية البصر، أوتعاني من ضيق فتحة الأنف، أو صعوبة فتح الفم.

وعن علاجها، أوضح مغازي أن غالبية حروق الأسيد تكون في الوجه. ولأن مساحة الجلد فيه كبيرة، بالتالي التعامل معها يكون صعباً والتشوهات الناتجة عنها تأثيرها سيئة.

 فيتم _بالتدريج_ الاستعانة بـ”السدائل”، أي شرائح من الجلد الطبيعي، توضع للترميم ومحاولة الإصلاح، ولكن في حالة فقدان البصر، سواء الجزئي أو الكلي، فالتعويض صعب.

وأشار إلى تقنية زرع الوجه التي أصبحت رائجة الآن، لافتًا إلى أهم تبعاتها الصدمة النفسية للناجية عندما ترى شكلها الجديد، وغالباً لا ترضى عنه.

 وبذلك، قد تنجو النساء عملياً من الموت بعد حوادث الحرق بالأسيد، ولكنهن لا ينجين مما تحمله وجوههن وأجسادهن ونفوسهن من تذكير دائم بثمن كلمة “لا”، وخصوصًا إن أفلت الجاني من عقاب مستحق.

 

فريق العمل:

كتابة: علياء أبو شهبة وهدير الحضري

متابعة وإشراف: بيسان الشيخ

رسوم:أحمد بيكا

إنفوجراف: أميرة عبد الفتاح

مونتاج: تسنيم عادل

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد