“ما قصدت شي”.. تحرّش مغلّف بلغة المجاملة

لكلٍّ منّا قصّة مع التحرّش، وبالأخص التحرش اللفظي. لا نقول ذلك على سبيل التعميم، بل لأنّه واقع يتكرّر بصورٍ مختلفة يصعب تجاوزها.

في بلادٍ تجرّم التحرّش على الورق، يخرج المتحرش من كل واقعة بمبررات أقبح من الاعتداء ذاته: “مش هيك قصدي”، “فهِمتي غلط”، “نيّتك مش صافية”. فتتحوّل التهمة من المعتدي إلى الضحيّة/ الناجية، فقط لأنّها تكلّمت، تصدّت، ولأنها لم تصمت.

من منّا لا تحتفظ في ذاكرتها بكلمةٍ واحدة على الأقل قالها لها متحرّش؟ كلمة قد تبدو عابرة، لكنها مشحونة بإيحاءٍ مقصود، جارح، ومهينٍ. لحظةٌ كهذه تزرع فينا صراعًا داخليًّا مؤلمًا: “معقول أنا فهمت غلط؟”، “يمكن ما كان يقصد”، “مش معقول شخص محترم يقصد هيك”، والكثير من التبريرات التي نجلد بها أنفسنا هربًا من المواجهة أو خوفًا من مغبّة اللوم والوصم.

يبدأ العقل الدفاع عن نفسه بالإنكار، وهي آلية بديهية للحماية من الصدمة، خاصة حين يكون المتحرّش شخصًا نعرفه، أو نثق به، أو نعتبره مقرّبًا. لكنه، ببساطة، كان ينتظر اللحظة المناسبة ليتسلل من بوابة الثقة، ويُظهر وجهًا لم نرَه من قبل.

“بدي أعرف ليش موجوعة”

بهذه الكلمة تختصر زينة (اسم مستعار) حادثة ما تزال تؤلمها كلما تذكرتها. كانت تتردّد إلى عيادة طبيب عظام “مشهور”، يُعرف بسمعته الطبية التي توحي بالثقة.

مستغلًا موقعه وسلطته البيضاء، بدأ الطبيب بطرح أسئلة عن حياتها الجنسية، وتحوّلت المريضة إلى ضحية في موقف هشّ، عاجزة عن الدفاع عن نفسها.

في البداية، بدا كل شيءٍ اعتياديًا، إلى أن بدأ الطبيب بطرح أسئلة “طبية” بنبرة غريبة ولهجة تحمل ما لا يُقال. شعرت زينة بعدم الارتياح، لكن شيئًا في داخلها قاوم ذلك الشعور، محاولًا طمأنتها: “إنه طبيب، لا بد أن تكون هذه الأسئلة روتينية”.

لكن مع الوقت، شعرت بأنه يفرض نوعًا من السيطرة النفسية عليها، مستغلًا موقعه وسلطته البيضاء. ما لبث أن بدأ بطرح أسئلةٍ جريئة ومباشرة عن حياتها الجنسية، دون أيّ مبررٍ طبيٍّ واضح. حين اعترضت، مستنكرة هذا التعدّي على خصوصيتها، جاء ردّه باردًا، متحرّرًا من أي مسؤولية: “بدي أعرف ليش موجوعة”.

بجملةٍ واحدة، حوّل معاناتها الجسدية إلى مبرّر لانتهاكها النفسي. وتحوّلت هي، في لحظة، من مريضة تطلب العلاج، إلى ضحية في موقف هشّ، عاجزة عن الدفاع عن نفسها سوى بالانسحاب، محمّلة بالألم والخذلان.


في حالاتٍ كهذه، لا تقتصر سلطة الطبيب على المعرفة الطبية، بل تمتد إلى موقع اجتماعي يمنحه نفوذًا شبه مطلق، ما يجعل التشكيك أو الاعتراض صعبًا ومعقدًا. وغالبًا ما تشعر الناجية بالذنب لمجرد الشك بسلوك الطبيب، وتعيش حيرة مؤلمة: هل ما تعرّضت له تحرّش فعلاً أم مجرد سوء فهم؟ هذا الالتباس بالذات هو جوهر “التحرّش المبطن” في العلاقة الطبية – حيث يُمارس الانتهاك تحت غطاء الثقة والمهنة، وتُسكت الضحية بفعل السلطة.

كثيرات مثل زينة يخرجن من العيادات مرتبكات، غير واثقات مما حدث، وغير قادرات على البوح أو التبليغ، في ظل غياب المحاسبة أو حتى الاعتراف بأن ما تعرّصت له هو تحرش.

“ما تخافي، مرتي مش رح تعرف”

تتذكّر مايا (اسم مستعار) تلك المرحلة من حياتها بمرارة. كانت في الثامنة عشرة من عمرها، في بداية تفتّحها على العالم، وكان جارها في الأربعينات، يكبرها بسنين كثيرة. “كل ما بدّو يحكي معي، كانت نظراته تروح مباشرة على صدري وخصري”، تقول مايا، واصفةً شعور الخوف والاشمئزاز الذي كان يتملكها كلما قابلته.

“وين مايا؟”، يناديها والدها لتحيي “عمو”، على اعتبارها لا تزال صغيرة.

بدأت تحاول إخفاء جسدها بيديها، أو إدارة وجهها أثناء الحديث معه، كي لا ترى تلك النظرات التي كانت تخيفها. “كنت حسّه متل بيي، وقلّه ‘عمو’، بس عيونه ما كانت أبدًا عيون أب”، تتابع. كان يهمس بكلماتٍ غير مفهومة حين يصادفها وحدها على الدرج، فتُسرع الخطى خوفًا من أن تفهم!

الازدواجية كانت قاتلة. ففي العلن، كان يجلس مع والدها كصديقٍ مقرّب، يسأل عنه وعن العائلة، ثم يضيف: “وين مايا؟”، فيناديها والدها لتحيي “عمو”، على اعتبارها لا تزال صغيرة.

لكن نظراته لم تكن بريئة. ظلّ يتمادى بصمته، حتى جاء اليوم الذي دعاها فيه لفنجان قهوة، مطمئنًا إياها بكلمات لن تنساها: “ما تخافي، مرتي مش رح تعرف.”

بهذه الجملة، سقط القناع. وانكشفت نيّته التي طالما خبّأها خلف ابتسامات مزيّفة ونظراتٍ مسمومة.

الصمت لم يكن يومًا حيادًا، بل استمرارًا للعنف.

“أنتِ كتير قوية”

“منذ صغري، كان يُقال لي إنني أمتلك شخصية قوية. كنت أفرح بهذه الصفة، وأشعر بالفخر. أن تكون شخصيتي قوية يعني أنني قادرة على الدفاع عن نفسي ومن حولي”، تقول إيفا (اسم مستعار). و”عندما كبرت، استمرّت هذه العبارة تُقال لي، لكن في سياقات مختلفة”.

تتابع: “في إحدى المرّات، كنت أحتسي القهوة مع شخص أبدى إعجابه بشخصيتي، وأبدى رغبة في التقرب والتعرف إليّ أكثر. بدا اللقاء عاديًا، حتى اللحظة التي ختم فيها حديثه بجملة استوقفتني: ’أنتِ كتير قوية.’”

لكن وقع الجملة هذه المرة لم يكن كالسابق. “لم يكن فيها تقدير أو إعجاب. كانت مصحوبة بنظرة وإيماءة لا يمكن فصلها عن الإيحاء الجنسي. شعرت أنه انتهك شيئًا بي بكلمة اعتدت أن تحمل لي القوة، لا التعدي”.

حين استوضحت إيفا عن مقصده، “لم ينكر، بل أقرّ أنه يقصد الجانب الجنسي من شخصيتي ’القوية، وتابع ببرود: ’ما نحنا كبار.” لم يشعر بأي حرج، كأن ما قاله طبيعي أو مسموح، بذريعة أننا ’راشدون’”.

منذ ذلك الوقت، أصبحت تلك الكلمة – “قوية” – منفّرة. لم تعد تحمل القوة، بل الذكرى، والخذلان.

“متل اللعبة”

تقول نادين (اسم مستعار): “لطالما شعرت بريبة تجاه خيّاط حيّنا الستيني، دون سبب واضح. مجرّد إحساس يرافقني منذ الطفولة، ربما لأن هناك حادثة قديمة أنكرتها مرارًا، ورفضت الاعتراف بوجودها”.

كانت في الثامنة من عمرها عندما اصطحبتها والدتها إلى الخيّاط لتضييق بنطال. “خلال أخذ المقاسات، لَصق جسده بي بطريقةٍ أربكتني، فوقفت من دون حراك، من دون أي ردّة فعل. لم أصرخ، لم أبكِ. لم أفهم ما حدث، سوى أنه لمسني تحت ذريعة القياس”، تسترجع نادين ما حاولت تجاهله والتنكر له لوقتٍ طويل.

لم أصدّق أنني أسمع هذا الكلام، من رجل افترضت أنه في عمر والدي. لكن ردّه جاء أكثر استفزازًا:

’عيب يا عمو، أنا متل بيّك، ما قصدي شي.’”

“مرّت السنوات، وكبرت، لكنني بقيت أتحاشى زيارة الخيّاطين، وكأن شيئًا عالقًا في الذاكرة يرفض أن يُمحى”.

تتابع:

“ما لم أتوقّعه هو أن أعيش تجربة مماثلة بعد أكثر من عشرين عامًا. كنت في الثلاثين من عمري، وذهبت إلى متجره الصغير لتضييق بنطال. هذه المرة، وضعت بنفسي العلامة التي تُحدّد ما يجب تضييقه. لم يكن هناك حاجة للمس أو للقياس.

نظر إليّ مطوّلًا، وكأنّه يدرّب نفسه داخليًا على ما سيقوله. ثم تفوّه بجملة صدمتني: ’بتعرفي إنك متل اللعبة؟ خرج الواحد يحطّك على التخت ويدلّعك.’

شعرت بالذهول. لم أصدّق أنني أسمع هذا الكلام، من رجل افترضت أنه في عمر والدي. واجهته بغضب، صرخت، ووبّخته بشدّة. لكن ردّه جاء أكثر استفزازًا: ’عيب يا عمو، أنا متل بيّك، ما قصدي شي.’”

في تلك اللحظة، طفت كل الذكريات والمشاعر المخزّنة على السطح: الحادثة القديمة، الشعور بالريبة، النفور من الخياطين، حتى سيطر على نادين سؤال مؤلم: “هل أنا أجذب المتحرّشين؟”

تحرش مبطّن.. سيطرة وإخضاع وإهانة ممنهجة

في مقابلة مع معالجة نفسية متخصّصة في قضايا العنف ضد النساء لمنصة “شريكة ولكن”، أشارت إلى أن التحرش اللفظي يتجاوز كونه مجرّد كلمات مزعجة، إذ أنه “فعل يهدد الأمان الشخصي للنساء ويُشعرهن بأن أجسادهن متاحة للتعليق والتقييم، دون إذنهن”.

وأشارت إلى أن “النساء اللواتي يتعرضن لتحرش لفظي، خصوصًا من رجال في مواقع سلطة أو ممن يُفترض بهم أن يكونوا ’آمنين’، غالبًا ما يعانين من تشنجات عضلية مزمنة، اضطرابات في الدورة الشهرية، نوبات هلع، وشعور دائم بالتوتر أو بالذنب، حتى لو لم يكن هناك تماس جسدي مباشر. لأن الكلمات تُخترق النفس وتستقر في أماكن لا تُرى، لكنها توجع”، كما تقول.

وأضافت: “ما يجعل التحرش اللفظي أكثر خطورة هو أنه مُقنّع، وغالبًا ما يُغلف بالمداعبة أو المجاملة، ما يدفع الضحية/ الناجية إلى الشك في نفسها وترددها في وصف ما حصل كتحرش صريح.” وتلفت إلى أن الكثير من النساء يُجبَرن على التعايش مع التحرش اللفظي في بيئات العمل أو ضمن العلاقات الاجتماعية خوفًا من اتهامهن بـ”المبالغة” أو “سوء الفهم”.

كما أكدت أن التحرش اللفظي “يُمارَس كأداة للسيطرة وتذكير النساء بموقعهن المُهدَّد دائمًا في الحيز العام، وأن أجسادهن ليست ملكًا لهن بالكامل”.

فـ“حتى اللغة التي تُستخدم في هذا النوع من التحرش ليست عشوائية، بل تحمل رسائل واضحة عن الرغبة، الإخضاع، الإهانة أو الإغواء القسري، وغالبًا ما تُسقط على المرأة مسؤولية الاستجابة أو الصمت”، تضيف.

واختتمت: “مواجهة التحرش اللفظي لا تبدأ فقط بالرد عليه، بل أولًا بأن تعترف المرأة لنفسها أن ما حدث ليس ‘عاديًا’ ولا يجب السكوت عنه، وأنها ليست مسؤولة عن ما قاله أو فعله المتحرش، مهما حاول أن يُحمّلها اللوم”.

الصمت لم يكن يومًا حيادًا، بل استمرارًا للعنف.

في الختام، ما بين الطفلة التي تجمدت في مكانها بينما كان الخياط “يأخذ المقاسات”، والشابة التي تغلّفت الإيماءات الجنسية نحوها بجملة “أنتِ كتير قوية”، والفتاة التي طُلب منها أن “لا تخاف، لأنو مرتو مش رح تعرف”، تتكرّر القصة بصيغ مختلفة، لكن الأذى واحد.

التحرش اللفظي ليس حدثًا عابرًا يُنسى مع الوقت، بل فعل عنيف مقنّع، يزرع في الجسد والنفس شعورًا بالريبة، بالخوف، بالتلوث، أو بانعدام القيمة. الكلمة هنا لا تكون مجرّد صوت، بل تُمارِس سطوة، وتفرض سلطة، وتشكّل تهديدًا غير مرئي لكنه محسوس في كل خلية.

ما تؤكده شهادات النساء، وما تشرحه لغة العلم، هو أن التحرش اللفظي يُشكّل بدايةً لسلسلة عنف قد تتطوّر، ويصعب كسرها إن لم نُسمِّها باسمها. أن تقول الضحية/ الناجية “أنا موجوعة” ليس ضعفًا، بل وعي. أن تصرخ بوجه “عمو” أو “الطبيب” أو “الزميل” هو استعادة لما سُرق منها لحظة الصمت الأول.

في مجتمعٍ ما يزال يُحمِّل النساء مسؤولية تلقي العنف، تكتسب الشهادات الشخصية قوّتها من قدرتها على كسر العزل، وعلى فضح الواقع المغلّف بالمجاملات والتبريرات. لأن الصمت لم يكن يومًا حيادًا، بل استمرارًا للعنف.

 

كتابة: فاطمة البسّام

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد