جيزيل بيليكوت.. اغتصبها زوجها و 72 مغتصب آخر
كلما تصورنا أننا أحطنا بكل أدوات وأنواع العنف الأبوي، يفاجئنا هذا النظام بأنه أنتج رجالًا قادرين على ارتكاب أفظع وأسوأ الجرائم في حق أقرب النساء إليهم.
يظهر هذا جليًا في الجريمة التي صنفت بأنها الأعنف والأكثر وحشية في تاريخ قضايا الاعتداء الجنسي بفرنسا. حيث تعرضت جيزيل بيليكوت، وهي امرأة فرنسية في عقدها السابع، للاغتصاب والانتهاك لمدة عقد من الزمن، على يد غرباء جلبهم زوجها للاعتداء عليها وهي مخدرة.
النظام الأبوي وجرائم الغدر
عاشت جيزيل بيليكوت، البالغة من العمر 72 سنة، قرابة الخمسة عقود مع زوجها دومينيك بيلكيوت. وهو موظف سابق يبلغ من العمر 71 عامًا في شركة مرافق الطاقة المملوكة للدولة الفرنسية EDF. أنجبت جيزيل مع زوجها ولدين وبنت، ولم تكن تتصور أنه سيصبح عرّاب انتهاكها وصدمتها الأكبر.
بدأت الجريمة الوحشية عام 2011، عندما كان الزوجان يعيشان في بالقرب من باريس. حيث شرع دومينيك في نشر عروض على أحد المواقع الإلكترونية من أجل تجنيد عشرات الرجال الغرباء عبر الإنترنت، لاغتصاب زوجته. فكان يستدعيهم لمنزله بعد أن يخدر زوجته حتى تفقد الوعي، ثم يقوم بمشاركتهم في اغتصابها. يصور الاعتداءات وينشرها على الإنترنت المظلم.
استمر دومينيك في جرائمه لمدة عشر سنوات، بعد انتقال العائلة إلى مازان. وهي قرية يبلغ عدد سكانها 6000 شخص على بعد حوالي 33 كيلومترًا (21 ميلًا) من مقاطعة أفينيون.
ليس كل الرجال ولكن جميعهم
خلال عشر سنوات، قام دومينيك باستدعاء 72 رجلاً، وارتكب رفقتهم 92 جريمة اغتصاب في حق جيزيل. ولم يتم كشفه حتى سبتمبر 2020، عندما قبض عليه حارس أمن وهو يصور سرًا ثلاث نساء في مركزٍ للتسوق.
عندما قبضت عليه الشرطة، وفي أثناء التحقيقات، وجدت 20.000 مقطع فيديو وصورة تظهر تصويره لعشرات الرجال وهم يقومون باغتصاب جيزيل، وهي مخدرة وفي حالة غيبوبة تامة. كما عثر المحققون أيضًا على محادثات على موقع يسمى coco، مع غرباء تترواح أعمارهم بين 26 و74 سنة، يدعوهم لاغتصاب زوجته.
شارك جميع من تم توجيه الدعوة إليهم في الاعتداء الجنسي على جيزيل، على الأقل لمرة واحدة. بعضهم ارتكب هذه الجريمة المروّعة لست مرات. كما شارك الزوج المعتدي في عمليات الاغتصاب، وقام بتصويرها وشجع الرجال الآخرين على استخدام لغة مهينة، بحسب المدعين.
كذلك قام الزوج المجرم بارتكاب جرائم اغتصاب جماعية بحق جيزيل، منها إحدى المرات التي اعتدى عليها رفقة ثلاث رجال آخرين.
خلال هذه السنوات، لم يقم رجل واحد، ممَن عرض عليهم دومينيك الاشتراك في هذه الجريمة الوحشية، بالاعتراض على الجريمة أو التبليغ عنها. بل أظهرت التحقيقات أن 70% ممن تواصل معهم وافقوا على الفور، و30% فقط من ترددوا عن المشاركة. واعترف الزوج بأن جميع المعتدين كانوا على علمٍ بأن جزيل مخدرة، وليس كما أدعوا في التحقيقات بأنهم لم يكونوا على دراية.
كما قام الزوج المعتدي، بتصوير عمليات الاغتصاب وتوجيهها. وكان يقوم أثناء نشرها على المواقع الإلكترونية بتزويد المقاطع بوسوم مثل “Her Rapists” و”Abuse” و”My Slut”. وسجل أسماء المعتدين وتفاصيل الأفعال التي ارتكبوها، في أجهزته مما سمح للشرطة بتعقبهم.
ورغم التحقيقات الموسعة والخيوط والأدلة، مثل 51 رجلاً من أصل 72 فقط أمام المحكمة في 02 أيلول/سبتمبر الجاري. بتهمة اغتصاب وتخدير جيزيل، رفقة المجرم دومينيك، بينما يظل 21 معتدي مجهولين الهوية.
الحق في فضح المجرمين
عاشت جيزيل حالة من الصدمة بعد أن علمت بالجريمة المروعة التي كانت ضحيتها لمدة عشر سنوات. حيث ساهم عقار “تيميستا” الذي كان يستخدمه الزوج المجرم سراً لتخديرها، في محو ذكرياتها عن أحداث الاعتداء.
بعد أن علمت بالجريمة، عاشت جيزيل صدمة واضطرابات نفسية صعبة. وأصيبت مراراً بانهيارات عصبية وقيل أنها حاولت الانتحار عدة مرات. ومع ذلك، اختارت الطريق الأصعب على صحتها النفسية وقررت أن تكون المحاكمة علنية.
فقد أعلن رئيس المحكمة روجر أراتا أن جميع جلسات الاستماع ستكون علنية، لكي تُمنح لجيزيل رغبتها في “الدعاية الكاملة” حتى نهاية القضية. وقال أنطوان كامو، أحد محامي جيزيل لوكالة فرانس برس أنه سيتعين عليها “للمرة الأولى، خلال المحاكمات أن تعيش عمليات الاغتصاب التي تعرضت لها على مدى عشر سنوات”، مضيفًا أن موكلته “لا تتذكر” أي شيء عن الانتهاكات التي لم تكتشفها إلّا في عام 2020.
وعندما سُئلت جيزيل في جلسة ما قبل المحاكمة عن شعورها عندما علمت أنها تعرضت للاعتداء من قبل زوجها، الذي يفترض أنه شخص محترم وأنجبت منه ثلاثة أطفال، قالت: “إنه يثير اشمئزازي. أشعر بالتدنيس والخيانة. كان الخبر مثل أن يجرفني تسونامي. أو يصدمني قطار فائق السرعة”.
عقدت جيزيل العزم على فضح المعتدين وتسليط الضوء على جريمة الاغتصاب، والتخدير، والبورن-الإنتقامي، التي كانت هي وملايين النساء ضحايا لها، بسبب ثقافة الاغتصاب والمنظومة العنيفة للنظام الأبوي.
كما عبرت بأن تنازلها عن حق الخصوصية في المحاكمة يهدف لكسر أي محاولة من المعتدين لتبرير أفعالهم أو ايجاد مخرج منها. حيث ستسمح المحاكمة العلنية برؤيتهم وهم يشعرون بالخجل، ليس من فعل الاعتداء الوحشي الذي قاموا به، بل من الفضح أمام الرأي العام.
جيزيل بيليكوت.. ليست الجريمة الوحيدة
وتوصل فريق التحقيق في هذه الجريمة إلى أن المعتدي دومينيك بيليكوت، له تاريخ من القتل والاعتداء الجنسي على النساء. ويعود لما قبل القبض عليه في 2020 بتهمة التحرش واكتشاف جريمته ضد جيزيل. حيث تبين أنه ارتكب جريمة قتل واغتصاب عام 1991، ومحاولة اغتصاب عام 1999، والتي اعترف بها فيما بعد من خلال إثباتها باختبار الحمض النووي.
كما كشفت المحكمة عن مقاطع تظهر أن دومينيك قام بتخدير ابنته والتقاط صور فوتوغرافية لها. حيث كشف المحققون عن ملفٍ في جهازه المحمول يحمل عنوان “أتجول عاريًا بوجود ابنتي”. وعثروا فيه على صور ابنته كارولين داريان، وهي الآن أم في منتصف العمر، مستلقية ونائمة على السرير وهي نصف عارية، وترتدي ملابس أمها، في نمط يكشف عن النهج الإجرامي لهذا المعتدي.
وقال الخبراء النفسيون الذين يتابعون القضية أن تبرير المرض النفسي غير مطروح ضمن الخيارات. حيث أثبتت الفحوص أنه لا يعاني من أي اضطراب يجعله يقوم بهذه الجريمة النكراء. وذكرت وكالة فرانس برس، أن الوثائق التي اطلعت عليها حول القضية تتضمن أقوال للمجرم يقول فيها أنه كان بحاجة إلى الشعور “بالقوة المطلقة” على جسد المرأة.
كما أن المجرم كان متلاعبًا ومدركًا للأدوات الأبوية التي تمكنه من ذلك. حيث اتهم جيزيل بالخيانة بعد أن اكتشفت أنها مصابة بأمراض منقولة جنسيًا. فبعد أن شعرت بتوعك، ذهبت جيزيل لإجراء فحوص وعلِمت بإصابتها بعدة أمراض جنسية.
لم يخطر على بال جيزيل أن تتهم دومينيك بأنه قد يكون المتسبب في إصابتها. لكن الأخير لم يتوانَ عن إشهار الأسلحة الأبوية ضدها، واتهامها بالخيانة.
هذا الفعل يكشف أن معظم المعتدين يعرفون بشكل دقيق نقاط القوة التي يُمكِّنهم منها النظام الأبوي، ويستطيعون من خلالها التلاعب بضحاياهم، بل وجعلهن المجرمات في الصورة.
ليسوا وحوشًا وإنما رجال عاديون
أثارت قضية الاعتداء الوحشي هذه ردات فعل غاضبة في أوساط النساء الفرنسيات. حيث احتجت العشرات منهن أمام المحكمة، ورفعن شعارات تعبر عن خطورة العيش تحت النظام الأبوي بالنسبة للنساء.
كان من بين الخطابات المؤثرة التي تم تداولها في وسائل التواصل الاجتماعي والتصريحات حول الجريمة، هي أن هؤلاء المعتدون بما فيهم دومينيك، ليسوا وحوشًا أو مرضى أو مختلين كما تحاول أن تصورهم الخطابات الأبوية في كل مرة، لكي تقلل من خطورة جرائم الاعتداء الجنسي.
بل هم رجالٌ “عاديون” بالخطاب الاجتماعي، آباء، وأزواج، وشركاء، وأخوة، وذوو مناصب مرموقة، وفاعلون في مجتمعاتهم، وأصدقاء، وأفراد من المجتمع الكبير. رجال يظهرون، كما هو الحال مع دومينيك، بصفتهم شخصيات محترمة ومحبة وأفراد أسر سعيدة ظاهريًا.
لكن المنظومة الأبوية تقوم أول ما تقوم على إنتاج رجال يُمنح لهم الحق في العنف ضد النساء والأشخاص غير المطابقين/ات للجندر. ثم يلقنون عبر مسار سياسي واجتماعي وديني وثقافي، بأن قيمتهم الاجتماعية وقوتهم وسلطتهم مرهونة بممارسة العنف الأبوي وتعزيزه.
لهذا يتداعى خطاب ربط الاعتداء الجنسي بحوادث فردية لوحوش لا ينتمون للمجتمع. حيث تظهر كل جريمة بأنها نتاج خام للمجتمعات الأبوية، التي تُمجِّد العنف الأبوي وتحمي مرتكبيه من المساءلة.
سقطت كلّ مبررات ثقافة الاغتصاب
كانت الجريمة صادمة ليس لأنها معزولة أو فردية، بل لأنها تحطم كل مبررات ثقافة الاغتصاب التي ترفق بأي خبر عن الاعتداء الجنسي.
جريمة تفكك كل مساعي النظام الأبوي في وضع غطاء لجرائم العنف ضد النساء، وخصوصًا جرائم الاعتداء الجنسي. وهي جرائم سُخر فيها النظام السياسي والاجتماعي ووسائل الإعلام واللغة والمنظومة الدينية والثقافية، لكي تكون جريمة تلام عليها الضحية، أو تربط بقيم الرجولة وعدم التحكم في النفس.
كل هذه المبررات تسقط عندما تصل تفاصيل قضية واحدة إلى العلن. تتبدد أسطورة الغرباء الذين يصطادون ضحاياهم في منتصف الليل بسبب ملابسهن ومكان تواجدهن.
فالمجرم هنا هو زوج الضحية، زوجها الذي تتناول معه العشاء كل ليلة دون أن تعرف أنه يدس لها المخدر، كي يجعل جسدها مسرحًا للانتقام والعنف الذكوري. زوجها الذي كانت تصفه بالمحترم والمحب، وتأتمنه على نفسها وأولادها وابنتها. وأسست معه بيتًا تظن أنه ملجأ من الخوف والخطر.
لم يصطاد الغرباء ضحيتهم من شارع مظلم، بل كان زوجها من عرض الجريمة عليهم. لم تستطع جماهير النظام الأبوي أن تلقي باللوم على الضحية لأنها كانت مخدرة. وكشف أخصائيون أن المخدر يتركها في حالة أقرب للغيبوبة.
كانت كل تفصيلة في هذه الجريمة تظهر حقيقة النظام الأبوي. نظام سيطر على جميع مجتمعات العالم، فأنتج أشخاصًا قادرين على إلحاق أسوأ أنواع الأذى بأقرب النساء إليهم.
نظام أنتج رجالاً يتكاتفون لارتكاب العنف، يتفقون على الاغتصاب الجماعي، ويتوارون خلف أقنعة الرجولة. يتقوون بمكانة صنعها لهم نظام أبوي، فربط أفعالهم بالقداسة، وقيمهم بالعنف، وروابطهم بالغدر والتآمر على النساء. دروس من التاريخ.
يُتَوقع أن تستمر القضية في أروقة المحاكم لأربعة أشهر، على أن تظل المحاكمة علنية، وتتواصل التحقيقات لكشف المزيد من الخيوط.
ورغم الغضب الذي أثارته هذه الجريمة، وانتقالها لقضية رأيٍ عام، وانحياز النظام القضائي والأمني لصالح الضحية جيزيل، إلا أن الأمل في أن تؤثر على البنى الأبوية في المجتمع والنظام السياسي والقضائي الفرنسي يظل مستبعداً. فرغم كل الدلائل التي كانت واضحة منذ سبتمبر 2020، احتاج النظام القضائي لأربع سنوات كي يبت بشكل مفصلي في القضية.
أربع سنوات ارتكبت فيها جرائم اعتداء جنسي لا تقل فظاعة. واستمر فيها المجتمع والقضاء والنظام السياسي، في التعامل مع جرائم الاعتداء الجنسي بأنها جرائم فردية ولا تتعلق بسيادة النظام الأبوي.
يخبرنا التاريخ بأن مواجهة عنف النظام الأبوي لن تكون ممكنة سوى بتدمير جذوره. وكذلك هو الحال مع جرائم الاعتداء الجنسي، فثقافة الاغتصاب متجذرة بعمق، وتمكّن المعتدين من الاستمرار في جرائمهم، حتى عندما تهتز المجتمعات على وقع جرائم مثل هذه.