عن وصم “سن اليأس”.. هل للنساء تاريخ صلاحية؟

“سن اليأس” هو المسمى الذكوري للمفهوم الطبي “انقطاع الطمث”. وهو من أكثر الأساطير التي تعتبر أن للنساء فترة صلاحية، كمعامل إنتاج اجتماعي وبيولوجي للسلطة الأبوية.

يُعد “سن اليأس” حكمًا على النساء بانتهاء أهميتهن بالنسبة للنظام الأبوي، والدخول في حالةٍ أقرب إلى الموت الرمزي.

إذ تحيط الأساطير والأفكار المغلوطة بأجساد النساء وصحتهن. تسجيها بسلاسل من الذكورية تنتج ضغطًا مستمرًا للتوافق مع معايير اجتماعية أو جسدية معينة. وبذلك، تتقلص العلاقة بين النساء وبين أجسادهن وطبيعتها دون تحيز أو أحكام مسبقة وقوالب نمطية.

“مجتمعاتنا الأبوية لا تعتقد أن لدينا قيمة بعد توقف إمكاناتنا الإنجابية”.

النظام الأبوي يقول بأن للنساء تاريخ صلاحية

تشكل خصوبة النساء محورًا أساسيًا للنظام الأبوي. فالهوية الجندرية المقترنة بهنّ تتحدد أساسًا بالخصائص التي تساهم في عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي. ومنها يتم إقرار مكانتهنّ داخل الأسرة والمجتمع، وموقعهنّ بالنسبة للنظام السياسي والاقتصادي.

فكلما كانت النساء أصغر سنًا وأكثر قابليّة للإنجاب، كلما اعترف النظام بوجودهنّ وتحسّن موقعهنّ التفاوضي. لكن ذلك أيضًا يتناسب طرديًا مع أنواع معينة من القيود. ومنها مثلًا الحث على تحقيق هذا الدور – أي الإنجاب – وتزويد النظام بالخط البشري لمواصلة ماكينة الاستغلال.

وكلما كانت أكبر في السن وتوقفت عن الإنجاب، كلما أصبحت معرضة بشكلٍ أكبر للإهمال وأنواع جديدة من القيود تضعها في خانة “العجز”.

وهذا ما يحدث للنساء عندما يصلن لمرحلة انقطاع الطمث. تبدأ رحلة نزع القيمة الأبوية عنهن، ويتم وضعهن في حالة من الموت المؤجل. كما يتم حرمانهن من مظاهر الحياة. ويوصف أي أسلوب يوحي برغبتهن في ذلك، كالملابس، ومساحيق التجميل، وقصات الشعر والسلوكيات بالـ “التصابي”. 

هذه المرحلة، أطلق عليها النظام الأبوي اسم “سن اليأس”. ويمكن ترجمتها إلى سياسات وسلوكيات وخطابات تُجابه بهن كل من تصل إلى هذه المرحلة العمرية. فهنّ، بالنسبة للأبوية، حالات ميؤوس منها.

والنساء حسب تعاليم هذا النظام يخضعن لتاريخ صلاحية. يفسر ذلك في ضوء التشييء ونزع الأهلية اللذين يطوّقان حيوات النساء. ويبدآن في سن مبكر جدًا.. منذ الحيضة الأولى.

الحيض الأول وبداية الصلاحية

منذ الحيضة الأولى، تمرّ معظمنا بطقوسٍ أبويةٍ تعلن دخولها في نظام الإنتاج الاجتماعي. يبدأ ذلك باختطاف حقنا بالنمو والتقدم في العمر، دون تحويلنا إلى آلاتٍ اجتماعية أو أشياء تنتهي صلاحيتها. 

تذكرنا بداية الطمث وانقطاعه بأن التعامل معنا يفتقد للأنسنة (Humanization). إذ يكون التقدم في العمر مرحلة مخيفة لمعظم النساء، وعليهن الزواج والإنجاب قبل أن يعبرن الثلاثين أو الأربعين. فعند الوصول للخمسين وما بعدها، عليهن التصالح مع التخلي عن الأنشطة التي قد توحي بأنهن يعشن حياة فيها قدر بسيط من الفرح والخيارات. لكيلا يتم وصمهن وتعييرهن بكونهن “متصابيات”. 

كلما تقدمنا في السن ازدادت الممنوعات. فنبدأ بتحضير أنفسنا للعب دور الأم/الخالة/الجدة الحكيمة التي ستتولى تربية الأجيال الجديدة. حينئذٍ، علينا تقديم النصائح والتعليمات للنساء والفتيات الأصغر سنًا، للمحافظة على السلطة الأبوية. كما علينا اختزال أنشطتنا بالجلسات النسائية والمناسبات الاجتماعية “المناسبة لأعمارنا”.

هذا التعامل الآلي مع النساء يشرح، بلا شك، وحشية وهشاشة النظام الأبوي. فهو لا يكتفي بالعنف المباشر، بل يفخخ حيواتنا بالكثير من العنف النفسي والاجتماعي. يحاول أن يشرعن قوانينه وسلطاته على كل مرحلة عمرية للحدّ من تحركاتنا، وسلب قدرتنا على ممارسة ما يُشعرنا بالمتعة والراحة والانتماء.

يعلن هذا النظام الأبوي القاتل إذًا أن للنساء تاريخ صلاحية، وألّا قيمة لهنّ سوى بتقديم الخدمات الإنجابية والجنسية ومحافظتهنّ على صباهنّ للأبد.

الوصم الاجتماعي واستغلال مخاوف النساء

يقترن التقدم بالسنّ بالنسبة للنساء بالعديد من الممارسات التي تجبرهن على التعايش مع فكرة أن الحياة مجرد دورة وسيرورة تبدأ بالزواج والإنجاب وتنتهي بانتظار الموت. دون أن يتخلل أي من هذه المراحل متعة، أو ترفيه لا يخدم المصلحة الاقتصادية والسياسية والطبقية للنظام ذاته.

يسجن هذا النظام الأبوي النساء والأشخاص غير المعياريات/ين في أدوار بيولوجية. وتلك الأدوار تحدد مواقعهن/م الاجتماعية والاقتصادية، حسب إنتاجيتهن/م وما يقدمنه للمجتمع والنظام الأبوي. ينطبق هذا المنطق على السن، ويتم اعتباره دلالة على معدل أكبر للإنتاجية الاجتماعية والبيولوجية.

فوصمة السن تجاه النساء تعد حقيقة اجتماعية معاشة في مختلف المجتمعات المعاصرة، وتصعب قراءتها بمعزلٍ عن الأدوار الجندرية وما يتوقعه المجتمع منهن.

وتتعلق هذه الوصمة بالأحكام الذكورية. فيكون تقدم النساء في السن، دليلًا على انتهاء حياتهنّ الجنسية ورغباتهنّ الشخصية. ويترتب على كل واحدة منهن تكريس ما تبقى من حياتها لتقديم أنواع أخرى من الخدمات التي لا تتعلق بالإنجاب والجنس. وإنما بالحفاظ على سير النظام من خلال الانخراط في الحياة الاجتماعية. لكن دون أن يدل ذلك على رغبة في الحياة نفسها، لكيلا يصمن أنهن في مرحلة “سن اليأس”.

الصلاحية وتسليع الوهم

تتعرض الكثير من النساء، اللواتي ينتهجن مسارًا مختلفًا عن التعاليم الأبوية، للوصم والهجوم باعتبار أنهن “عجائز/متصابيات”.

أنتج هذا الوصم مخاوف كبيرة في دواخل النساء أنفسهن. وهو ما استغلته السوق الرأسمالية لتسويق منتجات مكافحة التقدم بالسن. حيث ازدهرت “رأسملة السن”، وأصبحت الأسواق تعجّ بالمنتجات التي تمنع التجاعيد وتحافظ على خرافة “الشباب الأبدي”.

ساهم هذا التصنيع السريع الموجّه للنساء وفق معايير أبوية في مراكمة الربح من خلال بيع الخرافة. حيث يصعب أن يتحدى البشر التقدم في السن وما يرافقه من تغيرات. لكن الملاحظ أن هذه التغيرات تصبح مشكلة فقط أمام النساء بينما يشيخ الرجال بشكل عادي وبمخاوف أقل.

هذا الدفع نحو الشباب الدائم يبيّن إلى أي حدّ يتم التلاعب بأمن النساء وسلامتهن النفسية. حينما يتم وضعهن تحت مجهرٍ عنيفٍ يدفعهن للمغامرة بحيواتهن لتحقيق التوقعات الذكورية، كما لو أنهن لسن بشرًا.

يعلن هذا النظام الأبوي القاتل إذًا أن للنساء تاريخ صلاحية، وأن لا قيمة لهن سوى تقديم الخدمات الإنجابية والجنسية وبقائهن شابات للأبد.

المعاينة الطبية وتطبيع الخرافة

يستحوذ انقطاع الطمث على اهتمام طبي قليل، مثل معظم الحالات المتعلقة بصحة النساء، وتحوم حوله الكثير من الخرافات الطبية. والأخيرة لا تساهم فقط في تقاعس البحث العلمي عن تفسير هذه المرحلة بكل ما يتعلق فيها من تغيرات وأعراض. بل أيضًا تعيق مقدرة النساء على تجاوزها دون ألم وتوتر.

في كتابها، “بيان حول سن انقطاع الطمث: امتلكي صحتك بالحقائق والنسوية”، تشرح الدكتورة “جنيفر غونتر” أن ندرة التعليم حول انقطاع الطمث ينشر الأساطير بسهولة.

وترى “جنيفر غونتر”: “أن ثقافة الصمت بشأن انقطاع الطمث غير واقعية”. فهناك “تنظير أقل حول هذا الموضوع، والقليل من المعلومات الدقيقة”.

وتتحدث “غونتر” عن تعامل القطاع الطبي مع هذه الحالة بقلة اهتمام.

“فبعض الأطباء يقومون بمعاينة المريضات لمدة 15 دقيقة. كيف يمكنهم معالجة انقطاع الطمث بالكامل في هذه الفترة القصيرة؟ علمًا بأن الحديث الطبي حول الهبات الساخنة التي تعد من أعراض هذه المرحلة قد يستغرق 15 دقيقة أو أكثر”.

تواصل “جينفر غونتر”: “غالبًا ما تتم مقاربة سن انقطاع الطمث بأنها فشل إنجابي، أو مرحلة أقرب لـ”ما قبل الموت“. فمجتمعاتنا الأبوية لا تعتقد أن لدينا قيمة بعد توقف إمكاناتنا الإنجابية”.

التحيز الجنسي والعنف الطبي يحددان صلاحية النساء

وتقارب “غونتر” التمييز الذكوري في معاملة تقدم السن بين النساء والرجال. وذلك من خلال التعامل المختلف مع المشاكل الصحية التي ترافق الرجال في تقدمهم بالسن، ومنها المشاكل الجنسية بقولها: 

“لماذا لم نشاهد أحدًا في مجتمعاتنا يصف ضعف الانتصاب على أنه موت للقضيب؟ أو لحياة الرجل ككل؟”.

هذا التعامل التمييزي أهمل جوانب كثيرة تمر بها النساء قبل انقطاع الطمث وتحتاج لمتابعة طبية غير متحيزة جنسيًا. فالاهتمام القليل بصحة النساء يؤدي إلى تطبيعهن مع الألم وتجاهله، خوفًا من الوصم الاجتماعي المرافق لهذه المرحلة العمرية.

من ناحية أخرى، يؤدي الإهمال الطبي للنساء إلى انتشار المتاجرة بآلامهن. حيث تفيض صفحات الإنترنت والعيادات بالعلاجات والوصفات الموجهة للنساء خلال هذه السن. والتي تستغل غياب منظومة صحية قادرة على منع بيع الوهم والعلاجات التي قد تؤدي لنتائج كارثية.

ومن ناحية أخرى، فإن الإهمال الطبي يطال أيضًا توفير المعلومات حول جنسانية النساء في هذا السن. فإما أن يتقبّلن انتهاء حياتهنّ الجنسية، ووجوب التخلي عن المتعة. وإما أن يكتفينَ بالجنس المؤلم، الذي ينتج عن تغيّرات هرمونية تلحق بأجسامهنّ خلال هذه الفترة.

التقدم في سن لا يعني الحكم على النساء بالموت

من المهم تحدّي الخرافات الذكورية حول صحة النساء وأجسادهن. وذلك لإيقاف التعامل المهين والوصمي تجاههن. وكذلك للتخلص من زرع المخاوف داخلهن، والمتاجرة بها وتسليعها.

 التقدم بالسن هو مرحلة من مراحل الحياة المختلفة، يستحق كل إنسان أن يعيشها بكرامة وحرية ورعاية طبية واجتماعية غير متحيزة. فالعمل المستمر نحو تطبيع وقبول هذه الحقيقة ضرورة قصوى، لوقف استغلال النساء والإساءة إليهن.

لا يمكن أن تبقى النساء _كما أي مخلوق حيّ_ في شبابٍ دائم. ولا يمكن أيضًا أن تنتهي حيواتهن بتوقّف الإنجاب. فقيمة حياتنا لا يمكن أن تبقى رهينة للحالة البيولوجية، ولا للتوقعات الذكورية. خاصةً التي تلعب دورًا في استمرار نظام قمعي وقاتل، مثل النظام الأبوي.

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد