امرأة تحاول تلقين ابنتيها معاني الخسارات

كنت أبكي عندما دخلت ابنتاي غرفتي، لم أشأ إشاحة وجهي عنهما، ولم أكذب حين سألتا عن السبب.

كنا قد تشاركنا معًا خبر تأهّلي إلى مستوى متقدم في مسابقة أدبية شاركت فيها، فلماذا أخفي عنهما اليوم تعثري في بلوغ مرحلتها النهائية؟

بناءً على ما اصطفيته من تجارب ومعلومات، وتعريف أوردته المختصة التربوية غزل بغدادي لعملية التربية الواعية بأنها “إدراك المربي بأنه يربي إنسانًا جاهزًا لمواجهة المجتمع الخارجي”، أبحت لنفسي مشاركة معظم التفاصيل الحياتية مع ابنتيّ اللتين تبلغ أكبرهما 7 أعوام وأصغرهما 6 أعوام، وتحديدًا تلك التفاصيل التي تظهر على شكل أبواب تمرر الحديث نحو سراديب مخفية.

“أميل نحو المشاركة، مشاركة الخسارة كما مشاركة الربح، وأعتبر ذلك جزءًا من واجباتي تجاه ابنتيّ، وحقًّا من حقوقي بأن أظهر بهيئة الإنسانة الخطّاءة غير المعصومة عن الفشل أو الهزيمة في نزالاتها الخاصة.

فالتجارب اليومية تمنحنا فرصًا للتواصل والحديث، وتفتح أمامهما نوافذ المنطق، فتكوّنان بذلك نظرةً واقعية عن عوالم الكبار بعيدة عن عبارات مثالية تُمرر إليهما ببرود لا يقنعهما، وأخرى صادمة تسمعانها خلسة من أحاديثنا فتتبنيانها بشكلٍ أعمى، كما فعلت مع عبارة “الحياة صعبة وكلها تعب ومشاكل” التي تبنيتها منذ طفولتي.

أحكي لابنتيّ بشكلٍ يوميّ مواقف مررت بها، مشكلاتٍ أظن أنني تعاملت معها بحكمة، وأحرص على التأكد من استلامهما الرسالة التي قصدت إيصالها عبر تمرير الموقف. لا أدّعي المثالية، وأقرّ أنني في بعض الحالات أفضل تأجيل الحديث حتى أستعيد توازني الهش، وفي حالات أخرى أتحفّظ على القول، وكم من المرات التي ندمت فيها عندما جاءت تبعات الحديث على شكل وابلٍ من الأسئلة التي وجدت صعوبة في إيجاد كلمات ومزاج للإجابة عنها!

ولكنني ورغم كل ذلك أميل نحو المشاركة، مشاركة الخسارة كما مشاركة الربح، وأعتبر ذلك جزءًا من واجباتي تجاه ابنتيّ، وحقًّا من حقوقي بأن أظهر بهيئة الإنسان/ة الخطّاء/ة غير المعصوم/ة عن الفشل أو الهزيمة في نزالاته/ا الخاصة.

أفعل ذلك بحذر من يفكّك لغمًا، لئلا أزعزع شعورهما بالأمان أو أسرّب إلى أنفسهما القلق، وكل ذلك من أجل أن أزيل هالة القدسية التي يرسمها الأطفال/الطفلات ببراءة حول ذويهم/ن، والتي قد يسحبها/يسحبونها فيما بعد باتجاه أشخاص آخرين (كالقادة مثلاً) فيصُدمن/ون بزيفها فيما بعد أو ينكرنه/ينكرونه.

 

إن من يَخْتبر حياتنا كأمهات، يدرك كيف تتحول لحظاتنا بخفّة بين وجوه مركّبة، وكيف نضطر إلى أداء الدور ونقيضه في مشهدٍ واحد. قبل دقائق كنت أنتحب مثل طفلة أسقطت لعبتها في الطين، وفي غضون ثوانٍ -تحديدًا بعد أن طلبت البنتان مني التأكد من صحة الخبر مرة أخرى كما كنت أفعل قبل دخولهما- صرت اليد المطبطبة على كتفيّ وأكتافهما حين لمحت تعابير خيبة الأمل في عيونهما، وتبدد الأحلام التي رسمناها معًا للاحتفال بالفوز العظيم.

“الفشل قد يكون بمثابة اختبار للأهلية، فإما أن يثبط عزيمة المرء أو أن يشحذ همّته لمحاولات تالية”.

في تلك اللحظة تداعت إلى رأسي مراحل الحزن التي ذكرتها الباحثة والطبييبة النفسية إليزابيث كوبلر روس في كتابها “عن الموت والاحتضار”، ورغم أن حديث الكاتبة كان عن موت الأشخاص، إلا أنه كان ناجعًا في توصيف موت الأحلام أيضًا. فالحزن هو الحزن، وها هو يبدأ كما وصّفته بالإنكار ثم سنشهد كيف يتتالى نحو الغضب فالمساومة فالاكتئاب ثم القبول أخيرًا.

ولأننا -نحن الأمهات- مضطرات دومًا إلى ترقّب الريح والتفرغ آنيًّا لأجل أن ندير دفة الحديث، واغتنام الصدف التي قد لا تتكرر بسهولة، فيفوت أوان استغلالها بانقضاء المواقف. تركت الدمع يتدفّق على وجهي بينما أحدثهما عن ضرورة المرور بالفشل كمرحلة لا بد منها من مراحل نجاح لاحق، الفشل الذي قد يكون بمثابة اختبار للأهلية، فإما أن يثبط عزيمة المرء أو أن يشحذ همته لمحاولات تالية.

وعندما جاءت مرحلة السؤال عن متأهلين/ات أعرفهم/ن كانت إجابتي بأنني أعرف متسابقًا واحدًا فقط من بين مئات المشاركين/ات، وقد تعثر مثلي هو الآخر، عندها لمحت ارتياحًا في عيونهما كالذي شعرت به! إنها متلازمة الشماتة شادن فرودو الطبيعية الفطرية، والمصنفة كواحدة من الآليات الدفاعية النفسية، لكنني قّدرت أن وقت الحديث عنها لا يزال مبكرًا.

لم أفاجأ حين اقترحت الكبرى أن أتوقف عن المشاركة في هذه “المسابقات السخيفة”. في الحقيقة، كنت أقول هذا لنفسي قبل مجيئهما، وأخبرها أنها ليست مضطرة إلى إلقاء لحمها الطريّ بين أنياب المزيد من الاحتمالات. لكنني لا أدري كيف وجدت نفسي أرافع أمامهما عن العمل الذي تقدمت به بأنه قد لا يكون بالضرورة ناقص الكفاءة، ثم أتحدث عن اختلاف الأذواق والمعايير، وتفوّق التجارب المنافسة أيضًا، الأمر الذي أفضى مرة أخرى إلى الاعتراف بالخسارات، بوجودها الحتميّ في حياتنا، وضرورة مراكمتها وتسلقها إلى أن تفضي بنا نحو فوهة الحفرة.

تحدثنا عن العمل الفائز وعن نجاحات الآخرين، عن الجبال الجليدية التي نرى قممها الشامخة فقط ونغفل عن قواعدها الضخمة المغمورة في مياه التبدلات والسكوت، وخضنا بعدها في الشجاعة وشرف المحاولة، ولذّة ركوب أفعوانية صعود وهبوط الأدرينالين، تسارع وتباطؤ ضربات القلب، وسأم التواجد دومًا على الخط الشعوريّ المستقيم.


ورغم كل ذلك، لم أستطع كظم غيظي حين كررتا عبارة “أنت خسرتِ” في معارض حديثهما. شيء ما -ربما الكرامة- دفعني لأن أصحح لهما، وأصحح لنفسي أيضًا، أن عدم الربح ليس معادلًا للخسارة، وأن في كل موقف فرصة لأن نتوقف ونصيخ السمع للحياة، فنعرف ماذا تريد أن تقول لنا وبأي اتجاه تريد لنا أن ننمو.

أخبرتهما أن الحياة تقول لي “تابعي، تعلمي، أنت تحاولين لكنك تحتاجين إلى بذل المزيد من الجهد”، لقد حرصت على إظهارها بهيئة معلمة لطيفة لا يقنعها شيء سوى الاستمرار في المحاولة، أكثر من كونها جلادًا يطاردني بالسوط. ربما لم تكن جلّادة يومًا، وربما أن مشكلتي الوحيدة كانت على هيئة طفلة لم يعلّمها أحد المعنى الحقيقي للخسارة، بل بُرمج تفكيرها على أن “غلطة الشاطر بألف”، وأن زلة واحدة تنسف آلاف الخطى الصائبة، وأن الفشل عار يجب وأده والتعامل معه بحزم وسخط. لكنني بذلت جهدًا عظيمًا لأجل أن أقول لنفسي ولهما أننا ندين لأنفسنا بالشكر على كل محاولة حتى لو لم يكتب لها أن تتكلل بالظفر.

لقد مضت أشهر على هذه الحادثة، حرصت بعدها أن تكون ابنتاي شاهدتين على محاولاتي التالية، وشريكتين لي في الانتظارات. شربنا أنخاب انتصاراتنا أحيانًا، وتبادلنا الصمت والمواساة في أحيان أخرى، إلا أنني لا أستطيع أن أخفي سعادتي في كل مرة تحتضنني أذرعهما الصغيرة، وتتسرب كلماتهما الداعمة إلى أذني.

أفكر بأنهما ستكونان ألطف مع نفسيهما مما كنت مع نفسي، وأمهر في إظهار التعاطف والدعم للآخرين، حينها وحينها فقط أتيقّن أن بعض الخسارات ربح.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد