
“بياناتي مباحة للجميع”
تسريب بيانات المُبلِّغات عن العنف الإلكتروني في مصر يُعرّض حياتهن للخطر
يتناول هذا التقرير، من إعداد شبكة أريج للصحافة الاستقصائية، تسريب بيانات فتيات ناجيات من العنف الإلكتروني، من محاضر الشرطة المصرية، بعد أن قدّمن بلاغات ضد مبتزين ومتحرشين إلكترونيًّا؛ ما جعلهن عرضة لوصول هؤلاء إلى عناوينهن وتهديدهن، الأمر الذي يجعل فتيات كثيرات يترددن في إبلاغ الشرطة عما يتعرضن له من عنف إلكتروني.
“حسيت إن بياناتي هتكون مباحة للكل، لو عملت محضر”، عبارة ترددت كثيرًا على لسان ناجيات من العنف الرقمي في مصر؛ إذ لا توجد ضمانة حقيقية تمنع تسريب بيانات المُبلِّغات عن الانتهاكات الرقمية التي يتعرضن لها. قد تكون الفتاة وأهلها محل ابتزاز أو تهديد عند معرفة الجاني ببياناتها، لتستمر دائرة التهديد والابتزاز التي تعرضت لها سابقاً بدلاً من إيقافها.
ذات يوم، وجدت نادية (اسم مستعار) نفسها مُضافة إلى دردشة جنسية جماعية عبر فيسبوك باسم sex education. ظنت أن ذلك تمّ بالخطأ. خرجت فورًا من المجموعة وحذفت المحتوى الذي تم تحميله أتوماتيكيًّا (تلقائيًّا) على هاتفها.
بعد ذلك، وجدت نفسها ضحية عملية ابتزاز وتهديد من شخص ما؛ فإما أن تعطيه أموالًا، أو يُحرّك عدد من الشباب دعوى ضدها، بادعاءات “كاذبة”. لم تكن تعلم أن تلك هي إحدى أشهر طرق اصطياد الفتيات رقميًّا، التي أوضحها لنا خبير الأمن السيبراني أحمد حجاب. فالروابط المزيفة، أو عروض السفر المجانية، تتطلب إدخال بيانات شخصية؛ كلها وسائل يتمّ بعدها اختراق هاتف الفتاة أو حساباتها بمواقع التواصل الاجتماعي، أو ابتزازها بالبيانات للعمل الجنسي، مثل: إرسال صور، أو فتح الكاميرا، أو تسجيل فيديو بغرفة نومها.
استمر تهديد نادية بإبلاغ أهلها إن لم تدفع المبلغ المطلوب. ورغم خوفها الشديد، رفضت التفاوض والابتزاز. لكنّها في الوقت نفسه لم تستطع الإبلاغ في محضر رسمي عن محاولة الابتزاز تلك؛ إذ لا توجد حماية لبياناتها في أيّ مرحلة بعد البلاغ، من بداية التحقيق وحتى صدور الحكم. تقول نادية: “حسيت إن بياناتي هتكون مباحة للكل، لو عملت محضر”.
تغاضيها عن التهديد وحظرهم لها أبعدهم عنها، ليبحثوا عن ضحايا جدد.
فراغ تشريعي
بعد ضغوط عديدة من مؤسسات المجتمع المدني، وافق مجلس النواب على إصدار قانون حماية البيانات الشخصية رقم 151 لسنة 2020.
لكنّ القانون يفتقر إلى مواكبة المعايير العالمية لحماية البيانات، لا سيّما “اللائحة العامة لحماية البيانات الشخصية GDPR” -وفقًا لورقة بحثية لمهارات، وهي مؤسسة تعنى بتعزيز حرية التعبير وتطوير الإعلام في لبنان والعالم العربي- كما أنه مليء بالثغرات التي تسمح بتسريب البيانات، ما يعرض الأشخاص للخطر، خاصة المُبلِّغات عن الانتهاكات الرقمية.
المواد التي أُلحقت كتعديل على قانون الإجراءات الجنائية (150 لسنة 1950) في أيلول/سبتمبر 2020، تحظر الكشف عن بيانات المجني عليهن في جرائم التحرش والاغتصاب وهتك العرض، إلا “لذوي/ات الشأن”، دون تحديد هوية “ذوي/ات الشأن”.
وعن ثغرات القانون، يقول المحامي حسن الأزهري، المدير التنفيذي لمؤسسة مجتمع التقنية والقانون (مسار) -وهي مؤسسة حقوقية مصرية معنية بتعزيز الحقوق الرقمية والحريات المرتبطة بها- إن القانون أغفل حماية خصوصية المبلِّغات/ين والشهود بشكلٍ عام، مضيفًا أن الحماية لها أشكال كثيرة، منها: عدم تسريب البيانات، وعدم الملاحقة، وتوفير حماية خاصة في حال وجود تهديد حقيقي للحياة، وطمس البيانات أو تسويد جزء منها في حال المحاكمة العلنية.
وتحدث الأزهري عن وجود مشروعات بقانون لحماية المُبلِّغات/ين والشهود قُدّمت للبرلمان منذ عام 2013، كمقترحات من عدة مؤسسات، منها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ومؤسسة قضايا المرأة المصرية، ورغم مناقشة تلك المشروعات برلمانياً أكثر من مرة، لم يصدر القانون حتى الآن.
وأكد ضرورة وجود أداة تنظيمية واضحة للسرية، والحماية، والموثوقية، وعدم التعرض، وضمان الحماية في مراحل القضية كافة؛ بدءًا من الإبلاغ، ومرورًا بالتحقيق، حتى المحاكمة.
كذلك في ورقتها البحثية “سرّي جدًّا”، تؤكد مؤسسة “بنت النيل” أن المواد التي أُلحقت كتعديل على قانون الإجراءات الجنائية (150 لسنة 1950) في أيلول/سبتمبر 2020، تحظر الكشف عن بيانات المجني عليهن في جرائم التحرش والاغتصاب وهتك العرض، إلا “لذوي الشأن”؛ لكنّ التعديل لم يحدد هوية ذوي الشأن، ولا البيانات التي يمكن حجبها لتحقيق غرض التشريع في حماية الشاكية أو الشهود.
الابتزاز الجنسي يطال الأطفال
ندى، شابة عشرينية، تعود بذاكرتها عدة أعوام، حينما كانت في الثانوية العامة، وكان لها جار مراهق جامعي، يمتلك شبكة إنترنت منزلية، طلبت مساعدته للحصول على خدمة الإنترنت، فأخذ هاتفها بحجة مواءمته مع الشبكة. بعدها فوجئت بصورها من دون حجاب، التي كانت على هاتفها، تُرسل إليها عبر الواتساب. وبعد عامين، وجدت صورها تُرسل أيضًا إلى عدة أشخاص في منطقتها السكنية.
“رغم مرور سبع سنين، لكن مش هقدر أخد أيّ رد فعل، لأن والدي هيدفنّي”.
بدأت ندى بتلقي طلبات جنسية. ذات مرة، طلب منها أحدهم أن تزوره في بيته، وإلا سيرسل صورها إلى آخرين. ورغم خوفها، هدّدته بإبلاغ الشرطة. تعلم ندى أنها لن تستطيع فعل ذلك، تقول: “رغم مرور سبع سنين، لكن مش هقدر أخد أيّ رد فعل، لأن والدي هيدفنّي”.
كما أشارت إلى أن إبلاغ الشرطة لن يخدمها بأيّ حال: “أكيد أهل الولد لو بلّغت هيوصلوا لأهلي، عشان ترضية، أو للتهديد”.
وهذا ما حدث مع أميرة (اسم مستعار)، التي أبلغت الشرطة عن شخص تحرش بها، وتركت عنوان منزلها وبياناتها الشخصية في محضر الشرطة. لكن في اليوم التالي، وجدت أميرة عائلة المتحرش يتواصلون مع عائلتها للتنازل. وبعد ضغوط شديدة، ورغم تمسك عائلتها في بادئ الأمر بحقها، رضخوا في النهاية وتنازلت أميرة عن المحضر. تقول أميرة: “عرفت إن بياناتي تسربت من المحضر لما لقيتهم وصلوا لعنواني”.
بين الورق والتطبيق
اليونسكو تُعَرّف البيانات الشخصية بأنها “أيّة معلومات تتعلق بشخص معيّن وتتيح التعرف عليه، إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة، استنادًا إلى تلك البيانات بحد ذاتها أو من خلال اتخاذ إجراءات ممكنة ومعقولة”.
كما ترتبط البيانات بمفهوم الخصوصية في المادة “17” من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي وقعت عليه مصر في آب/أغسطس 1967، وصدّقت عليه في كانون الثاني/يناير 1982، ولم تُبدِ تحفظًا على المادة.
صدّقت مصر في عام 2003 على المواثيق الدولية، التي تكفل حماية الشهود والمبلِّغات/ين وذويهن/م، ومنها تغيير محل الإقامة، كاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة لعام 2000. ورغم ذلك، لم تقر مصر قانونًا واحدًا -حتى الآن- يحمي الشهود والمبلِّغات/ين باستثناء المادة 113 مكرر من قانون الإجراءات الجنائية الصادر عام 1950، ولم تتطرق إلى الجريمة الإلكترونية، رغم مطالبات عدة مؤسسات من المجتمع المدني، مثل: مؤسسة قضايا المرأة المصرية، ومؤسسة المرأة الجديدة.
ووفقاً لورقة “مسار”، فرغم التعديلات التي جرت على قانون 151 لسنة 2020، فقد استُثنت جهات من الخضوع لأحكام القانون، منها وزارتا الداخلية والدفاع، من دون استثناء بعض أنواع البيانات التي تحوزها هذه الجهات؛ وهو ما يتعارض مع الحقوق الأساسية المنصوص عليها بالمادة 57 من الدستور المصري، التي تحمي حق الأفراد في الخصوصية.
View this post on Instagram
ضريبة الشاهدة التي نشرت “كل حاجة”
سمر الشوطة، شابة مصرية ثلاثينية، وجدت نفسها شاهدة على جريمة تعذيب وحشية لجارتها. صوّرتها عبر نافذتها، ونشرت الفيديو عبر فيسبوك. انقلب الرأي العام، وعُرفت الواقعة باسم “فتاة المقطم”. بعد دقائق ألقت الشرطة القبض على الجناة. لكن في المقابل، تلقت سمر تهديدات من عائلة الفتاة التي تعدت عليها، ما اضطرها إلى ترك منزلها خلسة في الليل إلى مسكن آخر.
“لو كان في طريقة أكثر أمانًا كنت بلّغت بنفسي”.
سمر هي إحدى الفتيات والنساء اللاتي تعرضن”لعنف تيسره التكنولوجيا”، واللاتي تخطت نسبتهن 50% على مستوى العالم، فوفقاً لتقرير الأمم المتحدة الصادر بمناسبة اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، في تشرين الأول/نوفمبر 2024، تراوحت نسبة انتشار هذا النوع من العنف في أوساط النساء ما بين 16% و58%.
أحجمت سمر عن طلب حماية الشرطة رسميًّا؛ لأن ذلك سيجر عليها تهديدات أخرى لاحتمال تسرب بياناتها الخاصة بعنوانها الجديد، إذ تقول: “لو كان في طريقة أكثر أمانًا كنت بلّغت بنفسي”.
تنتظر سمر وندى ونادية وأخريات تعديلاً للقانون، ليسمح لضحايا وناجيات العنف الرقمي بالإبلاغ من دون ثغرات تجرّ مشكلات أكبر تصل إلى تهديد حياتهن.