نساء “عين الحلوة” في مواجهة رعب المستوطنين الصهاينة
في عين الحلوة، تعيش إسراء (18 عامًا)، وهو تجمع رعوي فلسطيني صغير بالأغوار الشمالية بالضفة الغربية. منذ الحرب الأخيرة على غزة، يشهد التجمع اعتداءاتٍ ليلية وإرهاب المستوطنين/ات الصهاينة.
هو موقع صغير جغرافيًّا وسكانيًّا، تأهله عدة عائلات فلسطينية تنهج في حياتها ومصدر رزقها رعي المواشي في جبال الأغوار. حسب اتفاقية “أوسلو”، تقع عين الحلوة في المناطق المصنفة (ج) سياسيًّا وأمنيًّا.
تتعرض عائلة إسراء والعائلات الأخرى لتهديدٍ يوميٍّ بالترحيل بفعل اعتداءات المستوطنين/ات المستعمرين/ات. حيث يستوطن هؤلاء في الجوار، في بؤر استيطانية ضخمة أو أخرى عشوائية رعوية. بعد الحرب على قطاع غزة، ازدادت هذه الاعتداءات شراسة ورعبًا، سيّما على النساء.
بينما تفقد غزة يوميًّا مئات الشهداء/الشهيدات، فقدت إسراء جنينها الثاني بعد السابع من أكتوبر. ظل سبب الإجهاض مجهولًا، وجعلها تدور في فلك الكآبة والألم والعزلة.
توصلتُ إلى إسراء وحماتها، أو كما تدعوها “العمة فاطمة”، عن طريق زيارات ميدانية متكررة شاركتُ بها لدعم هذه المجموعات المهمشة.
“نخاف أن يقتحموا مساكننا في أي لحظة. أصاب بالقلق وأظل مستيقظة حتى الواحدة ليلاً، أحرس الخيمة والأطفال بداخلها. وإن شعرت بخطر المستوطنين، أيقظ الجميع لنهرب نحو الجبل”.
الوصول المرير إلى عين الحلوة
كان الوصول إلى مسكن إسراء في عين الحلوة يحتاج إلى مرورنا من حاجز “تياسير” العسكري.
انتظرنا ساعتين أو أكثر، للسماح لنا بعبور الحاجر من طرف جيش الاحتلال الصهيوني. إما ذلك أو سلك طريق طويل ووعر تقطع فيه شبكات الاتصال، يمر عبر الجبال والوديان، ومغطى بالحصى والحجارة يدعى “وادي الخشنة”.
وصلنا عين الحلوة الذي يقسمه شارع “ألون” الاستيطاني. إذ تمنع ما يُدعى بـ”الإدارة المدنية الإسرائيلية”، وحديثًا “مجلس المستوطنات”، أي شكل عمراني يعزز وجود العائلات في المكان. يشمل ذلك البنيات التحتية والمواصلات العامة.
كانت عمة إسراء تنتظر على المفرق، باحثة عن سيارة للوصول إلى مشفى محافظة طوباس، وإحضار فحوصات ستقرر مصير إسراء الإنجابي.
شاركت فاطمة وقفتها أمام الأعلام “الإسرائيلية” التي نصبها المستوطنون على مداخل عين الحلوة، كتهديد مباشر للسكان. وعلى عجل، ذكرت فاطمة قصة إسراء وقصتها كامرأة مطلقة، وكم شقيت في حياتها من أجل تربية طفلها الوحيد. ولأجل ذلك، ستفعل أي شيء ممكن لترى ابنها وزوجته إسراء قادران على الإنجاب.
تركت فاطمة بحثًا عن إسراء في الجهة المقابلة من الشارع الاستيطاني، وسط عدة خيم مبنية من الشوادر وسقف “الزينكو”، تجاورها حظائر الأبقار. وثمة عين ماء سيطر/ت عليها المستوطنون/ات وسيجوها بالحديد، ووضعوا/ن المقاعد واللافتات ومنعوا/ن العائلات الفلسطينية من وصولها وسقي أبقارهم/ن.
View this post on Instagram
“هل خلقنا الله… لنتألم؟!”
فوق التلال المحيطة بمنزل إسراء والنساء الأخريات، أقام/ت المستوطنون/ات غرفة يراقبن/ون منها العائلات (ما يقارب 20 فلسطينياً/فلسطينية). هناك نجمة داوود كبيرة على التلال المقابلة، توحي بأن المكان تم تحويله إلى شعاويذ تلمودية.
كان يوم السبت، الذي يسبت فيه المستوطنون/ات ولا يتنقلن/ون فيه كبقية أيام الأسبوع، إلا من مستوطن مسّلح. كان يلتقط صورًا لصديقته، بالقرب من نبع عين الحلوة الملاصق لمساكن العائلات في التجمع.
جلستُ مع إسراء خارج الخيمة، قالت لـ”شريكة ولكن”: “عانيت في آخر إجهاض بسبب إبرة الطلق الاصطناعي. من السابعة صباحًا حتى الحادية عشرة ليلًا، أصرخ وأتألم بشدة من أسفل ظهري، غير المغص. استمر الألم بعد الإجهاض أسبوعًا، ثم عدتُ إلى المنزل في عين الحلوة.
زعلت متللّ (جدًّا)، أصبحت أتساءل: هل الله خلقنا لنتألم؟ كنت أهرب إلى البرية، حتى أبكي دون قيود رغم خوفي من المستوطنين/ات”. كانت إسراء تنتظر نتيجة الفحوصات قبل قدوم شهر رمضان. “أخاف أن يُغلقوا الحاجز، وأضطر لسلك حاجز “الحمرا” العسكري البعيد للوصول إلى مستشفى طوباس”.
إسراء ليست الفلسطينية الوحيدة التي يحول المستوطنون/ات بينها وبين الخدمات الصحية. فالنساء في عين الحلوة ينتظرن لأيامٍ وأسابيعٍ، قبل أن يتلقين رعاية صحية في مستشفى طوباس. ليس بسبب الحواجز العسكرية فحسبٍ، إنما المرور نفسه من شارع “ألون” يضيع أيامهن في الانتظار.
بعد العدوان على غزة، أصبح الأمر أصعب. إذ يقطع المستوطنون/ات المسلحون/ات الطرق، يسرقن/ون الماشية، الأغنام والأبقار، ولا يوجد ما يحمي هؤلاء في ظل الحرب.
عين الحلوة.. ترحيل قسري وهجوم استيطاني متكرر
استغلت حكومة الاحتلال الصهيوني انشغال العالم بالحرب على غزة وأطلقت العنان لمستوطنيها لإرهاب الفلسطينيين/ات. يحدث ذلك خاصة في التجمعات البدوية والرعوية، التي تفتقر الحماية أساسََا، ويعمد المستوطنين ترحيل السكان قسرًا.
استهدفت مجموعات استيطانية تعرف بـ”فتية التلال”، أو “جماعات تدفيع الثمن”، تجمع عين الحلوة. وأصبحت حياة النساء هناك، وصحتهن النفسية والجسدية على المحك.
تقول زكية دراغمة، 60 عامًا: “منذ عام 67، نعيش هنا. نسقي البقر من العين ونرعى في الجبال”. منذ السابع من أكتوبر، بدأنا نرى مستوطنين/ات مسلحين/ات يتجمهرن/ون ليلًا أمام منازلنا. يأتون/ين بالسيارات و”التركتورنات” والموسيقى العالية ويطلقون العنان لأصواتهم/ن.
نخاف أن يقتحموا مساكننا في أي لحظة. أصاب بالقلق وأظل مستيقظة حتى الواحدة ليلًا، أحرس الخيمة والأطفال بداخلها. وإن شعرت بخطر المستوطنين/ات، أيقظ الجميع لنهرب نحو الجبل”.
رغم الاعتداءات، تحاول النساء حماية مساكنهن وإعلان وجودهن في المنطقة، أمام سلاح المستوطنين/ات ووحشيتهم/ن.
ومنذ السابع من أكتوبر، انتهج “فتية التلال” في الضفة أساليب غير مسبوقة بعد تسليحهم والقيام بدور شرطة وجيش الاحتلال بالضفة. حيث قاموا بترحيل 18 تجمعاً بالإكراه، كما يحدث الآن في عين الحلوة.
“هناك نساء لجأن للملابس المستعملة بدلاً من الفوط الصحية، بسبب انعدام مصدر الدخل بعد الحرب، وقلة الوصول إلى الأسواق بسبب إغلاقات الاحتلال”.
عصابات الاستيطان تحرم النساء من الرعاية الصحية
يمارس الاحتلال ومستوطنيه/مستوطناته انتهاكات متواصلة، وتم حرمان النساء في عين الحلوة من حقهن في الصحة الإنجابية والجنسية. فمنذ الحرب على قطاع غزة، أغلق الاحتلال الحاجز الذي يربط التجمع بمشفى محافظة طوباس، ومراكز الصحة والعيادات النسائية.
انقطعت زيارة العيادات المتنقلة التي تمثل وزارة الصحة أو منظمات غير حكومية للتجمع. حيث كانت النساء تحظى برعاية شبه شهرية من قبل طبيب/ة عام/ة أو طبيب/ة أمراض النساء والتوليد. وإن كانت تلك الزيارات لا تتجاوز مدتها ساعة واحدة، إلا أنها الآن توقفت.
قالت إسراء: “أخبرني الطبيب أن الحمل طبيعي، لكنه خمن إصابتي بجرثومة من رائحة الغنم أو الكلاب. أو ربما أصبت بزكام شديد، لكن الفحوصات ستحسم الأمر”.
يحاول المستوطنون/ات دفع عائلة زكية للرحيل بعدما قاموا/قمن بسرقة 70 بقرة هي مصدر رزق العائلة الوحيد. كما فُرضت على العائلة غرامات باهظة، تصل لآلاف الدولارات، إن أرادت استعادتها. هذا بالإضافة إلى الإجراءات القانونية العنصرية والمعقدة لاسترداد المسروقات.
ومنذ الحادثة واعتقال اثنين من العائلة، تشعر زكية بألمٍ يرافق كتفها الأيسر. تقول لـ”شريكة ولكن”: “أشعر بألمٍ متواصل يمتد إلى كف اليد، وخسرت من وزني كثيرًا. كلما ذكر زوجي مسألة الرحيل عن التجمع، أشعر بالخوف يتملك جسدي”.
تردف: “في هذه الخيمة، أنجبت أبنائي، كانت الداية تأتي فوق الفرس من مكان آخر، وكافة النساء هنا أنجبن سابقًا بتلك الطريقة التقليدية”.
تقع التجمعات الرعوية في مناطق معزولة بالضفة الغربية تخضع لإدارة دولة الاحتلال الصهيوني. حيث تفقد السلطة الفلسطينية السيطرة والسيادة على هذه المناطق وتوفير الحماية للفلسطينيين/ات الصامدين/ات فيها.
View this post on Instagram
من التقليد إلى مراكز صحة حديثة.. وغير متاحة
رافقت نساء عين الحلوة أزواجهن إلى تلك الأغوار الفلسطينية لتكوين عائلاتهن، والبحث عن مورد اقتصادي. كل ذلك في سياق مجتمعي ذكوري يعزز فكرة تبعية النساء للرجال، وسط ظروف معيشية قاسية في خيم من الشوادر والبلاستيك.
في السنوات الأخيرة، أصبحت نساء عين الحلوة هدفًا لمشاريع المنظمات الدولية، لتعزيز مفهوم “الجندر” عند كتابة المشاريع، وترضية للممولين. في حين تتغيب المؤسسات النسوية والمدنية المحلية، واقعيًّا، عن تقديم الأنشطة التوعوية الخاصة بالصحة الجنسية والإنجابية عن هذه التجمعات.
في عين الحلوة، اكتسبت غالبية الفتيات تعليمًا ثانويًّا، مكّنهن من وعيٍ ذاتي بصحتهن الإنجابية. تقول ولاء دراغمة: “عند الحمل، تزور المتزوجات الطبيب/ة النسائي/ة الخاص/ة، أو في المستشفيات العامة في محافظة طوباس القريبة، (20 كم)”.
كما يعتمدن على شراء الفوط الصحية من أسواق بعيدة تفصلها الحواجز العسكرية. تقول ولاء: “لا يوجد دكاكين في التجمع، لذلك نطلب من أي زائرة للمدينة إحضار الفوط الصحية التي نحتاجها”.
بعد عملية طوفان الأقصى، يتحكم المستوطنون/ات في الطرق المحيطة بعين الحلوة، ما جعل الوصول إلى مستشفى طوباس إرهاقًا فوق إرهاقٍ. فعلى المريضات حساب الوقت جيدًا، لئلا يصادف موعد عودتهن وجود المستوطنين المسلحين في الطريق.
هؤلاء المستعمرون يقومون بتفتيش جميع السيارات وأحيانًا سرقة محتوياتها والاعتداء على مَن فيها. فتكون العودة أكثر رعبًا من الذهاب، خاصة بالنسبة للنساء اللواتي لا يعذرهن المرض من أعبائهن الرعائية وحماية الخيم.
النساء في عين الحلوة.. على الهامش؟
تعيش إسراء وفاطمة وزكية، وغيرهن ممن قابلتهن في هذا التقرير مثل، ولاء وفائدة، كزوجات وأمهات وعازبات ممن يختبرن اعتداءات “فتية التلال” والمستوطنيين/ات الرعويين/ات.
وبينما يذهب الرجال يوميًّا وراء رعي الأبقار في الجبال، تحمي نساء عين الحلوة الخيم والمكان من هجماتهم. صامدات وحيدات يفتقرن إلى أدنى حقوقهن في الوصول إلى الخدمات الصحية.
تقول المنسقة الميدانية لمؤسسة “جذور للإنماء الصحي والاجتماعي”، خضرة دويب، لـ”شريكة ولكن”: “هؤلاء النساء يعشن في خيمة “صمود”. وعمومًا، ليس للصحة الإنجابية والجنسية عنوانًا يمكن لهؤلاء النساء الوصول إليه. النساء في التجمعات النائية يحتجن للمعرفة بهدف الوقاية والحماية”.
ورغم أن وزارة الصحة الفلسطينية وضعت استراتيجية لخمسة أعوام تتعلق بقضايا الصحة الإنجابية والجنسية، إلا أن “الاحتلال الإسرائيلي يهدد الإنجازات التنموية على صعيد الصحة”.
عملت “جذور” على إصدار دليلين في الحقوق الجنسية والإنجابية لليافعين/ات والأطفال/الطفلات. تقول دويب: “درّبنا 20 مثقفة مجتمعية بالتعاون مع العيادات الصحية والمجالس البلدية أو القروية لمتابعة حالة النساء الصحية في التجمعات النائية. ونراقب أيضًا الأمراض المزمنة، مثل سرطان الثدي أو الرحم وغيره”.
View this post on Instagram
الحرب على غزة على والنساء في عين الحلوة
واجهت نساء التجمعات صعوبةٌ بالغة في الوصول للخدمات الصحية، بعد إغلاق الضفة الغربية بسبب الحرب على غزة.
تقول دويب: “كانت المرأة تقود سيارة “مشطوبة” (غير قانونية) من التجمع إلى أي مكان. اليوم، يمكن لأي مستوطن أن يقطع الطريق أمامها ويسرق السيارة. بالتالي وبسبب ارتفاع ثمن المواصلات ونقصها، أصبحت الصحة الإنجابية والجنسية ليست أولوية”.
تضيف: “هناك نساء لجأن للملابس المستعملة بدلًا من الفوط الصحية، بسبب انعدام مصدر الدخل بعد الحرب، وقلة الوصول إلى الأسواق بسبب إغلاقات الاحتلال”. كما تعاني النساء والفتيات من صحة نفسية سيئة ويواجهن أزمات صحية، بسبب شح المياة. ازدادت هذه الأزمات حاليًا، خاصة بعد تقييد المستوطنين/ات للمراعي وتقييد وصول السكان لمصدر المياه.
في هذا السياق، بدت النساء يواجهن تحديًا أيضًا في العناية الذاتية. تشرح دويب: “نزور تجمعات تعاني من قلة الماء وانعدام الصابون ودورات المياه. وهو ما رفع من نسبة إصابة النساء بالالتهابات”.
تمنع دولة الاحتلال، وفق منظمات حقوقية، استخدام 80% من أراضي الأغوار الشمالية والوسطى تحت ذرائع مختلفة. “أراضي دولة”، “أراضي مخصصة للتدريب العسكري”، “محميات طبيعية”، “آثار”، “مراعي”.
بعضها الآخر استولى/ت عليه مستوطنون/ات بالقوة المجردة، وبالوكالة عن دولة الاحتلال. يحدث ذلك الاستيلاء الممنهج بواسطة عنف يومي يمارسونه ضد السكان الأصلانيين/ات وممتلكاتهم/ن.