ماذا يعني انعدام الأمان بالنسبة للنساء؟
رغم عقود من التنظير النسوي حول مخاوف النساء وتجاربهن مع العنف، ومحاولة أن تكون لتلك المخاوف روابط منطقية في الوعي الجمعي للمجتمعات، لا يزال هناك استغراب عندما تعبّر النساء عن انعدام الأمان، ومدى خوفهن من العنف الأبوي، وقدرة الرجال على ارتكابه.
هذا الإنكار المتواصل لعواقب وآثار النظام الأبوي على سلامة النساء والفتيات، جعل من الصعب تصديق أن أسوأ مخاوف البشر تصبح أقلّ خطورةً بالنسبة للنساء إذا ما تمت مقارنتها مع عنف الرجال وخطورتهم.
تجربة اجتماعية.. عندما تكون الغابة أكثر أمنًا بوجود الدببة لا الرجال
أثار سؤال افتراضي أطلقه حساب “Screenshot HQ” على تيك توك جدلًا واسعًا، وذلك بعد أن طرح صاحب الحساب سؤال “إذا كنتِ وحدك في الغابة، هل تفضلين مواجهة دبٍ أم رجل”، على مجموعة من النساء في الشارع.
تركت الإجابات استغرابًا عامًّا، حول السبب الذي يجعل غالبية النساء اللواتي أجبن عن السؤال، يقلن بإنهن سيشعرن بأمانٍ أكبر في البقاء مع الدببة لا الرجال الذين لا يعرفنهم.
وأصبح هذا المقطع “ترند” على منصة تيك توك، حيث فتح نقاشًا استمر لأسابيع، شاركت فيه نساء من أماكن مختلفة إحساسهن بانعدام الأمان في ظل وجودهن برفقة الرجال.
View this post on Instagram
الخوف والقلق وغياب الأمان.. شهادات حيّة
وكانت بعض الإجابات تحكي بصدقٍ عن آثار التجارب المريرة مع العنف الأبوي.
حيث تفاعلت مع المقطع الأصلي آلاف النساء، بعضهن قالت إنها “إذا ماتت في الغابة فإن الدببة والذئاب سيكونون ألطف مع جثتها من أي رجل”.
وأجابت أخرى بأن “ما يريح في التواجد مع الدببة هو أنها تعرف نواياهم تجاهها عكس الرجال”.
أخرى طرحت مسألة ثقافة الاغتصاب ولوم الضحية، بقولها إنها “إذا نجت من هجوم دبٍ في الغابة فعند خروجها لن تجد من يكذّبها حول الأمر. أما إذا كان رجلاً فلن يصدقها أحد مهما كانت الحالة التي هي فيها، فإن اللوم سيكون عليها دائمًا”.
كانت ردود الرجال، من ناحية أخرى، أقرب للانفصال عن الواقع. فبدلاً من أن يركزوا على حجم الدمار الذي خلًفه هذا النظام في أمن وسلامة النساء وصحتهن النفسية، تنافسوا حول الدفاع عن أنفسهم تحت شعار “ليس جميع الرجال معتدين أو معنفين أو قتلة..”. لكنّ الحقيقة أن بعض من سئلوا عن أيهما أخطر على أمن نساءٍ من عائلاتهم كانت الكفة دائمًا ترجح للرجال.
هذا السؤال عن وضعٍ متخيل كان كفيلاً بإيضاح حجم الهوة التي تفصل المجتمعات وتحديداً الرجال، عن فهم معنى أن يتعيش امرأة في نظام أبوي، فتختبر الألم والخوف وتجارب العنف المتوارثة ليس في الحياة اليومية فقط، بل أيضاً في البناء النفسي والاجتماعي لكيانها.
ماذا يعني انعدام الأمان بالنسبة للنساء؟
أعاد هذا “الترند”، النقاش حول أكثر القضايا التي تشكل خطورة على حياة النساء والفتيات، وهي انعدام الأمان. ليس الأمان الجسدي فقط، بل أيضًا النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
إن النظام الأبوي قد صمم المجتمعات كما البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية على سلب الأمان من النساء لكي يتمكن من السيطرة عليهن.
يظهر هذا جليًّا في تجذّر العنف الأبوي في كل زاويةٍ من المجتمع والنظام السياسي والاقتصادي، وكيف يشكل هذا العنف تجارب النساء اليومية.
من منا لم تشعر أن انعدام الأمان والخوف وُلدا معها؟
من منا لم تجد نفسها تصارع من أجل النجاة في ظل ظروف تحيطها بالمخاوف، مخاوف الاعتداء الجنسي، والضرب، والقتل، مخاوف التنمر والهجوم الذكوري، والوصم الاجتماعي، وحتى مخاوف معايير الجمال، مخاوف التقدم في العمر، ومخاوف الحفاظ على قواعد الجنسانية، مخاوف عدم الزواج، ومخاوف الزواج، مخاوف الانجاب ومخاوف عدم الانجاب.
فالعنف الأبوي هو حلقة يومية ممنهجة، قاتمةٌ وعابرةٌ للأجيال. حلقةٌ تحتجز داخلها النساء والفتيات باختلاف طبقاتهن وأعراقهن وخلفياتهن المتنوعة. واقعٌ مأساوي يعشنه في البيت، والشارع، والمؤسسات الرسمية، وأماكن العمل، وفي المنتزهات والغابات والصحاري، في قوارب الموت، وفي رحلات النزوح، وفي الحروب، والأوبئة والأزمات.
مظالم كثيرة تتربّص بأمن النساء وحيواتهنّ، من الغرباء والأقارب، والأصدقاء، والأزواج، والجيران، والمجتمع، والدولة، والرموز، ورفقاء النضال. فيستشعرن التهديد كتجربة شخصية وسياسية، ويتشاركنه مع الأخريات، ويدركن حجم الألم الناتج عنه، ويقاتلن حتى بأرواحهن ضده، وإن لم يستطعن فإن وعيهن الخاص يظل يذكر بذلك الألم ولا يتصالح معه، ويحلم بانتهائه، وعدم تكراره.
إن الخوف هو أكثر المشاعر وضوحًا بالنسبة للنساء. هو التجربة المشتركة النابعة من تاريخ من العنف المادي والرمزي، هو البداهة في اختيار المخاطرة في غابةٍ مليئة بالدببة عوض التواجد مع رجل واحد.
فكل امرأة في مرحلةٍ ما أدركت أن النظام الأبوي أنتج وأنشأ الرجال على اقتناص فرص العنف، واتخاذ قرارات العنف دون إعادة النظر في عواقبها.
View this post on Instagram
وأدركت النساء بعد تجارب مريرة أن الرجال دائمًا قادرين على العنف لأنه مفوض لهم سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا، ولأن معظم النساء، جئن من أجيال كثيرة من النساء كافحن من أجل نجاتهن وكنّ بشكلٍ أو بآخر ضحايا لهذا العنف.
لذلك سيظل أي نقاش عن مخاوف النساء وحقيقة أنهن يعشن في عالم ٍ لا يوفّر لهن أدنى مقومات السلامة والأمن، محض سخرية. خصوصًا من المجتمعات التي دأبت على تحويل العنف لنكتة، فاعتادت السخرية من هذه المخاوف، بل وربطتها دائمًا بالتنميطات الجندرية عن النساء، كمتآمرات ومحرضات على الفتنة والفجور. وأنهن السبب دائمًا في مايحصل لهن وما ينتج عن أفعال الرجال ضدهن.
حين تخاطر النساء بالموت مخافة العنف الأبوي
الكثير من النساء اضطررن لاتخاذ قرارت خاطرن فيها بأنفسهن لكي يتجنبن مصير العنف الأبوي. وكانت وما تزال الطرق التي تتخذها النساء للنجاة هي طرق خطيرة وغير عادلة.
ليس بالبعيد علينا مثلًا الطريقة المروعة التي توفيت بها الطالبة المصرية “حبيبة الشماع”، التي فضلت أن ترمي نفسها من سيارة “أوبر”، عن أن تتعرض للخطر أو الاعتداء من السائق، وكلفها ذلك حياتها.
كان مصير “حبيبة” يذكر بالرمضاء والنار التي تترك لها النساء. فإما المخاطرة بالنفس أو التعرض للعنف الأبوي، وكان الخيار دائمًا واضحًا ومؤلمًا ومبينًا حجم الجرائم التي تعيش تحتها النساء، حيث يطرحن أمام واقعٍ يعج بالعنف، ورجال مترصدين لأي فرصة لممارسته، وكأن وجودهم مرتبط به.
بعد الوفاة المأساوية لحبيبة الشماع والتي كان النظام الأبوي مسؤول عنها بالكامل، ظهرت في النقاشات ثقافة اللوم الأبوي، التي بدل من أن تركز على العنف والخطر الذي تعيشه النساء وتتكبده في الخروج والمواصلات العامة. ساءلوا الضحية عن مصدر خوفها، وكيف علمت أنه سيختطفها ويعتدي عليها.
هذه التساؤلات التي هي في الحقيقة جوهر النظام الأبوي، تبين بحق كيف أنه لا يضع حياة النساء في خطر يومي فقط بل أيضًا يجردنهن من أي حق في مقاومته، وينفي شعورهن بالخوف وخبرتهن في اكتشاف العنف التي راكمنها بفعل تجارب مريرة تبدأ من الطفولة ولا تنتهي إلا بالموت.
إن العنف الأبوي هو حلقة يومية وممنهجة وقاتمة وعابرة للأجيال، تعيشها النساء والفتيات باختلاف طبقاتهن وأعراقهن وخلفياتهن المتنوعة.
وهو واقع مأساوي يعيشنه في البيت من أقرب الناس إليهن، وفي الشارع، وفي المؤسسات الرسمية، وأماكن العمل، وفي المنتزهات والغابات والصحاري،
في قوارب الموت، وفي رحلات النزوح، وفي الحروب، والأوبئة والأزمات، من الغرباء والأقارب، والأصدقاء، والأزواج، والجيران، والمجتمع، والدولة، والرموز، ورفقاء النضال.
يستشعرنه كتجربة شخصية وسياسية، ويتشاركنه مع الأخريات، ويدركن حجم الألم الناتج عنه، ويقاتلن حتى بأرواحهن ضده، وإن لم يستطعن فإن وعيهن الخاص يظل يذكر بذلك الألم ولا يتصالح معه، ويحلم بانتهائه، وعدم تكراره.
إن المخاوف والمخاطر التي تواجهها النساء، قد جعلتهن يدركن قيمة العدالة وأن لا يفقدن الأمل في الإنسان، لكنها جعلتهن أكثر حذراً في اختيار البقاء في الغابة وحيدات مع الدببة وليس مع الرجال.