العبور الآمن إلى النجاة.. مبادئ أخلاقية لتصديق الناجيات من التحرش والاعتداءات الجنسية

“لم أحكِ أبداً عن الموضوع قبل ذلك، لم يسألني أحد أو بالأحرى، ما حدا فرقانة معه”، هذا ما قالته لي ليلى، حين قابلتها خلال عملي على توثيق حالات التحرش والاعتداء الجنسي في دور الرعاية في عالمنا العربي.

أخبرتني ليلى (اسم مستعار)، أنها لطالما تعرضت للتحرش على يد المشرفين والمشرفات، وأحياناً كثيرة على يد الأقران.

في المراحل المبكرة من طفولتها، لم تكن تدرك معنى ما تتعرّض له، لكنها كانت تشعر بأنه شيء مسيء لها.

كان المتحرّش يوحي لها دائماً أن ما تختبره يجب أن يبقى طي الكتمان، وأن البوح به خطيئة تمسّها وحدها.

ومنذ أن بدأت تعي أن هذه الإيحاءات وصولاً إلى اللمسات، كانت تحرشاً مبطّناً أحياناً، ومباشراً في أحيانٍ كثيرة، كتمت ليلى صوتها، حتى ضاع منها.

“هذه هي المرة الأولى التي أتحدث فيها عن تعرّضي للانتهاك الجنسي والتحرش في دار الرعاية. لم يسألني أحد، أليس غريباً أن لا يسألني أحد عن حياتي في الدار؟ أليس غريباً؟”. هكذا أجابتني حين سألتها عن السبب الذي منعها من التبليغ عن ما تعرّضت له، من تحرّشات لفظية وجسدية كطفلة، ثم كشابة في دار الرعاية.

وأضافت: “إلى من سأحكي؟ وماذا الذي يعنيه أن أبلّغ؟ وإذا تكلمت مذا الذي سيحصل؟ لا شيء أبداً. سيلقون باللوم عليّ أنا أو سيقولون إنني أكذب”.

قابلتها في السجن، حيث كانت تنفذ عقوبتها المزدوجة، بعد أن رفضت الزواج من مغتصبها!

وجدت ليلى نفسها وحيدةً مع جنينٍ يتكون في أحشائها، فكان لا بد لها من التخلص منه بطريقةٍ غير محمية، كادت أن تُفقدها حياتها.

“لم يكن لدي أحد لألجأ إليه، كان الأسهل عليّ قتل الجنين في بطني، لأخلّصه من ظلم الدنيا، على أن أتزوج الوحش”، على حد تعبيرها.

قاسية هذه الواقعة، التي بدأت بالإكراه على الصمت، وصولاً إلى سجن الإنسانة، التي هي الضحية وليست الجلاد.

وأقول إنه إكراه على الصمت بداعي الترهيب من الجاني المباشر، ولكن أيضاً بسبب انعدام الثقة بمنظومة متكاملة لا تنتصر لضحايا الاغتصاب والناجيات/ين منه، لا سيما النساء والفتيات.

الحقيقة أن ليلى ليست وحدها في عدم البوح. هذا ما أظهرته التقارير الدولية حول واقع الرعاية المؤسساتية.

يضاف إليها تقارير عدة، قمت بإعدادها بهدف إصلاح الرعاية البديلة للأطفال/الطفلات في العالم العربي، وعلى صعيد دولي أيضاً.

إذ تشير الإحصاءات إلى أن طفل/ة من أصل 3 أطفال/طفلات يتعرض/ن للتحرّش الجنسي في المؤسسات الرعائية.

واقع دور الرعاية المؤلم هذا، دعاني إلى النظر في قضايا التحرّش بشكلٍ عام، للمقارنة بين واقع المؤسسات الرعائية وواقع بوح الناجيات، لا سيما الطفلات واليافعات.

ماذا كانت النتيجة؟

لا بد من أن أذكر هنا أنني كنت قد باشرت في كتابة هذا البحث عندما جرى إطلاق سراح المتحرّش سامر مولوي بعد أن امتنعت بعض الناجيات عن الشهادة ضده.

وضع ساهم في فسح المجال أمام ثغرة في التحقيق، رافقها تواطؤ المحقق، ما أدى إلى إخلاء سبيل المجرم.

بدأت القصة فعلياً في كانون الأول/ديسمبر 2021، حين قرّرت إحدى الطالبات التحدث عن تجربتها في منشور على فيسبوك، والإشارة إلى تعرّضها للتحرش من قبل أستاذ، استغل منصبه التعليمي.

وعليه، تشجعت أخريات، وفضحن تلقّيهن رسائل إلكترونية تتضمن إيحاءات جنسية صادرة عن الأستاذ نفسه، من خلال نشرهن لقطات “سكرين شوت” لمحادثات المتحرّش معهن عبر مجموعات الدراسة.

وفي 5 نيسان/أبريل 2022، ادعت النائبة العامّة الاستئنافية في الشمال القاضية ماتيلدا توما على مولوي بجنحة التحرش الجنسي بطالبات في الثانوية. وأحالته موقوفاً لمحاكمته أمام القاضي المنفرد الجزائي في طرابلس زياد دواليبي.

وعيّن القاضي دواليبي في 13 نيسان/أبريل من السنة نفسها، موعداً لأوّل جلسة محاكمة.

كان متوّقعاً أن يخضع مولوي للاستجواب، والاستماع إلى الناجيات. لكن الضغط الاجتماعي أدى إلى انكفاء بعض التلميذات عن الإدلاء بشهادتهن. ما أدى إلى إطلاق سراح الأستاذ المتحرّش. إلا أن الرأي العام الحقوقي تحرك مجدداً وأعيد توقيف المجرم.

حينها، أشار الوكيل القانوني للناجيات خالد مرعب إلى أن “النائبة العامة توما ادّعت على مولوي بناءً على قانون التحرش الجنسي الجديد، بوصف الجنحة من دون تحديد المادة القانونية، علماً أن الشكوى التي تقدّمت بها الناجيات اعتبرت أن أفعاله تشكّل جناية وليس جنحة”.

وعلى الرغم من ما مثّلته هذه القضية لنا كقصة نجاح ولو نسبي على مستوى البوح، وصولاً إلى ادعاء قضائي ضد المرتكب، إلا أننا لم نؤسس بعد لحالة مستدامة، يتم فيها كسر حاجز التنميط الاجتماعي والوصم الظالم، وما يحدث هو استثناءات فقط.

فالمحاكمة وحملات السوشيال ميديا لم تنفع في تحقيق العدالة الحقيقية للناجيات، إذ حُكم على مولوي بالسجن 20 يوماً فقط!

لذا، الحقيقة أن واقعنا يؤكد على أن العنف الجنسي المتعدد والمتفاوت الأشكال والأساليب ما زال جريمةً قلّ ما يجري التبليغ عنها. وكل ما نسمع عنه لا يمثل إلا الجزء الصغير من جبل الجليد.

نسبة الإفصاح عن التحرش والعنف الجنسي

في لبنان وعلى الصعيد العالمي أيضاً، نعيش واقعاً عاماً يؤكد أن نسبة الإفصاح عن التحرش والعنف الجنسي الذي تتعرض له الفتيات، تعد من أقل النسب مقارنةً مع عموم الجرائم الأخرى.

ففي كندا، حيث يعتبر الاعتداء الجنسي جريمة قائمة على النوع الاجتماعي، تتعرض النساء للإيذاء بمعدل أعلى (37 حادثة لكل 1000 امرأة) من الرجال (5 لكل 1000 رجل).

وبحسب إحصاء صدر عام 2014، 10% فقط من مجمل حالات العنف الجنسي يجري التبليغ عنها للشرطة.

وفي أكثر من نصف حوادث الاعتداء الجنسي (52%)، كان الجاني صديقاً أو من المعارف أو جاراً للضحية/الناجية.

توجد أسباب متشابكة ومتنوعة تتسبب في تدني نسبة عدم الإفصاح عن التحرش، ثم عدم التبليغ الرسمي عن هذه الحالات.

ويعتبر من أهم هذه الأسباب، الخوف من الوصمة والخجل، والخوف من الفضيحة ومن انتقام الجاني الجسدي، أو تكرار فعلته، أو تشهيره بها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

يضاف إليها التوجس من المعاملة العدائية من قبل الشرطة، وغياب المعرفة بوسائل التبليغ والجهات التي ينبغي التبليغ إليها.

ولعل أكبر خوف يتمثل في منظومة القوانين التي لا تشدّد العقوبة على الجاني، ما يتيح له الاستخفاف بالموضوع، وربما تكرار الجرم.

لا بد من التذكير بأن العنف الجنسي يأخذ أشكالاً متعددة تشمل؛ التحرش والاغتصاب، والشروع بالاغتصاب، والاستغلال التجاري في الجنس، وإجبار الأطفال والطفلات على العمل في الجنس، وتصوير الأطفال والطفلات بطريقة إباحية.

ويشمل التحرش الجنسي، والمداعبة واللمس غير المرغوب فيه، والكلام والتلميحات والإيماءات الجنسية.

مع العلم أن أي نشاط جنسي مع من هن/م دون الـ18 أو مع أشخاص فاقدي/ات الأهلية القانونية، يجب أن يتم التعامل معه على أنه جريمة جنسية.

وتبين المراجعات لسرديات الناجيات من هذه الجريمة، أنه وبغض النظر عن شكلها وحيثياتها، فإن عدم التبليغ عنها غالباً ما يترك أثاراً عميقة.

تشمل هذه الآثار، الشعور الدائم بالعجز والخوف والضعف، فقدان الثقة بالآخرين/الأخريات، والتوجس من خيانة الأصدقاء/الصديقات والأقارب/القريبات.

يضاف إليها الشعور بالوصمة والعار والخجل والفضيحة، والمعاناة المؤلمة، المرتبطة بأي ممارسة أو نشاط جنسي مستقبلي.

كما تُجمع الأبحاث الدولية على أن غالبية الفتيات لا يفصحن عن تعرّضهن للعنف الجنسي لفتراتٍ طويلة. وبعضهن لا يفصحن أبداً عما تعرضن له مدى حياتهن.

وفي العادة، إذا أفصحن، يكون بشكلٍ متدرج بحسب استجابة الجهة التي يتم الإفصاح لها، والتي قد تكون الصديقات أو الزميلات أو أقارب/قريبات الفتاة.

وغالباً ما تصمت الفتيات لأسبابٍ كثيرة، أبرزها المعاناة النفسية الناتجة عن تعرضهن للعنف الجنسي. ومحاولة تجنب التفكير بالاعتداء، أو استرجاع أحداثه أو الكلام عنه.

والخوف من أن لا يصدّقهن أحد، على الرغم من خطورة هذا النوع من العنف وعواقبه. كما الخوف من إلقاء اللوم عليهن.
وربما تتجنب الفتيات الإفصاح خشيةً من عقاب الأهل، أو من انتقام الجاني، الذي قد يأخذ أشكالاً أخرى من العنف والنبذ والتشهير. مثل نشر أخبار مضللة عن الضحية/الناجية، أو نشر صور لها على مواقع التواصل الاجتماعي.

يضاف إلى هذه الأسباب، الشعور بالذنب. فقد تشعر الضحية/الناجية أنها كانت السبب في الاعتداء الذي تعرّضت له، في الحالات التي يكون فيها العنف الجنسي صادراً عن شخص معروف لها، أو أحد أفراد عائلتها.

فيؤدي هذا الارتباك والخوف إلى إضعاف قدرة الفتيات على الإدراك أن الجاني هو المسؤول عن الاستغلال، وليس هن. وبالتالي، تتجنبن الإفصاح عن الاستغلال الذي تتعرضن له.

كما أن الخشية والرهبة من صعوبة إجراءات التحقيق وغياب الثقة بالجهات الأمنية، تدفع الفتيات إلى التردد في التقدم بشكوى رسمية أمام هذه الجهات.

تصديق الناجيات

وهنا، يكتسب مبدأ تصديق الناجيات أهميةً كبرى على المستوى المبادئ الأخلاقية، التي يجب أن تحكم مسار البوح، وصولاً إلى محاسبة قانونية علنية ومتشددة للمرتكب.

إلا أن مبدأ التصديق، يجب أن يترافق مع مسارات أخرى تساهم في الاكتشاف المبكر لحالات الاعتداء على أشكاله، مروراً بالتدخل المتخصص الاجتماعي والنفسي، لمواكبة الضحايا/الناجيات في عبورهن إلى ضفة النجاة.
كما أن التدخل المتخصص يجب أن تواكبه بنية تحتية قانونية، تبدأ من التحقيق الجنائي والقضائي المحصن بثقافة مجتمعية تحترم الحقوق، لا سيما للفئات الأكثر تهميشاً.

وبالعودة إلى جريمة سامر مولوي، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً إيجابياً في فضح المرتكب.

لكن السؤال الأساسي الذي يجب أن نطرحه، هو عن أمان هذه الوسائط واستدامتها.

إذ لا بد لنا من التفكير ملياً في عواقب الاستعاضة عن البنيات التحتية القانونية والقضائية الاستجابية لحالات العنف الجنسي، بوسائط قد تعرض الضحايا/الناجيات إلى مخاطر قد تكون مخفيةً عنا.

إفضحي المتحرّش يجب أن تكون القاعدة، ولكن في المقابل، يجب أن نحترم مبدأ السرية للضحايا/الناجيات في عمليات التبليغ وتبعاتها القانونية.

فهي لا تعبر بأمان إلى النجاة إلا بالمحاسبة القانونية للمعتدي، وبمواكبة نفسية واجتماعية تتيح شبكة أمان محمية بوعي اجتماعي ينتصر لمبدأ الحقوق ويعاقب المجرم.

 

كتابة: زينة علوش

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد