عالم بطعم القمع .. كيف أثر الاضطهاد السياسي على الأصوات النسوية؟

على مر التاريخ، كانت المقاومة ضد أنظمة الاضطهاد تقابل بردات فعلٍ عنيفة. وكلما تنوعت وسائل النضال تنوعت وسائل القمع. لنجد أنفسنا محاصرات بأنظمة أخطبوطية تتقن الالتفاف على حيواتنا وخنقها وحشرنا في الزاوية.

لم يكن النضال النسوي في المنطقة الناطقة بالعربية بمعزلٍ عن القمع الذي تعرضت له الحراكات الثورية عبر قرنٍ من الزمن.
قُوبلت الحراكات النسوية بالعنف والاغتيال، والسجن، والمراقبة، والحصار، والتشويه والشيطنة، وملاحقة النسويات والحد من نضالهن.
فسيطرة النظام الأبوي السياسي على الفضاءات والوسائط العامة مكّنه من تشكيل العالم السياسي والاجتماعي وفق سطوته، والتحكم في كيفية ظهور الأفراد فيه ومتى يختفين/ون منه.
لم يؤثر هذا القمع على حيوات الناشطات بشكلٍ شخصي، بل تعداه نحو الحراك نفسه وقدرته على الاستمرار بالوتيرة نفسها.

عقد من النضالات النسوية يأبى الانهيار

خلال العقد المنصرم، عرفت الساحة الناطقة بالعربية بروزاً تاريخياً للحركات النسوية التي مست أكثر بنيات السلطة تجذراً. وطَرحت للمرة الأولى قضايا مصيرية كالاضطهاد الجنساني والطبقي والعنصري.
النضال النسوي ليس جديداً على المنطقة، لكن الجديد هو تطور ثوري كسر سلسة التراتبيات التي هيمنت على الحراكات منذ فترة الاستقلال.
فنلاحظ أن القضايا التي برزت على الساحة خلال العقود الماضية، كانت تدور غالباً في فلك الإصلاحية ضمن الأنظمة القائمة.

ولم تتعدَ في كثيرٍ منها مطالب التمثيل السياسي وسن القوانين، مع وجود استثناءات تناولت الجنسانية ضمن الإطار الغيري والدين والطبقية. لكن غابت عن معظمها المقاربات الجذرية التي تضع في مركز نضالها قضايا المجموعات المضطهدة ككل، ولا تخص به مطالب معينة.

ظهرت النضالات النسوية والكويرية بشكلٍ غاضب ولا اعتذاري وبخطابٍ لا يفاضل في القمع ومُصادم للسلطة. أصوات متعددة، ومن أماكن عرفت الصمت لوقتٍ طويل.

وربما أكثر ما يلفت الانتباه خلال هذه المرحلة، هو أن الأصوات النسوية الجديدة برزت ضمن ثورات الربيع العربي، التي دفعت بالآلاف إلى الخروج للشوارع احتجاجاً على الأنظمة القائمة ورغبةً في تغييرها.

وجود النساء والمجموعات الكويرية في خط تماسٍ واضحٍ مع هذه الأنظمة العنيفة، ومناخ الحرية الذي امتلكته الشعوب للحظات وكسرت به أوهام الخوف وكذبة أنها محكوم عليها بعالمٍ يسحقها ولن يكون له بديل، دفع بهن إلى اقتحام ساحات النضال وطرح قضاياهن.
إلا أن السلطة الأبوية التي سادت حتى داخل الحراكات الثورية، والعنف الذي لم يقتصر على عنف الدولة بل تعداه نحو العنف الأبوي الذي وُجّه إليهن بشكلٍ خاص، شكّل صدمةً إضافيةً دفعت إلى تجذير الحراكات النسوية، وجعلها تختار ميادين بديلة يمكنها من خلالها أن تصعّد قضاياها من دون أن تتعرض للإسكات أو الإقصاء.

ظهرت مجموعات ومنصات نسوية وكويرية على مواقع التواصل الاجتماعي. فعرفت هذه الفضاءات وفرةً في الكتابات النسوية، لكنها عرفت أيضاً أعداداً مهولة من مختلف الأنواع الاجتماعية المهمشة التي تبحث عن مكانٍ يحتضن ألمها ويعترف بتجاربها وتشعر فيه بأنها ليست وحيدة.
آلاف المُعرّفات لأسماء حقيقية وأخرى وهمية اجتمعت لتكسر صمت الاضطهاد وتحطم أساطير القامعين. اجتمعن ليشكّلن قلقاً وهلعاً للنظام الأبوي في شقيه السياسي والاجتماعي. ولم يعرف هذا النظام كيفية السيطرة على آلاف الحناجر الغاضبة، وآلاف القصص التي تحطم قرون الخوف والإسكات.

استخدمت النسويات على امتداد الخريطة عامل المفاجأة، وحقيقة الألم المنبثق من جروح عابرة للأجيال لم تندمل بعد، ووجهن سهامهن نحو القامع. هناك اضطهاد وعنف وتمييز، وهناك سلطة يجب أن تسقط. لا مزيد من الإسكات أو التخويف ولا مزيد من تزييف الواقع.

أذكر كيف عايشت نشوة المد الثوري المخترق لأسوار الحدود والجدران، الذي منحنا كنساء للمرة الأولى شعوراً بأننا نمتلك سردياتنا.
أن نتشارك تجاربنا مع العنف والسلطة، ونفهم السبب في اضطهاداتنا. وأن نتضامن لنشكّل موقفاً سياسياً تجاهها.
يوم امتلأت المساحات بأصوات المقهورات، يوم تخلصتُ لأول مرة من عار لوم النفس، وأدركت أنني لست المسؤولة عن آلامي ولن أكون نتاجها.
أعرف المتسبب بها، أستطيع تسميته أخيراً: النظام الأبوي القاتل، الذي سمم حياتي كما حيوات الملايين مثلي بالعنف الجنسي والجسدي والنفسي.

هو إذاً نظام ممتد ملأ ذاكرتي وحياتي بالجروح العابرة للأجيال، وشكّل ندبةً لم أستطع محوها سوى بالتضامن النسوي.

شكّلت تلك الفترة التي بدأت منذ عام 2011 تاريخاً نسوياً جديداً، وقدرةً هائلة على إبراز الإمكانيات الثورية للنسوية في تحدي أنظمة، ليست أبويةً فحسب، بل عسكرية، تبسط هيمنتها على كل شبرٍ من الأرض، وتحوّل المجتمعات إلى بوليسية وتنشر فيها الرعب.
إمكانيات لم يحبطها دفن الثورات والزج بآلاف الأشخاص وراء القضبان، وخسارة عشرات الرفيقات ما بين المقابر والسجون، وحرّكها الشعور باليأس والخيبة في أن تظل حبيسة سلم الأولويات.

ظهرت المجموعات والمواقع التي تُنظّر وتُوثّق للنضالات والقضايا النسوية والكويرية في تقاطعاتها مع الأبوية والاستعمار والرأسمالية. وعرفت الساحة العربية طفرةً في الإنتاج النسوي والكويري وحركة الترجمة ونقل المعارف العابرة للحدود.
كما ازدهرت حركات التضامن بينها وبين التنظيمات النسوية في الجنوب العالمي، والاستفادة من خبرتها ونماذجها التنظيمية.

تدرّج هذا العمل عبر السنوات، لينتقل من المراكز الجغرافية والطبقية، التي هيمنت على المشهد لسنوات، ليظهر في ساحات الهامش، حيث ظهرت النسوية السعودية التي أبرزت إمكانيات جديدة وإبداعية للعمل النسوي الذي يتحدى الوصاية والمنع من الفضاء العام.
فاستخدمت الفضاء الرقمي لترفع سقف النضال وتهدد النظام الأبوي، وأذرعه السياسية والدينية التي حكمت على النساء بالصمت، وطمست معاناتهن لفترةٍ طويلة. فلجأت هذه الحركة إلى التغريد ونشر الوسوم على السوشال ميديا لفضح الأبوية في المملكة ورفع مطالبها.

شملت ساحات الهامش أيضاً بروز النضالات النسوية في موريتانيا والسودان والصحراء الغربية. أماكن لم تصل من قبل إلى الذاكرة التي تؤرشف النضالات النسوية. ولم تعط لها أو لقضاياها أي اهتمام، مثلها مثل قضايا ونضالات النساء السود والأفريقيات اللواتي ما زلن يعانين من التهميش والطمس حتى اليوم، وتُستثنى من النضال النسوي وذاكرته التاريخية.

هذه المرحلة كانت تاريخية على الرغم من ما يشوبها من المركزية والفئوية، ورغم عدم جذريتها وتقهقرها في الكثير من المحطات والنضالات.

لكننا ندرك اليوم أنها كانت البداية، ويمكن أن يُبنى من خلالها أو يتم تجاوزها. لكن الحقيقة أنها مثّلت نافذة أمل على أن نسويةً جديدةً ممكنة.

محاولات النظام الأبوي لإقبار وقمع النضال النسوي

أدى تزايد المد الثوري النسوي والتضامن، وإعلاء الصوت والتنظيم المستمر حول قضايا العنف والتمييز، وفضح الانتهاكات الأبوية ودور الأنظمة الحاكمة في نشرها وحمايتها، إلى تزايد القمع والرد العنيف تجاه النسويات.
فاستخدم النظام العسكري في مصر، بالإضافة إلى التصفية المباشرة التي راحت ضحيتها مجموعة من الشهيدات مثل شيماء الصباغ، أدوات الاعتقال السياسي والإخفاء القسري ضد مجموعة من الناشطات.
فأصبحت كل من تعترض على السلطة الأبوية العسكرية وتتجاوزها معرّضة للاختطاف والأحكام الصورية. وأصدرت مؤسسة “نظرة للدراسات النسوية” عام 2019، ورقة بحثية، رصدت فيها انتهاكات وتجاوزات النظام في حق المدافعات.
وبحسب هذه الورقة: “وصل عدد المقبوض عليهن من النساء والمدافعات عن حقوق الإنسان خلال عام 2019 إلى نحو 220. وجميعهن تعرضن للاحتجاز والحبس الاحتياطي على خلفية نشاطهن، ولانتهاكات خلال عمليات القبض والاحتجاز، منها الإخفاء القسري في جهة احتجازٍ غير معلومة، والخطف من الشارع، وسوء المعاملة، وسوء ظروف الاحتجاز، والتحرّش الجنسي، والتعذيب”. وخلال السنتين الماضيتين، لم يتغير شيء سوى زيادة أعداد المعتقلات والمختطفات.

لم يقتصر القمع الأبوي المستخدم من النظام المصري ضد المدافعات على الاعتقال السياسي، بل جنح إلى أساليب تخويفية، تقدّم النساء كأمثلة ترهيب. كما حدث مع قضية فتيات التيك توك التي تجسد مثالاً على استخدام النظام للنساء كنماذج لفرض السيطرة ونشر الرعب، والقيم الأبوية التي تعتبر أن أجساد النساء مساحة لممارسة السلطة وتفويض العنف والتخويف.
تعامل النظام مع فتيات التيك توك كقرابين للسلطة الأبوية، ومواضيع يُرسل من خلالها رسالة بأن هذه الدولة الأبوية لن تتسامح مع أي محاولة للنساء بالتحكم في حيواتهن أو تقرير مصيرهن، وأنها حريصة على حماية هذه المنظومة الأبوية ومؤسساتها كما هو الحال مع “قيم الأسرة” التي تحاكم وفقها هؤلاء الفتيات.

لم تقف أساليب القمع والترويع عند هذا الحد. ابتدع النظام أنواعاً جديدة من العقاب لكل من تتجرأ وتقف في وجه العنف أو في وجه المعتدين.
أصبح التضامن النسوي مع الضحايا والناجيات من الاعتداء الجنسي جريمة يعاقب عليها القضاء المصري. فنشاهد اليوم كيف رفع المخرج المصري المغتصب إسلام العزازي دعوى ضد الصحافية رشا عزب صورياً بتهمة “تعمد الإزعاج” لأنها تضامنت مع الناجيات من اغتصابه وتحرّشه! وقد أصدرت المحكمة الاقتصادية في مصر يوم السبت 23 نيسان/أبريل، قراراً برأت فيه عزب من تهمة سب العزازي.
هذه التهمة دخلت التاريخ كأول واقعة قضائية تحاكم فيها امرأة بسبب تضامنها مع نساء تعرضن للاعتداء. كما توضح خوف النظام الأبوي من التضامن النسوي، فاعتبره جريمة يُعاقب عليها بقوانينه الذكورية. ويبعث رسالةً مفادها أن علينا أن نتقبل العنف وعلى غيرنا من النساء أيضاً أن يطبّعن مع الأذى تجاهنا، لأنهن إذا تجرأن ورفضنه ودافعن عن حقنا في العدالة سيحاكمن ويجرّمن.

ما حدث في مصر ليس استثناء. فالناشطات النسويات في السعودية واجهن الاعتقال السياسي والإقامة الجبرية والانتهاكات منذ التسعينيات.
لكن الوضع اشتد مع بروز الحركة النسوية الجديدة، وانطلاق الحملات النضالية المناهضة لمنع قيادة السيارة مثل “سأقود سيارتي بنفسي”، التي اعتُقلت على إثرها منال الشريف عام 2012 ثم لجين الهذلول عام 2014. وحملات إسقاط الولاية مثل “سعوديات نطالب بإسقاط الولاية”، التي بدأت عام 2016 متبوعةً بنضالاتٍ متنوعة ضد القوانين الذكورية المتحكمة في مصائر النساء. ليتطور الحراك ويشمل قضايا الحق في تقرير المصير للسعوديات.
فشن النظام السعودي، عام 2018، حملة اعتقالات واسعة شملت الناشطات اللواتي أُفرج عنهن لاحقاً مثل لجين الهذلول وعزيزة اليوسف وإيمان النفجان ونوف عبد العزيز، وأخريات اعتقلن بعد ذلك بأشهر مثل سمر بدوي ونسيمة السادة.
بينما لا تزال العديدات يقبعن خلف السجون منهن أسماء السبيعي ولينا الشريف وإسراء الغمام، إلى جانب 50 معتقلة سياسية على خلفية التعبير عن الرأي أو النشاط السياسي، و12 ناشطة مخفية قسرياً بعد اختطافهن من قبل السلطات.
استخدم النظام السعودي أنواعاً أخرى من عقاب النسويات وشيطنتهن، من خلال تجييش الحشود ضدهن واعتبار أن كل من لم يقف/تقف ضدهن ويتهمهن/تتهمهن بالعمالة هي/هو بالضرورة داعم/ة لهن ويستحق/تستحق المصير نفسه.
أدى هذا إلى وجود خلايا لجان إلكترونية مهمتها استهداف الحسابات النسوية، التي استمرت في التدوين والنضال والتبليغ عن حساباتهن أو مهاجمتهن عبر مئات الحسابات.
وما يلفت الانتباه في استخدام الحرب الإلكترونية تجاه النسويات، هو تورط منصة تويتر في إغلاق العديد من الحسابات المؤثرة من دون سبب سوى تبليغات اللجان الإلكترونية الذكورية لمنع أصواتهن، في حين لم تحرك ساكناً عند الهجوم عليهن.
فأطلقت السعوديات هاشتاغ #TwitterSuspendfeminists لفضح هذا الأسلوب القمعي الجديد والإضاءة على العنف الرقمي الذي تعرضن له.

وفي موريتانيا، تعرضت النسويات أيضاً لحملات عنف إلكتروني متعددة. وواجهت بعضهن الاعتقال السياسي كما حدث مع عيشة إسلمو التي اعتقلت مع طاقم عمل برنامجها، بسبب حديثها عن توجهاتها النسوية، وعن قضايا الجنسانية والبكارة والعنف.
وعلى الرغم من إطلاق سراح إسلمو، لكن لا تزال العديد من النسويات مهددات بالاعتقال تحت تهم “الخدش بالحياء” و “المس بالمقدسات”.
بينما واجهت نسويات أخريات عنفاً سياسياً من أفراد المجتمع والقبيلة ورجال الدين، مثل محاولة اغتيال الناشطة الحقوقية آمنة منت المختار من قبل رجل دين. وهو اعتداء ليس بمعزل عن ما واجهته آمنة خلال عقود عملها الحقوقي، خصوصاً بعد انخراطها في الدفاع عن محمد الشيخ ولد امخيطير، الذي سجن بتهمة المس بالمقدسات. وتواجه بقية النسويات هجومات متعددة أدت بالعديد منهن إلى الاختفاء.

أما في السودان، فردات العنف كانت مزدوجة وسهام القمع الغادرة أتت من كل اتجاه، بهدف ترويع النسويات وإعادتهن إلى مربع الصمت.
فالنظام العسكري الانقلابي، ارتكب جرائم حرب من اغتيال واعتداء جنسي واختطاف وتعذيب واعتقال سياسي في حق الثائرات.
لكن أشد الاعتداءات إيلاماً هي تلك التي يستهدفنا بها من تقاسمنا معهم ساحات النضال وأقسمنا رفقتهم بالدم أن لا نساوم على الحرية ولا نترك أحدنا على الهامش.
فواجهت النسويات السودانيات عنف رفاق النضال، الرجال الثائرين ضد النظام العسكري الذين هتفوا للسلام والعدالة والحرية، والذين يرفعون سياط القمع وأدوات الذكورية لإسكات رفيقاتهم، وإجبارهن على الثورة وفق مقاييسهم. أي أن يستمروا في لعب الدور التاريخي للنساء في الثوارت وهو تقديم التضحيات من دون حصد النتائج، ورفع الصوت ضد كل قمع إلا قمعهن، والنضال ضد كل اضطهاد إلا اضطهادهن.
في ساحات القيادة العامة، رفعت الثائرات قضايا الاعتداء الجنسي من طرف شركاء النضال، فكانت ردة الفعل عنيفة. ولاحقاً، سيستخدم النظام سلاح العنف الجنسي كانتقام من الثائرات.
بينما لم يستطع المجتمع حينها مقاربة ما حدث في ضوء النظام الأبوي واستخدامه للعنف، بما فيه العنف الجنسي كوسيلة إخضاع للنساء وتدمير المجتمعات، ولم يقف في وجه النظام العسكري ويقطع طريقه، بل استخدمه معه ضد الثائرات.
بعد سنتين من انتفاضة 2018 وعودة الجماهير إلى ساحات النضال ومقاومة النظام العسكري وانقلابه، ظهر الموكب النسوي من جديد يوم الثامن من آذار/مارس رافعاً سقف التحدي الثوري ومعلناً عن بداية ثورية لا تكون النساء على هامشها، أو مشاركات وفق مصالح الرجال، بل صانعاتٍ لها كما هن صانعات للعالم المتخيل.
وكردٍ على جذريتهن، رفض عدد من لجان المقاومة أن تصدر بيانات تدعو للموكب النسوي واعترضت على تسميته بالنسوي. فهذه الكيانات تنظر للنساء كمتلقيات للأوامر الثورية لا كصانعات لها.
لم تؤمن اللجان والثوار الشوارع، ولم يغلقوها كما فعلوا مع المواكب الأخرى. تركوا الثائرات يواجهن آلة السحق العسكرية من دون تكاتفٍ أو وقوف في وجهها.
فحاصر عدد من الرجال الموكب النسوي واعتدوا على الثائرات، وقاموا بسبهن وتهديدهن بالاغتصاب، وقالوا إنه لا وجود لليوم العالمي للمرأة. لا وجود سوى لسلطتهم.

كانت السودانيات عنيدات في حقهن وتصورهن للثورة والعدالة، ورغم منعهن من الوصول إلى المنصات، اعتلين السيارات وصرخن ضد الاعتداء الذكوري. واستخدمن وسائل التواصل الاجتماعي لفضح أنواع القمع التي استُهدفن بها من كل جانب.

هذه أمثلة قليلة على قمع كثير ممتد على طول الخريطة من المحيط إلى الخليج. قمع تنوعت وسائله العنيفة واجتمعت في غايةٍ واحدة، هي وقف المد الثوري النسوي وإقباره.

خلف كل مقاومة تولد مقاومة جديدة

قد تظن الأنظمة الأبوية أنها تستطيع إقبار النضال النسوي والقضاء على أي بذور للمقاومة عبر مقارباتها القمعية والعنيفة، وعبر تنويع أساليب قهرها ومد يدها نحو أكثر الأماكن التي اعتقدنا أنها آمنة.
لكن التاريخ يخبرنا أن المقاومة لطالما كانت ذات جدوى، وإن قُطِعت أشجارها فإن الثمار متجذرة في الأرض. فالمقاومة النسوية ككل هي فعل ثوري لا يُبنى على الأفراد ولا يُنسب لهن/م، هي نضالات جماعية وسيرورة ثورية وتراكمية أتت عبر مئات الأجيال.

خسرنا الكثير، رفيقات، منظرات، منظمات، ومتضامنات. اختطفت منا العديدات، بين المقابر والسجون والمنافي القسرية. وفرض على غالبيتنا الصمت والتخلي عن طريق اخترناه طواعية ومحبة. لكننا لم نخسر العناد والأمل. لم نخسر تضامننا النسوي الذي بعثر أوراق الأبوية وجعلها تتخبط لا تعرف من أين تبدأ في القمع ولا كيف تنتهي.
كلما اعتقلت أو اختطفت أو اغتالت أو عذبت أو جيشت العنف ضدنا، تتعالى الأصوات من كل مكان. أصوات مزعجة غير اعتذارية، ولا تقبل سوى بالحرية والعدالة ثمناً لإخماد غضبها النسوي.
أصوات كاسرة للحدود وعابرة لها، لا تؤمن بالجدران ولا بالأسلاك الشائكة، ولا تؤمن أن هناك قوة تستطيع أن تصادر حقها في المؤازرة وفضح انتهاكات الأبوية، والتأكيد لكل واحدة منا أنها تقف خلفها وأمامها وعن يمينها وشمالها. وإن فاقها القامع عدداً وسلطة ستحرص أن لا تدعه يمارس جرائمه في هدوء. إنه فن الإزعاج النسوي.
ضريبة النضال أمرٌ مسلّم تعرفه كل واحدةٍ منا، لكن المقاومة فُرضت علينا ولم نخترها. لم نختر خسارة الرفيقات وفقدانهن، لم نختر الألم اليومي وفرضية أن كل واحدة منا، كل من نعرفها، هي مشروع شهيدة أو معتقلة أو مفقودة.
لم نختر أن نخوض معارك لأجل البقاء. لكنها فُرضت علينا، واخترنا أن نقاوم وأن لا نمنح لهذه الأنظمة المعادية فرصةً أن ترتاح في نهب حيواتنا.
حتى وإن كانت معركة غير متكافئة الكفة بيننا نحن المجردات من كل شيء إلا من غضبنا النسوي، وبين أنظمة تسيطر على الموارد ولا تتعب. اخترنا أن نثق في تواريخنا البديلة، وأن نتفنن في إتعابها كما تتفنن في قمعنا، فلا يمكنها أن تستمر بمقاتلة ما لا تسطيع توقعه.

عبر التاريخ، راهن كل قامع على تفوقه وسلطته كي يقبر نضالات من يضطهدهن/م، لكن الشعوب قاومت الاستعمار وأنظمة الاستبداد ولا زالت تفعل، رغم أن الضريبة هي ملايين الشهداء والأعمار المسروقة.
لا تزال الطبقات التي تم إفقارها تقاوم وحشية رأس المال وتحفر في جدران الاضطهاد كي تعيش. ولا تزال النساء والمجموعات الكويرية تقاوم الأبوية إلى جانب كل هذه الأنظمة وتحفر وجه العدالة العنيد بدمائها وعرقها وحيواتها، وترسل للقامع الوعد الثوري الذي لا تنكثه أي منا، وهو أن خلف كل مقاومة تولد مقاومة جديدة.

 

كتابة: سعاد اسويلم

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد