الحب والغيرة وصناعة العنف

عندما نسمع كلمة الحب يتبادر إلى أذهاننا الكثير من الأشياء، مثل الحميمية، والعواطف، والكلام العذب، والأوقات السعيدة. لكن نادرًا ما نترك الغيرة خارج المعادلة.

فالغيرة تشكّل الأساس المنيع للحب في مجتمعاتنا، حيث شكّلت فكرة السيطرة على حياة الشريكات/الشركاء في أذهاننا منذ الصغر. نشاهدها في المسلسلات ونسمعها في الأغاني، وننجذب إليها في الحكايات الأسطورية عن الحب.

تعتبر غيرة الرجل دليلًا على “رجولته” واهتمامه. وكلما زادت الغيرة، تعالت قيمته في سوق “الرجولة”.

ما هو نموذج الحب في المجتمعات الأبوية؟

عندما نفكّر في الحب داخل المجتمعات الأبوية، يتبين لنا أنه حبٌّ غيريّ، لا يقبل التعددية الجنسانية والجندرية. وكذلك، هو حبٌّ مشروط بحجم الولاء للقيم الذكورية.

حبٌّ محفوف بالمخاطر والعنف، إذا ما تم ضبط أطرافه من العائلة أو بوليس “قيم المجتمع”، ودوريات الشرطة.

ونعرف أنه أيضًا حبٌّ تملّكي، يخضع أطرافه لقيودٍ صارمة تتعلق بأي تصرف أو تفاعل مع الأخريات/الآخرين. تتخلى فيه الأطراف عن سيادتها على المشاعر والجسد، ويصبح مرهونًا في يد الشريكات/الشركاء. إذ يتم تحديد الخطر بناء على رؤيتهن/م وتقييماتهن/م لما هو الخطر والتهديد.

هذا النموذج من الحب، والذي يعتبر مهيمنًا في معظم المجتمعات والعلاقات الحميمية، نادرًا ما يخلو من العنف ومن الاستقواء بقيم الذكورية في التعامل مع الشريك/ة وتحديدًا النساء. حيث يتم استخدام الغيرة كوسيلة تحكّم من الشريك “الرجل” في ممارسة السلطة الأبوية على حياة الشريكة والتحكّم بها. وقد تصل إلى منعها من الدراسة والعمل والأصدقاء، وعزلها اجتماعيًا.

في حالات الحب الغيري، يكون الحب الرجولي مقترنًا بالغيرة، كلما كان هناك استنكار لعنف الشريك. فالشريك يمنعنا من الخروج، بذريعة أنه “يغار علينا من نسمات الهواء”. يمنعنا من الدراسة والعمل، بذريعة أنه “يغار علينا من الأماكن المختلطة”. يخافُ من صديقاتنا، بذريعة “الغيرة من تواجدنا مع غيره”.

وهكذا تتوالى لوائح الممنوعات، حتى تعيش الواحدة منّا في عزلةٍ تامة، تكتشف بعد الخروج منها أن الغيرة كانت غطاءً للسيطرة. وتدرك أن منعها من الدراسة أو العمل، نابعٌ من فكرة أبوية تعتبر نجاح النساء تهديدًا لسلطة الرجال. وتفهم أن عزلها عن محيطها الاجتماعي، هدفه تركنا وحيدات، لكيلا نعكّر صفو الخيانة، أو نجد منفذًا ومساعدة للخروج من دائرة العنف.

يساهم التحليل النسوي في فهم الغيرة والتملّك كعجزٍ طبيعي للنظام الأبوي عن خلق مجتمعاتٍ قائمة على الثقة والاحترام والتشاور والتشاركية. حيث يمكن لكل الأطراف في العلاقة أن تحظى بالندّية في امتلاك حياتها، وتحترم الأطراف الأخرى بموجب الشراكة، لا الملكيّة الخاصة.

كيف يمكن أن نقرأ الغيرة نسويًّا؟

بينما يتم النظر إلى غيرة النساء واستيائهن من تعدد علاقات الرجال، بأنها مبالغات غير مُبررة، نجد غيرة الرجال مصحوبة دائمًا بالتبريرات والمسامحة.

وتساهم الصور النمطية في الثقافة والموسيقى والسينما في تصوير المرأة الغيورة بمنظر “الشمطاء” التي تلاحق السراب، وتعكّر على شريكها الرجل صفو حياته.

في المقابل، تعتبر غيرة الرجل دليلًا على “رجولته” واهتمامه. وكلما زادت الغيرة، تعالت قيمته في سوق “الرجولة”. فالرجل الغيور مسيطرٌ على حياة شريكته، حتى أنها لا تتنفس إلا بإذنه.

تساعدنا العدسة النسوية على قراءة معظم السلوكيات الاجتماعية من خلال ارتباطها بالنظام السياسي والاجتماعي المهيمن. وهذا ينطبق على الحب والعلاقات الحميمية، والتي تعتبر الأساس لتلك النظم وهيمنتها على حيوات الأفراد والمجتمعات.

مفهوم الحب في مجتمعاتنا متأثر جدًا بالنموذج الأبوي الذي يقدم العنف والسيطرة والقسر كأفعال نابعة من الحب. فنجد أن العنف الجسدي من الشريك يتم تبريره بالحب. كل شريك يضرب ويعنّف يتم تبرير أفعاله بأنه “يعشق” شريكته. لكننا الآن كنساء، بِتنا نعرف أن نفس هذه الشريكة، هي كرة الضغط التي يفرغ فيها مكبوتاته وأحزانه. وإذا لم تتحمل هذا العنف، فهي أنانية ولا تبادله مشاعره النبيلة.

لذلك، تتركز القراءة النسوية للحب في تفكيك تأثيره على النساء وكيف يستخدم كتبرير للسيطرة. فمعظم صور الحب في التراثين الثقافي والموسيقي، تدور حول حبيب يرجو السيادة على حياة محبوبته أو يرجو عطفها بعد قسوته، مبرراً قسوته بالغيرة، وغيرته بالحب.

تنطلق الكثير من القراءات النسوية، وأبرزها كتابات “بيل هوكس”، نحو فهم الحب الغيريّ السائد. حيث تصفه بأنه مقترنٌ بالذكورية، وناتجٌ عنها. وهذه الذكورية تظهر أبشع صفاتها في الشريك، وتحوله إلى شخصٍ يعنف ويصرخ ويتحكم ويبرر كل ذلك بالحب، ليتجنب المحاسبة.

يساهم التحليل النسوي في فهم الغيرة والتملّك كعجزٍ طبيعي للنظام الأبوي عن خلق مجتمعات قائمة على الثقة والاحترام والتشاور والتشاركية. حيث يمكن لكل الأطراف في العلاقة أن تحظى بالندية في امتلاك حياتها، وتحترم الأطراف الأخرى بموجب الشراكة، لا الملكيّة الخاصة.

 

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد