المرسوم 54.. ناشطات وصحافيات في السجون التونسية أو مهدّدات بالاعتقال

تتوالى الاعتقالات والمحاكمات بمقتضى المرسوم 54 منذ العهد الجديد، أو كما يسميه البعض انقلاب 25 جويلية 2021. فمنذ أن حلّ الرئيس التونسي قيس سعيد البرلمان وسنّ دستورًا جديدًا، أصبحت الحريات الفردية وحرية الصحافة والتعبير في صراع يومي مع توجهات السلطة والمرسوم 54.

“تحاكم النساء مرتين. مرة من أجل أفكارهن، ومرة لأنهن نساء. يتم سحلهن في صفحات التواصل الاجتماعي، ويكال لهن من الشتائم أصنافًا وأنواعًا. نحن نعيش في تونس لحظة خانقة جدًا. خانقة أمام حرية التعبير، وخانقة أمام ذكورية متشنجة لا تنفك عن شن الحملات ضد الأصوات النسائية والنسوية المرتفعة”، منية العرفاوي.

ما هو المرسوم 54؟

ظاهريًا، يتعلق المرسوم 54 بالجرائم المتعلقة بأنظمة المعلومات والاتصال، ويهدف لمكافحة المعلومات والشائعات على الإنترنت. وتنص المادة 24 منه على السجن مدة تصل إلى خمس سنوات وغرامة تصل إلى 50 ألف دينار. وذلك بحق كل مَن نشر/ت هذه المعلومات، وتتضاعف ضد موظفي/ات الدولة.

المرسوم ذاته أصبح سلاحًا في يد السلطة القضائية والأمنية. حيث يتم استخدامه لمعاقبة التعبير عن الرأي عبر الإنترنت، أو مساندة القضايا الحقوقية، أو انتقاد أداء السلطة.

إما أن “يعيش الملك” أو السجن

بدأ صراع السلطة مع المجتمع المدني التونسي يحتد. وذلك حالما انتقدت المنظمات والهيئات الوطنية سياسة التعتيم الإعلامي التي تمارسها رئاسة الجمهورية. فمنذ أن اتخذ الرئيس من صفحة الفيسبوك منبرًا للتواصل مع الشعب، أصبحت المغالطات والتخوين سياسة ينتهجها. هذا بغرض تشويه المعارضة وتحميلها مسؤولية الأزمات الاقتصادية في البلاد.

بداية من 24 جويلية 2021، أعلن سعيد الحرب على الإعلام. فاتهم وسائل إعلام بالتعتيم على المبادرات التي يقوم بها. ثم بعد يومين، أغلق مقر مكتب الجزيرة بتونس تعسفيًا ودون حكم قضائي. كما تم إصدار بطاقة إيداع بالسجن ضد أول ناشطة في سلم الصحافيات والناشطات. وهي المحامية والناشطة النسوية بشرى بالحاج حميدة في 2022، لتبدأ حملة إيداعات بالسجن لم تهدأ إلى اليوم.

“تم استدعائي للبحث من قبل فرقة مكافحة الإجرام بالقرجاني على خلفية تحقيق صدر لي في جويلية 2021 حول ملف الحج. في 24 مارس 2022، تفاجأت بإخطاري من قبل الفرقة الأمنية للمثول من أجل مواجهة شكوى ضدي. كان التحقيق منطلقًا للبحث معي، لكنني فوجئت بعدها بتواتر الشكاوى ضدي على إثر تدويناتي، بمقتضى المرسوم 54″.

هكذا بدأت رئيسة تحرير موقع “الصباح ديجيتال” منية العرفاوي شهادتها المتطابقة شكلًا ومضمونًا مع شهادات جميع الناشطات والصحافيات. كلهن مدانات بموجب المرسوم 54، أو بتهم أخرى أكثر قسوة.

أصبحت الكلمة المباشرة وغير المباشرة أو القابلة للتحليل والتأويل قادرة على وضع المواطن/ة في السجن. لا تعترف السلطة سوى بالرأي الواحد والإعلام الواحد والموقف الواحد.

المرسوم 54.. استهداف الفاعلات في الشأن العام

تعيد الحكاية نفسها مع كل من سولت لهن أنفسهن التطرق بمهنية لملفات الفساد أو الانتهاكات. أو التعبير عبر تصريحات إذاعية ومتلفزة، أو الاستماع إلى شهادات تعارض الرواية الرسمية للدولة.

انقسمت المحاسبات إلى شقين: شق التصريحات الإعلامية وشق مناصرة مهاجرين/ات أفارقة جنوب الصحراء. وفي الشقين، يقف المرسوم 54 بقبضة من حديد، لإسكات الأصوات المعارضة حتى بلوغ موعد الانتخابات الرئاسية القادمة.

كانت البداية مع المعارضات للنظام، فمثلت شيماء عيسى في 19 و 27 كانون الثاني/ جانفي 2023 أمام الإدارة الفرعية للقضايا الإجرامية ببن عروس، على خلفية حوار إذاعي أجرته في 22 أيلول/ ديسمبر 2022. كانت التهمة: “التحريض بأي وسيلة كانت العسكريين على عدم إطاعة الأمر، وإتيان أمر موحش ضد رئيس الدولة.

كما شملت التهم ترويج ونشر أخبار وإشاعات كاذبة عبر شبكات وأنظمة معلومات واتصال، بهدف الإضرار بالأمن العام والدفاع الوطني”، طبقًا للمرسوم 54 لسنة 2022. وتم إيقافها في 22 شباط/ فيفري 2023، ليفرج عنها في 23 تموز/ جويلية 2023.

وفي 4 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، اعتقلت رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي. إذ كانت بصدد تقديم تظلم لدى مكتب الضبط أمام القصر الرئاسي في قرطاج.

لم تنته حملة الإيقافات والإحالات مع المعارضين/ات، بل أخذ الإعلاميون/ات نصيب الأسد، مثل الصحافية شذى بالحاج مبارك. أصدرت دائرة الاتهام بسوسة بطاقة إيداع بالسجن في حقها في 22 تموز/ جويلية 2023 في قضية انستالينغو. وذلك بتهمة الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة وارتكاب فعل موحش ضد رئيس الدولة وجرائم أخرى.

كما تم الاستماع يوم 24 نيسان/ أفريل 2024 إلى الإعلامية خلود المبروك على خلفية إجراء حوار مع مبروك خورشيد، الوزير الأسبق لأملاك الدولة والملاحق قضائيًا بعدة قضايا حول استغلال النفوذ.

“أتساءل مرات عدة ماذا يجب عليّ أن أفعل ولماذا أفعل ولأجل مَن؟ لأجل المجتمع؟ المجتمع حاكمني وسحلني وهرسلني وشوهني وشارك في حملات ضدي”.

المرسوم 54 والعنف المزدوج ضد النساء

“أصررت على مواجهة وزير الشؤون الدينية وانتظرت منه توضيحات حول التحقيق والذي هو منطلق البحث. لكنني أمضيت 4 أسابيع متتالية أحاسب على تدويناتي في مواقع التواصل الاجتماعي حول تقييمي لعمل الوزير. وهو ما أثر سلبًا على صحتي النفسية وأدائي المهني. إذ لم يقف الأمر عند الشكوى المودعة ضدي. اتهمني الوزير بالاسترزاق والعيش على حساب المنظمات، باعتبار أنني مدربة لدى المفوضية السامية لحقوق الإنسان”، خلود المبروك.

يعتبر المرسوم 54 سيفًا بيد السلطة، لإسكات الأصوات المعارضة كلها. كما توضح عضوة النقابة الوطنية للصحفيين/ات التونسيين/ات أميرة محمد. فالاستخدام المفرط للفصل 24 من نفس المرسوم يزجّ بالصحافيات/ين والناشطات/ين بالمجتمع المدني والمحاميات/ين في السجن.

وتضيف أميرة محمد، أصبحت الكلمة المباشرة وغير المباشرة أو القابلة للتحليل والتأويل قادرة على وضع المواطن/ة في السجن. لا تعترف السلطة سوى بالرأي الواحد والإعلام الواحد والموقف الواحد.

عندما نتحدث عن الصحافيات، فالحملات التي تشن ضدهنّ أكثر من تلك التي تشن ضد الصحافيين الرجال. تهدد النساء بأبنائهن، يتم انتهاك معلوماتهن الشخصية وتتم محاكمتهن لأنهن تحدثن في الشأن العام. تكون الهجمات أقذر وأعنف عندما يكون الطرف المتهجم عليه “صحافية امرأة”.

لا تخوض الصحافيات والناشطات رحلة الضغط الأمني والتضييقات والسحل الإلكتروني بمفردهن تجربة الضغط النفسي. بل تتعرّض الزوجات أيضًا إلى ضغطٍ وإساءة، عندما يكون الزوج معارضًا. سهى، اسم مستعار، تروي لنا مسيرة ثلاث سنوات من الهرسلة والتشويه التي تعرّضت لها.

“تبدأ رحلة الاغتيالات والملاحقة والضغط المعنوي حالما ينتقل التشويه من الشخص إلى عائلته. حرب سيكولوجية هدفها استعمال العائلة والنساء خصوصًا. اخترت ألا أقدم شهادتي في العديد من المرات وأن أبتعد عن الأضواء، رغم أنني أريد أن يكون دوري فاعلًا. أتساءل مرات عدة حول ماذا يجب علي أن أفعل ولماذا أفعل ولأجل مَن؟ لأجل المجتمع؟ المجتمع حاكمني وسحلني وهرسلني وشوهني وشارك في حملات ضدي”.

المرسوم 54 ورحلة البحث عن “العدو الوهمي”

لم تكن الأصوات الناقدة لسلطة الشخص الواحد وحدها ضحية للمرسوم 54. حيث ساهم ملف الهجرة في تحويل وجهة المرسوم إلى جلاد يتربص بأعداء وهميين/ات. والتهمة الجاهزة هي مناصرة حقوق الإنسان، والدفاع عن مهاجري/ات إفريقيا وجنوب الصحراء.

كانت ضحية التصريحات الإعلامية ومساندة المهاجرات/ين في تونس عديد الناشطات والإعلاميات. من هؤلاء الإعلامية والمحامية سنية الدهماني، التي صدرت في حقها بطاقة إيداع بالسجن يوم 13 ماي 2024. وهذا إثر تعليق إعلامي قالت فيه: “شو هاك البلاد الهايلة” – (تونس بلد لا يطيب فيه العيش). وكان التعليق ردًا على الدعاية العنصرية أن المهاجرات/ين من جنوب الصحراء يريدن/ون الاستيلاء على البلاد.

وكانت المحامية والناشطة النسوية ورئيسة فرع صفاقس لـ “الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات” نعمة النصيري التي وافتها المنية يوم 21 ماي 2024 قد تمت دعوتها من قبل النيابة العمومية للاستماع لها يوم 22 ماي 2024 (يوم دفنها)، على خلفية اتجاه مهاجرات لمركز الإنصات بالجمعية لطلب المساعدة.

لم يبق للمهاجرات/ين سوى بعض الجمعيات والناشطات اللواتي تحاصرهن السلطة وتحاول تشويههن بغرض غلق ملف الهجرة. إذ ألقى رئيس الجمهورية قيس سعيد في فيفري/شباط 2023 خطابًا دعا إلى ترحيلهن/م، بذريعة الحدّ من تغيير البنية الديمغرافية للمجتمع التونسي. بعدها، أصبح/ت المهاجرون/ات عرضة لاعتداءات وانتهاكات عنصرية وصلت للقتل. وأصبحت المهاجرات خصوصًا أكثر عرضة للعنف الجنسي.

استهداف حرية التنظيم ونشاط المجتمع المدني

أما رئيسة جمعية “منامتي” سعدية مصباح، فتم إيداعها السجن يوم 16 ماي 2024، واتهامها بوجود شبهة غسيل أموال. كما تم إلقاء القبض على رئيسة منظمة “تونس أرض اللجوء” شريفة الرياحي في 8 ماي 2024، بتهمة تمويل أجنبي. وشملت هذه الإيقافات إشعارات بالتحقيق مع ناشطات أخريات، مثل الإعلامية غفران بينوس، ورئيسة جمعية “دمج” فاطمة الزهراء.

“هناك إيقافات أخرى تمت في صفوف الناشطات/ين في المجتمع المدني، وتم توجيه تهم مختلفة عمّا تم توجيهه للصحافيين/ات. وذلك لانخراطهن/م في العمل الجمعياتي، ومساعدة مهاجرات/ي جنوب الصحراء”. هكذا بدأت أستاذة علم الاجتماع والناشطة النسوية فتحية السعيدي شهادتها حول ملف الهجرة وعلاقته بالتضييقات على الناشطات/ين في المجتمع المدني. وفق شهادتها، فالتهم ثقيلة جدًا، وتتمثل في تبييض الأموال والمساعدة على “توطين” المهاجرات/ين.

تؤثر التهم الموجهة للناشطات/ين في الرأي العام، وتحديدًا عند التقاط صور وهن/م بصدد العمل مع منظمات أجنبية خارج البلاد أو داخلها. فتصبح تهمة “الاستقواء بالأجنبي والخيانة والتخابر على أمن الدولة” أبرز ما يتم تداوله على صفحات التواصل الاجتماعي من قبل أنصار/نصيرات السلطة. تتضاعف التهم ذاتها، عندما تكون النساء في الواجهة. فيصبحن معرضات للمحاكمة الأخلاقية والاجتماعية والذكورية.

إخراس النساء.. دليلك للهروب من المسؤولية السياسية!

المحاكمة العلنية والافتراضية للنساء هي طريقة من طرق عدة تهدف إلى عزلهن عن الفضاء العام. وهي أيضًا تساهم في تقليص المساحات التي يعبرن من خلالها عن مواقفهن.

بحسب الناشطة النسوية أسماء المعتمري، كانت وسائل التواصل الاجتماعي مساحة حرة للتعبير و الوجود والظهور للعديد من الناشطات والنسويات. ذلك أن وسائل الإعلام الرسمية، حسب محدثتنا، إن لم تكن معادية للخطاب والعمل النسوي، فهي تغيبهن و تقصي الشابات منهن عن قصدٍ.

“مجموعتنا المتكونة من نسويات من مختلف التيارات الفكرية السياسية مستهدفة. هذا منذ أعلنا موقفنا الرافض لدستور 2022، و أطلقنا حملة “نساء ضد الاستفتاء”. ومنذ تلك اللحظة، نتعرض مع كل أزمة سياسية للاستهداف والسحل عبر وسائل التواصل الاجتماعي. أضحى التحريض ضدنا و شيطنتنا خبزنا اليومي.

في حقيقة الأمر، نحن مذهولات من كمية الكراهية والعنف. في كل أزمة، تصلنا أخبار عن بطاقات إرشاد وقضايا تحاك ضدنا على خلفية تضامننا مع الصديقات المتهمات بقضايا التآمر أو قضايا الرأي، أو القضايا التي تستهدف جمعيات تعمل ضد العنصرية”.

لا تخفي الشهادات التي قمنا برصدها الإحساس بالعجز والظلم وبالعنف القائم على النوع الاجتماعي. لكنها تبرز أيضًا منظومة أبوية تعاقب النساء وتحاكمهن، وتعود بهن إلى النقمة الأولى وعقدة إخراج حواء لآدم من الجنة.

تُدنّس جنة الشأن العام حالما تكون النساء فاعلات فيه، ويتم تحميلهن مسؤولية العجز الاقتصادي والفشل السياسي واللا استقرار الاجتماعي. هذه نظرة دونية يجتمع فيها الأخلاقاوي والديني والثقافي لإقصاء النساء وإخراسهن.

تجد السلطة منطلقًا للإلهاء من خلال هذه النظرة، وتنتفع من هذا العنف الذكوري الاجتماعي، وتتملّص من المسؤولية والمساءلة السياسية.

كتابة: يسرى بلالي

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد